في تصعيد جديد؛ أعلنت، صباح الأربعاء 27 أبريل، شركة غازبروم الروسية وقف تصدير الغاز إلى بولندا وبلغاريا، أو عبر أراضيهما إلى دول أوروبية أخرى، ما يعني حرمان هذه الدول من أحد مصادر الطاقة المهمة، ويعيد طرح ملف بدائل أوروبا للاستغناء عن الغاز الروسي على الطاولة.

وقالت روسيا إن التحول إلى مدفوعات الروبل مقابل غازها بدلاً من اليورو أو الدولار جاء رداً على العقوبات الغربية ضد بنكها المركزي، والتي جمدت حوالي نصف احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية.

على الجانب الآخر، تعتمد أوروبا على روسيا في تأمين 40% من احتياجاتها من الغاز. فيما تحتكر شركة غازبروم إمدادات الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا.

وتعتمد بلغاريا على الغاز الروسي بنحو 90%، مقابل 45% في بولندا.

تبعات القرار

انخفض اليورو إلى أدنى مستوياته مقابل الدولار منذ أبريل 2017 وسط مخاوف المستثمرين بشأن النمو والتهديدات لإمدادات الطاقة من روسيا.

وتراجعت العملة الموحدة 0.2% إلى 1.0616 دولار، متجاوزة أدنى مستوى وصل إليه في الأسابيع الأولى لوباء فيروس كورونا في مارس 2020.

كما تشكل المدفوعات باليورو مقابل الغاز الروسي نحو 60% والباقي بالدولار.

فيما ارتفعت عقود الغاز الأوروبية بنحو 24% بعد القرار.

الغاز يختلف عن النفط

وجاءت خطوة موسكو في وقت كشفت فيه المصادر عن أن احتياطات الغاز المتاحة لبولندا لا تتجاوز 2.3 مليار متر مكعب وهو ما يضمن الاستهلاك لمدة شهر ونصف فحسب، أما بلغاريا فلا يتخطى المتاح لديها نصف هذه الكمية بما يضع الدولتين في مأزق.

ولعل هذا هو ما دفع رئيس الوزراء البولندي "ماتيوش مورافيتسكي" إلى اتهام روسيا بالسعي إلى "الإمبريالية" من خلال الغاز، ووصف ما يحدث بإشعال المزيد من "التضخم البوتيني" (نسبة إلى الرئيس الروسي بوتين)، بينما اتهمت أوروبا روسيا بابتزاز بولندا وبلغاريا وهو ما نفاه الكريملين.

ويمر الغاز الروسي عبر البلدين إلى 3 بلدان أخرى وهي المجر وصربيا وألمانيا والأخيرة تتمتع بأهمية استثنائية لأن 50% من الغاز الذي استهلكته في عام 2021 روسي المنشأ (مقابل 40% على المستوى الأوروبي بشكل عام) كما أن ألمانيا تشكل القوة الاقتصادية الأهم في أوروبا والحفاظ على استقرارها حيوي للقارة العجوز.

وكان وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني "روبرت هابيك" قد أعرب عن اعتقاده بأن فرض حظر على النفط الروسي أصبح "من الممكن تطبيقه"، مضيفًا أن بلاده نجحت في تقليص الاعتماد على النفط الروسي من 35% قبل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا إلى 12% وذلك في غضون ثمانية أسابيع.

ولكن "هابيك" نفسه أعرب عن اعتقاده بصعوبة القيام بالمثل في الغاز، مشيرًا إلى أن بلاده لن تستطيع التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي قبل مرور 5-10 سنوات على الأقل وذلك على الرغم من التعهدات الأمريكية بتوفير الغاز لأوروبا.

"شبح" الركود التضخمي

والشاهد أن ألمانيا هي الأكثر قلقًا من الخطوة الروسية، فالحرب الروسية الأوكرانية دفعت الخبراء لتقليل توقعاتهم لنمو ألمانيا في عام 2022 من 4.8% إلى 2.7% وسط تحذيرات من المزيد من التخفيض ما بقيت الحرب مستمرة.

إلا أن إيقاف روسيا التام للغاز من شأنه أن يحول الاقتصاد الألماني من خانة النمو إلى خانة الانكماش، وسط توقعات بانخفاض قد يصل إلى 5-6.5% إذا أوقفت روسيا ضخ الغاز تمامًا إلى أوروبا.

