أُعيد انتخاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأغلبية مريحة نسبياً، لكن معركته مع زعيمة اليمين المتشدد، مارين لوبان، تسلّط الضوء على انقسام تعيشه فرنسا، أكثر من أي وقت مضى، إذ سجّلت لوبان أفضل نتيجة على الإطلاق لليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات، الأمر الذي دفع ماكرون، في خطابه الذي ألقاه بمناسبة انتصاره، إلى الإقرار بالحاجة الملحّة إلى توحيد البلاد.

وسلّطت وكالة "فرانس برس" الضوء على بعض الأسباب التي تُمْلي على الاحتفالات في قصر الإليزيه أن تكون أقل صخباً من عادتها.

مقاطعة مقلقة

وبلغت نسبة المشاركة 72% فقط، وبلغ الامتناع عن التصويت أعلى مستوى مقارنةً مع أي جولة ثانية من التصويت في فرنسا، منذ هزم جورج بومبيدو آلان بوهر عام 1969.

وفي مؤشر مقلق بالنسبة إلى ماكرون، توجّه 8.6% من الناخبين إلى مراكز الاقتراع من دون الإدلاء بأصواتهم لأيّ من المرشّحَين، إذ كانت 6.35% من بطاقات الاقتراع فارغة، و2.25% منها غير صالحة، وبالتالي ملغاة.

وفي جمعها، تعني هذه العوامل أنّ أكثر من ثلث الناخبين المسجلين في فرنسا لم يعبّروا عن خيار في هذه الانتخابات.

استقطاب

كشفت خريطة فرنسا بعد التصويت تفاوتات لافتة بين المناطق، إذ يحظى ماكرون، إلى حد كبير، بالتأييد في باريس والغرب وجنوبي غربي البلاد ووسطها، بينما تدعم المعاقل الصناعية في شمالي فرنسا والجنوب المطل على المتوسط لوبان.

ودعمت مراكز المدن الكبرى، والطبقات الوسطى والعليا، والمتقاعدون، ماكرون، بينما أيّدت الفئات الأقل دخلاً، في أغلبيتها، لوبان.

وأكد مدير الأبحاث في شركة "إبسوس فرنسا" للاستطلاعات، ماتيو غالار، أنّ "الانقسامات الأبرز قبل كل شيء جيلية واجتماعية"، مضيفاً أنّ "تقسيم البلاد على أساس معسكر حضري مؤيد لماكرون، وآخر ريفي يدعم لوبان، لا يتوافق تماماً مع الواقع".

انقسام بين الأجيال

بالنسبة إلى رئيس ما زال في الـ44 من عمره، ما زال ماكرون يكافح للتأثير في أوساط الناخبين الأصغر سناً، وما زال يعتمد على دعم كبار السن ليتمكن من الفوز.

وتُظهر أرقام "إبسوس" وشركة تحليل البيانات "سوبرا ستيريا" أنّ ماكرون حصل على 61% من أصوات الفئة العمرية 18-24 عاماً، في حين أنّ 41% من الأشخاص ضمن هذه الفئة لم يصوّتوا إطلاقاً.

وكان هامش فوزه ضئيلاً في أوساط البالغين من العمر بين 25 و34 عاماً، وأولئك البالغين ما بين 35 و49 عاماً، بينما تفوّقت لوبان عليه بفارق ضئيل في أوساط الفئة العمرية المتراوحة بين 50 و59 عاماً.

ولعل الفئة الوحيدة التي يمكن لماكرون الاعتماد على دعمها هي فئة المتقاعدين، إذ صوّت له 71% من البالغين 71 عاماً فما فوق.

وقال المحلل السياسي، جيروم جافر، لتلفزيون "إل سي إي": "لدينا فرنسا مسنّة، دعمت بصورة كبيرة إيمانويل ماكرون، وفرنسا أكثر شباباً اختار جزء من أبنائها عدم التصويت.. إنّه شرخ اجتماعي كبير".

 مناطق خسرها

لطالما عمد ماكرون إلى التركيز على مكانة فرنسا عالمياً، من خلال أقاليم ما وراء البحار التي تُعَدّ جزءاً لا يتجزأ من البلاد، وتعد في المجموع نحو ثلاثة ملايين نسمة، لكنّ أداءه كان ضعيفاً في المجمل خارج البر الرئيسي، إذ فشل في كسب الناخبين الذين دعموا ميلانشون في الجولة الأولى.

وحلّت لوبان بسهولة في المقدمة في جزر فرنسا الرئيسة في الكاريبي وغوادلوب ومارتينيك، كما في غويانا في أميركا الجنوبية، وجزيرتي المحيط الهندي، ريونيون ومايوت، ولا يمكن لماكرون إعلان فوزه إلّا في جزر في الهادئ، على غرار كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية.

ليست ليلة ابتهاج

فقد كتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية عن أمسية "فوز من دون انتصار" لماكرون، تميّزت بالنتيجة التاريخية لليمين المتطرّف، والخوف من جولة ثالثة سياسية واجتماعية. ولفتت الصحيفة إلى أن ابنة جان ماري لوبان، والتي حازت على 33.9% من أصوات الناخبين قبل 5 سنوات، قطعت للمرة الأولى حاجز الـ 40% في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت أمس الأحد.

ووصفت "لوموند" النتيجة بأنها دليل فشل لإيمانويل ماكرون الذي أكد عشية فوزه السابق بالرئاسة في 7 مايو 2017، أنه يريد التأكد من أن الفرنسيين "لم يعد لديهم أي سبب للتصويت لصالح المتطرفين". ونقلت عن وزير الاقتصاد برونو لومير قوله أمس، إن هذه الليلة ليست ليلة ابتهاج، لافتاً إلى أن هناك في الوقت عينه فرحة الفوز، والجدية في رؤية تقدّم مارين لوبان بين عامي 2017 و2022.

