قطب العربي:


الربيع العربي هو أحدث المحطات الكبرى التي مرت بها المنطقة العربية في العصر الحديث سبقها محطة التحرر من الاستعمار، منذ منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم، ثم محطة المد القومي العربي، فمحطة الصحوة الإسلامية منذ السبعينيات.


لم يكن الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية مجرد هبة عابرة، حدثت خلال يوم أو عدة أيام (17 ديسمبر 2010 في تونس، أو 25 يناير2011 في مصر، أو11 فبراير2011 في اليمن، أو 17 فبراير 2011 في ليبيا، أو 15 مارس 2011 في سوريا، أو 19 ديسمبر 2018 في السودان، أو 22 فبراير 2019 في الجزائر… إلخ)، فقد كانت تلك الأيام هي فقط لحظة الانفجار بعد عقود من النضال الديمقراطي السلمي وأحيانا الخشن، راح ضحيته كثير من الشهداء والمعتقلين والمهجرين، ثم تجمعت ظروف محلية وإقليمية ودولية مواتية فأشعلت الشرارة في تلك الأيام.


مخطئ من يتصور -تحت شعور الهزيمة- أن الربيع العربي فشل بشكل كامل، وأنه كان من الأفضل للمنطقة أن لا يحدث بالأساس، لقد كانت لحظة انفجار شعبي حقيقية بعد كبت طال كثيرا، ولم يعد في قوس الصبر منزع، وقد أطاح الربيع برؤوس حكم لم تكن تتصور، ولم تكن غالبية شعوبها تتصور أنها ستترك السلطة إلا بالوفاة الطبيعية، وحتى في حالة الوفاة فإن الأمر كان سيقتصر على شخص المتوفى، وليس مجمل النظام، لكن ثورات الربيع أطاحت الرؤوس والعديد من أذرعها، وأحدثت -وهذا هو الأهم- نقلة كبرى في وعي الشعوب العربية بحقوقها وواجباتها وموقعها من العالم.


أثبتت ثورات الربيع للشعوب العربية أنها قادرة على تحرير إرادتها وفرض خياراتها واختيار حكامها، على عكس القناعة التي سيطرت لعقود طويلة من قبل وغذتها الأنظمة المستبدة أن التغيير مستحيل، وأن هذه الشعوب غير ناضجة، ولا تستحق الديمقراطية، وأن وظيفة الحكم هي حصرا للجيوش أو العروش، وليست للشعب.


من كان يصدق أن مصر -وهي أكبر دولة عربية، وقد ظلت في قبضة الحكم العسكري منذ عام 1952- يمكن أن يرأسها رئيس مدني، أستاذ جامعي، لم يأتِ حتى من الجهاز البيروقراطي الرسمي، بل جاء من جماعة مناهضة للسلطة الرسمية منذ مطلع خمسينيات القرن الفائت؟ وحتى قبل ذلك، ومن كان يصدق أن القذافي أو علي عبد الله صالح، أو زين العابدين بن علي يمكن أن يغادروا كراسي الحكم؟! لقد وصلت الظنون ربما لدى البعض أنهم ربما لن يموتوا أساسا! ألم نشاهد جميعا كيف حكم بوتفليقة الجزائر وهو فاقد للوعي؟ وكانت صورته تمثله في المؤتمرات واللقاءات العامة، والحاضرون يؤدون لها التحية، وكأن الرئيس يجلس أمامهم! ألم يمت بعض ملوك العرب، وظلت بلادهم تدار باسمهم حتى انتهت الأسر الحاكمة من حسم خلافاتها حول من يخلفهم في غياب كامل للشعب؟!


جيل جديد تفتّح وعيه بفضل الربيع العربي الذي لم يعمّر طويلا، لكنه حطم حواجز مادية ومعنوية كثيرة صنعتها النظم المستبدة، وظلت حاكمة لتصورات الشعوب عقودا من الزمن، وحين تعرضت الموجة الأولى للربيع للثورات المضادة كان الظن أن صفحة الربيع قد طويت أو أنها في طريقا للطي، فجاءت الموجة الثانية في السودان والجزائر وجزئيا في العراق ولبنان لتبدّد هذا الوهم.


تصاعد الحديث مجددا عن طي صفحة الربيع العربي مع موجة المصالحات الإقليمية بين الدول الداعمة والمناهضة لهذا الربيع.


القول إن هناك قرارا إقليميا بطي صفحة الربيع العربي قد يكون صحيحا، لكن هل سينجح أصحاب القرار في تنفيذ قرارهم؟ هذا هو السؤال المهم، والإجابة عنه بالنفي ببساطة لأن هذه الدول (التي توصف بأنها داعمة) لم تكن صاحبة قرار اندلاع الثورات حتى تتخذ قرارا بوقفها، فهذه ثورات شعوب جاءت بعد تراكم نضالي استمر عقودا ضد الاستبداد والقمع، ساعدها تطور وسائل الاتصالات، والتأثر بما يجري في العالم من تطورات، وترى هذه الشعوب أنها أهل للحرية والديمقراطية والكرامة مثل غيرها من الشعوب الحرة، بل تشعر شعوب المنطقة أنها تأخرت كثيرا في نيل حرياتها، وهذا ما تسبب في تأخرها الاقتصادي أيضا، وانتشار الفساد لدى حكوماتها، حيث لا توجد رقابة برلمانية قوية، ولا إعلام حر، ولا مجتمع مدني نشط  قادر على مواجهة الانحرافات والفساد.


حين دعمت بعض الدول ثورات الربيع العربي، فقد فعلت ذلك في ظل عنفوان تلك الثورات، وتمكن بعض قواها من الوصول للحكم، وحين تتغير الأوضاع مستقبلا في تلك الدول فإن السياسات الإقليمية ستتبدل مجددا، والخلاصة هنا أن النضال من أجل الديمقراطية والحرية هو حالة، بل حاجة شعبية محلية في كل دولة، وليس نتيجة فعل أو دعم خارجي، ولن تتوقف الشعوب عن تحركها لنيل حريتها حتى تحقق ذلك مهما كلفها من ثمن، ومهما طال الأمد، ولن تنسى دعم من دعمها أو خذلان من خذلها.


نقلا عن: الجزيرة مباشر