رُوِيَ عن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنَّه كان ينادي في آخرِ ليلةٍ من رمضان ويقول: يا ليتَ شعري! من المقبولُ فنهنَّيه؟ ومن المحرومُ فنعزَّيه؟

وكان عبد الله بنُ مسعودِ (رضي الله عنه) يقول: يا أيها المقبولُ هنيئًا لك، ويا أيها المردودُ جَبَرَ اللهُ مصيبتَك! (لطائف المعارف: 377).

أحقًا انقضى رمضان؟!     

أَذَهبَ ظَمَأُ الصِّيامِ وانطفأَ نورُ القيام؟!

أَذَهَبَ رمضانُ وغابَ هلالُهُ؟!

هل قُوِّضتْ خِيامُه وتقطَّعتْ أوتادُه؟!

اسمـعْ أنينَ العاشقين     إنِ استطعتَ له سَماعا

راحَ الحبيبُ فَشَيَّعَـتْهُ      مَـدامعي تَهْمِي سِراعا

لو كُلِّف الجبلُ الأصمُّ     فِراقَ إِلْفٍ ما استطاعا

نعم.. رحل رمضان بأيامه ولياليه، ولكنه لم يرحل بأعماله وطاعاته.. رحل رمضان بغياب هلال وظهور هلال، ولكنه استقر في القلوب بمحبة ذي الجلال.

إن رمضان لم يرحل؛ لأن العمل الصالح لن يرحل؛ فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى وراح، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

والمؤمن الحق يعرف أن العمل لا يتوقف إلا بانقطاع الأجل، وإذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ العمل إلا من ثلاث كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "صَدقةٍ جارية، أو عِلمٍ ينتفع به، أوْ ولدٍ صالحٍ يَدْعو له" (رواه مسلمٌ)، فابْقِ لكَ أَثَرًا صَالِحًا قَبْلَ الرَّحِيْل.

أي شـهر قـد تولّـى     يا عبـاد اللـه عنـا

حُـقَّ أن نبكي عليـه     بدمــاء لـو عقلنـا

ثـم لا نعلــم أنــا     قـد قُبِلنـا أم حُرِمنـا

ليت شـعري مـن هو     المحروم والمطرود منا

كيف لا نبكـي لشـهر     مـرَّ بالغفلـة عنــا

قيل لِبِشْرِ الحَافِي (رحمه الله): "إنَّ قَومًا يَتعبَّدون ويجتَهِدُون في رمضان؟ فقال: بِئْسَ القومُ قومٌ لا يَعرفُونَ اللهِ حَقًا إلَّا في شَهْرِ رَمَضَان، إنَّ الصَّالحَ هو الذي يَتَعَبَّدُ ويَجْتَهِدُ السَّنَة كلَّها".

وسُئِلَ الشِّبْلِيُّ (رحمه الله): "أيُّهما أفضلُ: رَجبٌ أو شَعْبَان؟ فقال: كُنْ ربَّانِيًا ولا تَكُنْ شَعَبَانِيًا".

وقال الحسنُ البصريُ (رحمه الله): " أيْ قوم، المداومَةَ المداومة، فإنَّ اللهَ لَمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلًا دُونَ الموت" (ابن المبارك، كتاب الزهد: 7).

"فاشترِ نفسَكَ اليوم؛ فإنَّ السوقَ قائمةٌ، والثمنَ موجودٌ، والبضائعَ رخيصةٌ، وسيأتي على السوقِ والبضائعِ يومٌ لا تصلُ فيه إلى قليلٍ ولا إلى كثير" (ابن قيم الجوزية، الفوائد: 49).

ترحَّلَ الشَّهرُ – وَا لَهْفَاهُ – وانصَرَمَا      واختُصَّ بالفوزِ في الجنَّاتِ من خَدَمَا

وأصبحَ الغَافِـلُ المـسكينُ منكسـرًا      مثلي! فيَا وَيحَهُ يا عُظمَ مَا حُـرِمَا!

من فاتـَهُ الزَّرعُ في وقتِ البَذَارِ فَمَا      تـراهُ يحصـُدُ إلاَّ الهـمَّ والنَّدَمَــا

طُوبـى لِمَن كانتِ التَّقوى بضاعتَـه      فـي شـهرِهِ وبحبـلِ اللـهِ مُعتَصِمَا

إن المسلم الواعي يجتهد في طاعة ربه في كل الأوقات، فهو عبد الله في رمضان، وعبد الله في غير رمضان، وهو لربه تعالى في كل أوقاته: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" (الأنعام: 163).

وقد أمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) - وأمره له أمر لأمته - أن يستمر في عبادته حتى يلقاه، فقال تعالى: " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" (الحجر: 98 - 99).

يذكر عن صحابيين جاء أحدهما الموت فقال له الآخر: أوصني، قال: ألم يأتك اليقين؟ فقال: بلى وعزة ربي، قال: فإياك والتلوّن فإن دين الله واحد.

وإذا كنا نتقرب إلى الله تعالى في ليالي رمضان بقيام الليل، فقيام الليل لا ينقطع بخروج شهر رمضان، بل هو مما داوم عليه رسولنا (صلى الله عليه وسلم) وصحابته وعباد الله الصالحون في كل الأزمان والأمكنة.

قال تعالى: "والذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا" (الفرقان: 64).

وقال تعالى: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون" (السجدة: 16).

وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد" (رواه الترمذي وأحمد)، وقس على ذلك في بقية العبادات والطاعات.

وقد كان سلفنا الصالح (رضوان الله عليهم) يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، كما وصف الله عباده المؤمنين بأنهم: "يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" (المؤمنون: 60).

فهل شغلك أخي الصائم هذا الهاجس وأنت تودع شهرك؟ يقول الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): " كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز وجل: "إنما يتقبل الله من المتقين" (المائدة: 27).

وإذا كنا نودع رمضان وفي القلب غصة، وفي العين دمعة، إلا أنه يجب أن يكون في النفس رجاء بأن نكون من عواده:

وَدَاعًـا حَلِيْفَ الدُّعَـا وَالْقُنُوْتِ     وَشَهْرَ الْقِيَـامِ وَنَفْـحِ السَّحَرْ

فَدَمْعِي عَلَى الْخَـدِّ مُسْتَرْسِـلٌ     وَمِنْ أَجْلِ بُعْدِكَ قَلْـبِي انْفَطَرْ

فَهَلْ نَلْتَقِـيْ يَا حَلِيْفَ الصَّلاحِ      وَهَلْ عَـوْدَةٌ أَمْ سَيَأْبَـى الْقَدَرْ؟

وَهَـلْ رَجْعَةٌ لِلَّيَالِـي الْمِـلاحِ     وَنَـقْـرَأُ فِـيْ مُنْتَدَاكَ السُّوَرْ؟

وَنَدْعُـو الإِلَـهَ بِقَلْبٍ خَشُـوْعٍ     تَسَرْبَـلَ بِالذَّنْبِ حَتَّى اسْتَتَـرْ

لَيَالِيْكَ بِالنُّـوْرِ قَـدْ أَشْرَقَـتْ      نَهَـارُكَ يَـزْهُـوْ بِوَجْـهٍ أَغَرْ

إِلـهـِيْ فَـإِنِّـيْ أُوَدِّعُ خِـلًا      بِدَمْعٍ غَزِيـرٍ يُضَاهِـي الْمَطَرْ

فَجُـدْ لِي بِعَفْـوٍ فَأَنْتَ كَـرِيْمٌ      وَتَعْلَـمُ يَـا رَبِّ ضَعْفَ الْبَشَرْ