ممدوح الولي


منذ النصف الثاني من العام الماضي حتى الآن يعاني الاقتصاد المصري من نقص حاد في العملات الأجنبية، تمثلت مظاهره في تحول صافي الأصول والخصوم الأجنبية بالبنوك التجارية إلى سالب لمدة سبعة أشهر متتالية، أي من يوليو الماضي وحتى يناير من العام الحالي بحسب آخر بيانات مُعلنة من البنك المركزي المصري.


وقام بعض البنوك بالاقتراض من بنوك إقليمية ودولية لتغطية ذلك العجز، لكن تلك القروض لم تف باحتياجات التمويل المطلوبة للواردات المصرية، فقامت عدة جهات حكومية منها البنك المركزي ووزارة التجارة ووزارة المالية بإجراءات لتقليل تلك الواردات، لتخفيف الضغط على سعر الصرف، لكن قيمة الواردات قفزت خلال العام الماضي إلى 83.5 مليار دولار وهو رقم غير مسبوق تاريخيًّا.


ويعبر هذا الرقم عن البيانات الرسمية للمنافذ الجمركية فقط، ولا يتضمن قيمة التلاعب بالفواتير لخفض القيمة لتقليل الرسوم الجمركية المدفوعة، كما لا يتضمن قيمة عمليات تهريب السلع خارج المنافذ الجمركية، ولا يتضمن الواردات غير المشروعة مثل المخدرات والسلاح ونحو ذلك، مما يعني حاجة استهلاك الواردات بأنواعها الرسمية وغير الرسمية إلى كمّ ضخم من الدولارات.


وحاولت الحكومة سدّ النقص في العملات الأجنبية من خلال المزيد من الاقتراض وبيع أدوات الدين الحكومية من أذون وسندات خزانة للأجانب للحصول على الدولار، ولو في شكل أموال ساخنة يمكنها الخروج سريعا في أي وقت، وكذلك محاولة طرح سندات جديدة دولارية بالأسواق الخارجية، لكن تلك المحاولات اصطدمت بمطالب المستثمرين بالخارج، بخفض سعر الجنيه المصري حيث كانوا يرون أنه مقوّم بأعلى من قيمته الحقيقية بحوالي 15%.


وجاءت أنباء توجه بنك الاحتياط الأمريكي لرفع سعر الفائدة، فدفعت قدرا من مشتريات الأجانب بأدوات الدين المصري إلى الخروج من مصر، مما زاد من مشكلة نقص الدولار، ثم كانت حرب روسيا وأوكرانيا وخروج قدر آخر أكبر من تلك الأموال الساخنة الدولارية من مصر، وجاء الرفع الأول للفائدة الأمريكية ليدفع المستثمرين بالخارج لطلب إضافي بزيادة سعر الفائدة المصرية، إلى جانب الطلب الأول الخاص بخفض سعر صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي.


وخروجا من مأزق نقص مشتريات الأجانب من أدوات الدين المصري إلى حوالي النصف، لجأت مصر إلى صندوق النقد الدولي لطلب قرض جديد بمبرر تداعيات حرب روسيا وأوكرانيا، وأثرها على زيادة قيمة استيراد الحبوب وزيادة سعر النفط وتكلفة شحن الواردات وتراجع الإيرادات السياحية، لكن الصندوق كان حاسما في مطالبه، حيث ربط الاستجابة لطلب القرض الجديد بتنفيذ مطالبه المتمثلة في خفض سعر صرف الجنيه، الذي ثبته البنك المركزي المصري طوال السنوات الثلاث الماضية.


ورفع سعر الفائدة أكثر من مرة للتواؤم مع الزيادات التي قرر الفيدرالي الأمريكي اتخاذها خلال العام الحالي، إلى جانب الاستجابة لمطالبه السابقة ومنها إعطاء دفعة لبرنامج خصخصة الشركات الحكومية، وخفض دعم السلع والوقود، وخفض عدد الموظفين بالحكومة وغير ذلك.


ومع زيادة حدة نقص النقد الأجنبي لم تجد الحكومة أمامها سوى الاستجابة لمطالب الصندوق، فقامت بخفض سعر صرف الجنيه تجاه العملات الأجنبية بنفس النسبة التي طلبها المستثمرون الأجانب تقريبا، كما قامت بزيادة سعر الفائدة بنسبة 1% ليكون ذلك بداية لرفع آخر للفائدة.


وقامت برفع سعر أسطوانات البوتاغاز المنزلية والتجارية والبوتاغاز المخصّص للشركات، كما أعلنت عن بيع بعض الأصول لصندوق أبوظبي السيادي، إلى جانب توجهها لطرح حصص أخرى من شركات حكومية للبيع خلال الشهور المقبلة.