وذلك مع ملاحظة أن هذه التقديرات تأتي مع توقع تمكن ألمانيا من تعويض الغاز بالفحم والنفط وهو أمر مشكوك فيه مع استمرار معاناة القطاعين من أزمات في التوزيع (فضلًا عن تقليص ألمانيا نفسها لاستيرادها للنفط الروسي)، بما يعني أن الانكماش قد يكون أكثر شدة.

ويأتي ذلك مع معاناة الاقتصاد الأوروبي مرتفعًا عند مستوى 7.4 % ويجعل تأثير الغاز الروسي على الاقتصاد الأوروبي مزدوجا يدفعه لركود محتمل من جانب، كما أنه يزيد من الضغوط التضخمية على الاقتصاد من جانب آخر، بما يجعله "وصفة مثالية" لـ"الكابوس" الأسوأ لأي اقتصاد وهو الركود التضخمي (والذي تلوح بعض بوادره في الأفق بالفعل في الولايات المتحدة وقد يمتد لأوروبا بطبيعة الحال).

تهدئة للمخاوف.. ولكن

ولكي تهدئ من مخاوف الأسواق تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية "أورزولا فون دير لاين" بتوفير احتياجات بولندا وبلغاريا من الغاز عن طريق جيرانهما، وشددت على ضرورة عدم الدفع بالروبل بما يسهم في خرق العقوبات على روسيا ويجعلها غير ذات فائدة.

والأزمة أن هؤلاء الجيران بدأوا يتحايلون في واقع الأمر على العقوبات الأوروبية، ومن ذلك ما ذكره وزير الخارجية المجري "بيتر سيارتو" بأن بلاده "ابتكرت" حلاً للسداد باليورو لـ"جازبروم بنك" الذي سوف يحولها للروبل قبل أن يقوم بتحويل المال لـ"جازبروم" للغاز، وقبلت النمسا أيضًا بالمنهج نفسه.

والشاهد أن هذا الأمر يشكل خرقًا واضحًا في الحصار الغربي على روسيا، خاصة إذا كانت التصريحات الروسية حول قبول 10 دول أوروبية بتلك الآلية صحيحة، لأنها ستحقق رغبة روسيا بالالتفات على العقوبات الغربية وستدعم الاقتصاد الروسي بزيادة الطلب على العملة المحلية، بل وستضعف -ولو بقدر ضئيل- من هيمنة الدولار عالميًا.

ولا شك أن روسيا تبدو أهدأ أعصابًا من الناحية الاقتصادية حاليًا، بما سمح لها باتخاذ هذه الخطوة، ففي بدايات مارس الماضي كانت غالبية التحليلات والتقديرات الاقتصادية تتحدث عن انهيار الاقتصاد الروسي بانكماشه بنسبة 25% وفقد الروبل أكثر من 80% من قيمته، فضلًا عن العقوبات على الكثير من الكيانات الاقتصادية الروسية.

وعلى الرغم من استمرار آثار كبيرة وقوية للعقوبات، لا سيما مع تخارج الشركات الأجنبية من السوق الروسي وبالأخص النفطية وتراجع ثقة المستهلك وغيرها، إلا أن التوقعات تشير لتراجع في الناتج المحلي بنسبة 8-10% وليس 25% (تبقى نسبة كبيرة ولكنها أقل كثيرًا)، وعاد الروبل إلى نفس مستويات ما قبل الحرب وعوض خسائره.

وهنا يمكن القول إن روسيا تحولت إلى ما يعرف بـ"اقتصاد الحرب" الذي يشهد اقتطاع الكثير من الرفاهيات لحساب الأساسيات، بينما ما تزال أوروبا في سياق الاقتصاد العادي أو الطبيعي.

وعلى الرغم من خسائر الطرفين في تلك المواجهة إلا أن الأزمة دائمًا مع أوروبا كما وصفها الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" بأنها "خائفة على رفاهيتها"، وذلك في كتاب "1999 نصر بلا حرب" والذي صدر عام 1990، ويبدو أن هذا "الخوف على الرفاهية" هو رهان روسيا الرئيس في الضغط على أوروبا لفك الحصار الاقتصادي.