وائل قنديل


لو أن في مصر مؤسّسة تحترم نفسها، وتعرف قدر مصر وقيمتها التاريخية والحضارية، لفتحت تحقيقًا فوريًا في فضائح زيارة مفتي جمهورية مصر العربية إلى بريطانيا، وطالبت بمعاقبة كل الضالعين في هذه المهانة الحضارية التي أساءت لمصر أولًا، ولمقام مفتي البلاد ثانيًا، وللدبلوماسية المصرية ثالثًا.


زيارة المفتي، التي استغرقت أسبوعًا من السياحة في بلاد الإنكليز، بدأت بكذبةٍ، وتخللتها سلسلة من الأكاذيب، وانتهت بما هو عار حضاري وثقافي. الكذبة الأكبر أن المفتي شوقي علام توجه إلى بريطانيا بدعوة رسمية من مجلس العموم البريطاني، الذي نفى بدوره أن يكون قد وجّه الدعوة إلى المفتي. والحاصل، كما ذكرت، في مقال سابق، أن هناك إمكانية لأي شخص عادي أن يزور مجلس العموم، ويحضر بعض جلساته، مستمعًا أو مناقشًا. وبالتالي، الأدق هنا أن المفتي ذهب إلى مجلس العموم بناء على طلبه، أو بناء على جدول الرحلة التي نظّمها أفراد عاديون.


والحقيقة، كما يفهمها أي متابع، أنها لو كانت دعوة رسمية، فقد كان لا بد أن ينعقد البرلمان على مستوى من التمثيل يليق بحجم الضيف، وأن تحتفل وزارة الخارجية المصرية بالحدث وتُبرزه، كما تفعل يوميًا من خلال الصفحة الرسمية لها على "فيسبوك" و"تويتر"، والتي لا تترك شاردة أو واردة تقع في الخارج إلا وتنشر تفاصيلها بالصور.


يمكنك، في هذا الصدد، أن تراجع الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية المصرية على موقع فيسبوك، منذ الأسبوع الأول من مايو/ أيار الحالي، ستجد أخبارًا من كل عواصم الدنيا عن زيارات ولقاءات لمسؤولين وشخصيات مصرية أقل حجمًا وأهمية بكثير من منصب مفتي البلاد، ولن تجد سطرًا واحدًا عما يروّجه الإعلام المصاحب للمفتي عن "غزوة مجلس العموم البريطاني".


الشاهد هنا، أن هذه الزيارة بتفاصيلها المهينة كانت مخجلة للدبلوماسية المصرية ذاتها، فلم تبرزها أو تعقب عليها. على أن ما يدعو إلى الخجل أكثر، فيما خصّ زيارة المفتي مجلس العموم، هو ما ينشره الإعلام المطبّل له عن نجاحه في توزيع منشور مندّد بجماعة الإخوان المسلمين بين أروقة مجلس العموم، وتلك مهمة أو وظيفة يمكن أن يؤدّيها أي صبي فوق درّاجة بخارية، مكلف، بأجر، لتوزيع أوراق، كما يفعل موزّعو الصحف المجانية في محطات المترو في المساء.


من المفترض أن منصب مفتي الديار المصري أكبر وأعلى بكثير من تنفيذ مهام متناهية في الصغر، من قبيل توزيع التقارير الأمنية ضد معارضي السلطة. .. وما نفهمه أن منصب المفتي هو ثاني أعلى مرتبة دينية بعد مقام الإمام الأكبر شيخ الأزهر، ومن ثم حين يزور بريطانيا فالوضع الطبيعي أن يكون ذلك حدثًا كبيرًا بالنسبة للمؤسسات والهيئات البريطانية في لندن، ولك أن تتخيّل أن مفتي مصر لم يذهب لزيارة المسجد المركزي في العاصمة البريطانية التي أمضى بها أسبوعًا، تخلّلته صلاة جمعة، كان من المنطقي لو أن مقام منصب المفتي لا يزال بخير لهرول القائمون على المسجد إليه يرجونه أن يخطب فيه الجمعة، ويؤم المصلين ويفيدهم بعلمه.


لم يحدث شيء من ذلك، ولا نعلم هل جبن المفتي عن مقابلة جموع المصلّين في المسجد الذي يتسع لخمسة آلاف فرد، وخصوصًا بعد أن أعلن عمدة لندن، رسميا، أنه رفض مقابلة مفتي مصر نظرًا إلى سجله الممتلئ بتمرير عشرات من أحكام الإعدام ضد مصريين لم تجر محاكماتهم بشكل عادل ونزيه؟ أم أن إدارة المسجد لم تعر مفتي بلد الأزهر الشريف اهتمامًا، وهي التي تحتفل بزائرين أقل حجمًا وأهمية؟


تزيد الفضيحة فداحًة، حين تعلم أن فكرة بناء المسجد المركزي، الكبير في قلب العاصمة البريطانية، كانت تكريمًا للدولة المصرية في أربعينيات القرن الماضي، وردًا على مكرمة مصرية بمنح الحكومة البريطانية قطعة أرض لإنشاء كنيسة إنجيلية في القاهرة، والمعروفة بكنيسة قصر الدوبارة على أحد أطراف ميدان التحرير، والتي خصّصها الملك فاروق، فكان المقابل الذي قدّمه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل هو قطعة أرض تعادل المساحة نفسها تقريبًا، وفي مكانٍ مميز، بمنطقة ريجينس بارك، وتعادل قيمة حي غاردن سيتي بالقاهرة.


كان هذا المسجد يُزوّد بالأئمة والدعاة من وزارة الأوقاف المصرية، وتشارك الدولة المصرية في إدارته، حتى عصر حسني مبارك، حين انسحبت مصر وانكمشت وتقوقعت، بعيدًا عن معظم دوائرها وامتداداتها الحضارية والثقافية، فدخلت السعودية لتملأ الفراغ، وتصير تقريبًا مسؤولة عن شؤون المركز، ماليًا وإداريًا، فوصل الحال إلى وجود مفتي مصر في لندن، ولا يدعى إلى مسجدها المركزي.


لا يليق بمصر أن يفعل ذلك كله بمقام المفتي فيها، سواء كان واعيًا به، أو جرى استخدامه عن طريق أشخاصٍ أساءوا إليه، وأساءوا إلى صورة بلد كبير يلهو به صغار.


مرة أخرى، لو أن هناك من يحترم هذا البلد لطلب تحقيقًا فوريًا في مهزلة اللعب باسم المفتي وبه شخصيًا، على هذا النحو المخحل .. وأزعم أن أول من يجب عليه طلب التحقيق هو المفتي نفسه، كي لا يكون ضالعًا في كل تلك الأكاذيب. لكن شيئًا من ذلك لن يحدُث بالطبع، لأن الواقع ينطق بأن مصر تدار بالمنهج ذاته الذي أديرت به رحلة المفتي: كثير من الأكاذيب والأوهام.


نقلا عن: العربي الجديد