فراس أبو هلال:


لا يختلف اثنان من المحللين والخبراء في أن العالم بعد حرب أوكرانيا هو غير العالم قبلها، وإن كان هناك اختلاف كبير في تقدير طبيعة هذا العالم بعد الحرب. ثمة احتمالات بتوسع الحرب لتجر حروبا أخرى قد تتطور لحرب عالمية، فيما يرى البعض أن أهم تغيير قادم هو ولادة عالم متعدد الأقطاب بعد عقود ثلاثة من سيطرة القطب الأمريكي/ الغربي على العالم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي.


لكن، هل ستطالنا الحروب المتوقعة، نحن في الوطن العربي؟


ليس من المحتمل -حتى الآن على الأقل- انتقال الحروب العسكرية لمنطقة الشرق الأوسط، إلا في حال حدوث انزلاق يتجاوز ما تخططه الدول الفاعلة كما يحدث أحيانا في الحروب، ولكن حروبا أخرى باردة ستشهدها المنطقة بدون شك، كنتيجة لتفاعلات الحرب القائمة اليوم في أوكرانيا. وهذه أهم ملامحها:


أولا: سيكتسب نفط الشرق الأوسط أهمية مضاعفة عن وضعه الحالي؛ لأن الغرب اكتشف أن أمن الطاقة لديه ساقط استراتيجيا باعتماده الاستيراد من روسيا. سيسعى الغرب لأن ينهي ما أسماه رئيس الوزراء البريطاني بإدمان النفط والغاز الروسي، أولا لخنق روسيا اقتصاديا، وثانيا لوقف اعتماد الغرب عليها في هذه السلعة الاستراتيجية. هذه السياسة ستزيد من أهمية النفط العربي والإيراني، ما يعني أن الغرب سيحتاج لمعادلات جديدة للتعامل في المنطقة. إحدى هذه المعادلات هي أن الاتفاق مع إيران لم يعد مجرد خيار بالنسبة للغرب، بل هو حاجة ماسة وهو ما سيدفع العلاقات الخليجية-الأمريكية لنوع من التأزيم، وسيؤجج الصراعات الخليجية مع إيران ووكلائها، ما يهدد بمزيد من عدم الاستقرار.


تحتاج إيران ودول الخليج أن تصل إلى تفاهمات إقليمية، لمواجهة التلاعب الأمريكي بالطرفين الذي بدأ منذ اكتشاف النفط وتأسيس دولة ما بعد الاستعمار.


ثانيا: في إطار ارتفاع أهمية النفط العربي ستنهي الولايات المتحدة السياسة التي بدأها أوباما واستمرت مع ترامب -ولو بتعبيرات مختلفة- وهي سياسة تقليل الانغماس المباشر في الشرق الأوسط. لن تكتفي الولايات المتحدة بإدارة الصراعات في المنطقة عن بعد عبر وكلائها أو حتى خصومها كما كان يحصل منذ عام 2010، بل ستعود للتدخل المباشر. عودة أمريكا المكثفة للمنطقة ستؤدي إلى صراعات باردة -قد تتطور لحروب- في ظل دخول روسيا للمنطقة عبر البوابة السورية والإيرانية والليبية. إذا لم تتغير السياسة الخارجية والداخلية في الدول العربية الرئيسية فإن هذا سيؤدي لمشكلات كبيرة، لأن هذه الدول ستكون مضطرة لشراء المزيد من السلاح بدلا من التنمية البشرية، وربما ستغريها أسعار البترول المرتفعة بالامتناع عن تنويع أكبر للدخل القومي، وقد تصبح بعض الدول العربية وقودا للصراعات الأمريكية أثناء سعيها لاستعادة سيطرتها الشاملة على المنطقة.


الموقف العربي الأكثر نجاعة هو عدم الانحياز لأي طرف في هذا الصراع المحتمل.


ثالثا: ستسعى الولايات المتحدة للعودة لطبيعة العلاقات السابقة مع الدول الخليجية من حيث التبعية الكاملة وليس التحالف. لن تقبل واشنطن بدول مستقلة نسبيا بقراراتها، بينما تمتلك ثلاث منها (السعودية والإمارات والكويت) أكثر من 30 في المئة من المخزون العالمي من النفط. يمثل الموقف السعودي والإماراتي الرافض لزيادة إمدادات النفط خلال الحرب لوقف ارتفاع الأسعار جرس إنذار لواشنطن، وهذا سيدفعها لإعادة صياغة العلاقات بينها وبين دول الخليج؛ إما عبر الضغط أو الإغراءات. التوجس الأمريكي من السلوك الخليجي خلال الحرب سيؤدي إلى صراعات باردة مستقبلا ومحاولات أمريكية لتوريط دول الخليج في حروب لا علاقة لها بها، وستحتاج هذه الدول لتغيير جذري في سياساتها الداخلية والخارجية لمواجهة الضغط الأمريكي القادم لا محالة.


رابعا: لم تبد الولايات المتحدة رفضا معلنا للمواقف التركية تجاه الحرب، والأمر ذاته ينطبق على روسيا. أدت السياسات الأمريكية خلال العقد الماضي لدفع تركيا نحو روسيا، وهو ما أدى إلى تشكل علاقات -خاصة- بين الطرفين لا يمكن لتركيا التخلي عنها. بني الموقف التركي خلال الحرب على فهم هذه العلاقة الخاصة مع روسيا من جهة، وفهم تردد أوروبا والناتو في التعامل مع أنقرة كحليف حقيقي من جهة أخرى. رغم اتخاذ تركيا بعض الإجراءات لصالح أوكرانيا (بيع طائرات بيرقدار، وتفعيل اتفاقية مونترو) إلا أن هذه الخطوات لن تكون كافية لواشنطن، خصوصا بعد أن تهدأ الحرب. ستسعى الولايات المتحدة للضغط أكثر على تركيا لإبعادها عن روسيا، وربما تقدم لها تنازلات في ملفي الاتحاد الأوروبي وطائرات إف 35، ولكن تركيا قد تكون مترددة في التخلي عن حليف فعلي (روسيا) مقابل حليف حقيقي محتمل (الناتو وأوروبا).


تحتاج تركيا لسلة من العلاقات لمواجهة الضغط/ الإغراءات الأمريكية، وهذا يلتقي مع حاجة الدول الخليجية ومصر أيضا لمثل هذه العلاقات. ربما يكون التصعيد في الشرق الأوسط بعد حرب أوكرانيا فرصة لصفحة جديدة حقيقية بين تركيا ودول المنطقة العربية.


نقلا عن: عربي 21