وبمجرد إعلان خفض سعر صرف الجنيه ورفع سعر الفائدة، أعلنت الحكومة عن طرح سندات بالينّ الياباني كانت قد أعلنت عنها سابقا، لتنويع مصادر الاقتراض من خلال السندات حيث تركت إصداراتها السابقة من السندات الخارجية من السندات على الأسواق الأوربية، مع تجهيزها لإصدار سندات دولارية قبل نهاية العام المالي الحالي بنهاية يونيو القادم، واستمرار دراستها لإمكانية طرح سندات خارجية باليوان الصيني.


ولم تكتف الحكومة باللجوء للصندوق أو لأسواق السندات الدولية أو لبيع أدوات الدين الحكومي المصري أو باللجوء للبنوك الإقليمية خاصة الأوربية، بل واكب ذلك اللجوء إلى الدول الخليجية: السعودية والإمارات والكويت، بزيارات رئاسية لها لطلب قروض جديدة لم يتم الإعلان عن حجمها بعد.


لكن علامات الدفء بالعلاقات مع تلك الدول تشير إلى استجابتها للمطلب المصري، خاصة أن ظروف ارتفاع سعر النفط الحالية يساعدها على ذلك، فضلا عن حرصها على عدم فشل النظام المصري، حيث إن تبعات ذلك سوف تلحقها سياسيا وعسكريا في حرب اليمن.


وهكذا أصبحت القروض هي الخيار الأسهل لدى الحكومة المصرية، بصرف النظر عن القدرة على سداد أقساط وفوائد تلك القروض التي ارتفعت قيمتها، حيث اعتادت المزيد من الاقتراض لسد العجز المزمن بميزان المعاملات الجارية، وكذلك لسد أقساط وفوائد القروض الخارجية السابقة، وسداد تكلفة استيراد الاحتياجات من السلع الأساسية مثل القمح والذرة وزيت الطعام والنفط، التي تزايدت قيمتها مع موجة التضخم التي عمت العالم خلال العام الماضي واستمرّت حتى الآن نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.


الأمر الذي يعني أن ما كان يقال في وسائل الإعلام الحكومية عن قوة الجنيه وأنه حقق أفضل أداء بين العملات بالعالم عام 2020، كان وهمًا وأمرًا مصطنعًا نتيجة تدخل البنك المركزي المصري في تحديد سعر الصرف، وهو أمر ما زال مستمرا حتى الآن.


فعندما استجاب البنك المركزي مضطرًّا لخفض قيمة الجنيه -الذي أسماه محافظ البنك المركزي تصحيحًا- كان أسلوب التنفيذ فجًّا في إعلان سعر موحّد بين البنك الأهلي وبنك مصر -وهما أكبر بنكين مملوكين للحكومة بالسوق- والسماح بفرق قرشين فقط في السعر بباقي البنوك الخاصة، بحيث يكتفي من يريد معرفة السعر بالاطلاع عليه في أحدها، إذن فهو تعويم مُدار وصندوق النقد الدولي يتجاهل ذلك طالما أن الدول الكبرى صاحبة الغالبية في التصويت به راضية عن النظام السياسي المصري.


أما أسعار الصرف بشركات الصرافة فكل شركة مربوطة بسعر أحد البنوك وبالتالي فأسعارها معروفة أصلا، بعد أن ظلت لسنوات طويلة تحدد أسعارها بنفسها، أما الآن ففي كل فرع لأي شركة يوجد مندوب من البنك المركزي يتابع العمل، وأي بائع للعملة ولو كانت بقيمة مائة دولار يتم أخذ بياناته وتصوير بطاقته الشخصية!


وهكذا علينا أن نتوقع أن يتكرر المشهد خلال الفترة القادمة التي قد تكون عامين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل، أزمة نقص عملة وطلب للاقتراض، يشترط فيه المقرضون خفضا جديدا للعملة، وتتم الاستجابة له من قبل السلطات النقدية.


نقول ذلك لأن نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية منخفضة، والواردات مستمرة في الزيادة مهما تم التشديد عليها، حيث ذكر وزير المالية مؤخرا أنه تم رفض ألفي طلب استيراد من خلال نظام التسجيل المسبق للشحنات رغم حداثة تنفيذه، وكذلك عدم السعي الجاد لزيادة الإنتاج المحلي من الحبوب.


حيث نشرت إحدى الصحف الاقتصادية مؤخرا أن مجمل المساحة التي تمت زراعتها قمحًا بمشروع مليون ونصف فدان، بلغت خلال الموسم الحالي ألف فدان فقط، وأن هناك مساعي من قبل شركة الريف المصري المالكة للمشروع لزيادة المساحة المزروعة قمحًا، بالموسم القادم الذي يبدأ بشهر نوفمبر المقبل إلى عشرة آلاف فدان!


نقلا عن: الجزيرة مباشر