وفي السياق عينه، عنونت صحيفة "لو باريزيان" في مقال لها: "رئاسيات 2022: بعد انتخاب ماكرون، احتفال بلا ابتهاج"، متحدثة عن الأجواء في باريس بعد إعلان النتائج. وتلفت الصحيفة إلى أن ماكرون راقب بصمت ظهور صورته على الشاشة، مع فوزه على لوبان بنتيجة 58.55% من الأصوات. وتنقل عن أحد المدعوين إلى قصر الإليزيه قوله إن ماكرون لم يبالغ في ردة فعله، معتبراً أنه كان يفكّر في ما سيلي.

وتسجل الصحيفة العديد من الملاحظات على خطاب النصر لماكرون، فهو لم يتعدَّ الخمسة عشر دقيقة، وخلا من الشاعرية، وتحدث فيه عن إدراكه أن العديد من الناخبين صوّتوا ضد أفكار اليمين المتطرف، وفق الصحيفة، التي أشارت إلى أن الموسيقى التي صدحت احتفالاً بفوز ماكرون تلاشت بحلول الساعة العاشرة والنصف مساءً، ليبدأ الناشطون بمغادرة ساحة الشانزيليزيه، ولتنهي وسائل الإعلام تغطيتها.

اليمين المتطرّف "في القمة"

وفي تقرير آخر، سجلت "لو باريزيان" بضعة دروس يجب استخلاصها من نتائج الانتخابات الرئاسية، أبرزها أن اليمين المتطرف أصبح "في القمة"، مشيرة إلى أنه لم يحصل يوماً على هذه النتيجة الجيدة في الجولة الثانية من الانتخابات، بحصوله على 41.45% من الأصوات. واعتبرت الصحيفة أن مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان قطعت شوطاً كبيراً في هذه الحملة الرئاسية، فهي نجحت، وفق الصحيفة، في نزع الطابع الشيطاني عن نفسها، على الرغم من برنامجها الذي يعتبره الكثير من المتخصصين غير دستوري.

وأشارت إلى أن لوبان زادت من مجموعة أصواتها، والهزيمة غير المسبوقة التي لحقت باليمين الجمهوري في الجولة الأولى من الانتخابات، سمحت لها بالخروج من هذه الانتخابات أقوى بكثير.

وسجلت "لو باريزيان" كذلك ملاحظات على نتائج بعض المناطق، إذ حصلت لوبان على ما يقرب من 61% من الأصوات في كلّ من مارتينيك وغينيا الفرنسية، وحتّى تقريباً 70% في غوادالوب، وهذا أكثر بمرتين إلى ثلاث مرات مما حققته قبل 5 سنوات، عندما هزمها ماكرون. وفي هذا السياق، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة "أنتيل" جوستان دانيال، إن هذا التصويت هو قبل كلّ شيء تصويتاً ضد ماكرون، وليس لصالح مارين لوبان، وأفضل دليل على ذلك هي النتيجة المتقدمة التي حصل عليها مرشح اليسار الراديكالي للرئاسة في فرنسا جان لوك ميلانشون في الجولة الأولى.

لم تقدم نفسها كبديل

على الرغم من أن لوبن حققت نتيجة أفضل من تلك التي خرجت بها منذ خمسة أعوام (34%)، لكن فارق 8% لا يعبّر عن تقدم فعلي بالنسبة إلى اليمين المتطرف.

على الرغم من كل الجهد الذي بذلته لوبن خلال السنوات الماضية، لم تستطع أن تقدم نفسها كبديل جدي عن رئيس خرج منهكاً من ولايته الأولى.

من تظاهرات "السترات الصفر" وصولاً إلى أزمة وباء "كوفيد-19" مروراً بجميع المشاكل السياسية (استقالات وزارية عدة) والشخصية (زلات اللسان)، كان بإمكان أي منافس جدي يحمل طروحات بعيدة من "الغضب" أن يطيح حظوظ ماكرون.

حتى الحرب على أوكرانيا وانعكاساتها السلبية على مستوى المعيشة في فرنسا شكّلت منصّة مثالية لتعزيز حملة لوبن، لكن يبدو أن هنالك حدوداً لقدرة اليمين المتطرف (ومعه الأحزاب التقليدية) في إقناع الفرنسيين بقدرته على تشكيل بديل فعلي عن ماكرون.

إن نسبة الاقتراع المنخفضة (الأدنى منذ سنة 1969) أعطت صورة واضحة عن حجم الإحباط بين الفرنسيين. لكنّ الإحباط لم يتحول إلى رد فعل نحو أقصى اليمين.

أشار مراقبون كثر إلى أنّ فرنسا حذرة عادة من التغيير، وبشكل أعم هي تتفادى السياسات التي تحمل في طياتها مخاطر غير محسوبة. حتى في 2017، السنة التي شهدت ذروة صعود الشعبوية في الغرب، فضّل الفرنسيون الابتعاد عن هذه التجربة.

ودعا زعيم "حزب فرنسا غير الخاضعة"، جان لوك ميلانشون (يسار)، الأحد، الفرنسيين غير الراضين عن المنظومة إلى "عدم الاستسلام". وأشار إلى أنّه في "الـ 12 والـ 19 من يونيو، ستجري الانتخابات التشريعية، ويمكنك التغلب على ماكرون واختيار مسار آخر".