قطب العربي


دخلت الحرب الأوكرانية أسبوعها الثالث، وهي مرشحة للاستمرار لأسابيع وربما لشهور مقبلة، حتى لو نجحت روسيا في احتلال العاصمة كييف. 


راهنت روسيا -عند انطلاق عملياتها العسكرية- على عنصر المفاجأة لتحقيق انتصار سريع يسمح لها بفرض شروطها، وصياغة نظام عالمي جديد تصبح فيه قوة عظمى كما كانت وقت الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفيتي، وراهنت الولايات المتحدة والغرب عمومًا على عنصر الوقت لاستنزاف روسيا، وإخراجها من المعركة عارية تلعق جراحها. 


لا يمكننا التكهن على كل حال بمآلات الحرب، فهي بين قوى نووية كبرى، قادرة على إفناء بعضها بل إفناء البشرية كلها حين تشعر بخطر وجودي، على حد قول بوتين “ما قيمة العالم من دون روسيا؟” .


نهاية الحرب لن تخرج عن واحد من هذه الاحتمالات، إما أن تكسب روسيا ومعها رهانها السياسي طويل المدى، وإما أن تخسر، وبالتالي يكسب الغرب برهانه على العقوبات الاقتصادية وحرب الاستنزاف الطويلة، وإما أن تحدث تسوية تحقق مكاسب للمعسكرين وتجنبهما حربًا نووية، أو تنتهي الحرب بخسائر كبيرة للمعسكرين أيضًا.


تأثر منطقتنا العربية بالحرب لم ينتظر انتهاءها، أو حسمها لصالح طرف بعينه، بل بدأ مع الأرتال الأولى للغزو الروسي، حيث ارتفعت أسعار الطاقة عالميًّا، وحلّق النفط ملامسًا 140 دولارًا للبرميل، ولا يزال -ومعه الغاز- قابلين للزيادة، وهنا ستتضرر بشدة الدول المستهلكة بينما ستستفيد البلدان المنتجة وعلى رأسها الدول الخليجية.


أما مصر فإنها ستستفيد من زيادة أسعار الغاز الذي تمتلك فائضًا منه، في حين ستكون أضرار ارتفاع النفط عليها (كدولة) قليلة بحكم إنتاجها الذي يكفي غالبية استهلاكها (وفقًا لتقرير من مجلس الوزراء صدر في مارس من العام الماضي، فإن مصر ستحقق الاكتفاء الذاتي من المنتجات البترولية -البنزين والسولار- عام 2023، وذلك بعد النجاح في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز في عام 2018) لكن الشعب المصري سيدفع مجددًا فاتورة ارتفاع النفط عالميًّا بعد ان اعتمدت الدولة آلية لتسعير المنتجات البترولية وفقًا للأسعار العالمية.


كما أن مصر -وعددًا من الدول العربية- تعتمد بشدة على روسيا وأوكرانيا في واردات القمح، وقد بدأت التأثر سريعًا بارتفاع سعره في حدود 50%، وارتفعت على الفور أسعار الخبز (غير المدعوم في مصر) بنسبة 50% خلال الأيام القليلة الماضية، ولم يقتصر الارتفاع على الخبز بل شمل أيضا الزيوت والبقوليات والخضروات وحتى الأجهزة الكهربائية!! وهربت من مصر 3 مليارات دولار خلال الأيام القليلة الماضية، ومن المتوقع حدوث تعويم جديد للجنيه المصري، كما تراجعت قيمة الليرة التركية على وقع العمليات العسكرية وحلقت الأسعار مجددًا في الأسواق، وهو ما تكرر في العديد من أسواق الدول العربية والإسلامية تأثرًا بالحرب.


لنفكر الآن في الخسائر والمكاسب حال انتصار روسيا عسكريًّا، وصمودها في وجه العقوبات، سينشأ بالتأكيد توازن قوى دولي جديد ينهي هيمنة الولايات المتحدة، خاصة أنه سيفتح الباب أيضًا للصين لغزو تايوان، ويعيد أجواء الحرب الباردة، ويسمح للدول العربية بهامش للمناورة، كما أن ذلك الانتصار الافتراضي سيوقف الدعم الغربي للأنظمة المستبدة العربية، ولكنها ستبحث عن البديل لدى روسيا التي قد لا تكون مؤهلة لذلك بقدر كاف.


وفي المقابل، فإن هزيمة روسيا ستعني هزيمة لنظام الأسد في سوريا، ولمشروع حفتر في ليبيا، بل هزيمة معنوية لكل النظم المستبدة التي تتلقى دعمًا روسيًّا ماديًّا أو معنويًّا، لكن هذه الهزيمة التي ستعني انتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة ستعني أيضًا تكريسًا للهيمنة الأمريكية عالميًّا، بما يعنيه ذلك من تمدد المشروع الصهيوني، ومسارعة النظم المستبدة إلى الارتماء في أحضان واشنطن، التي قد تغيّر موقفها في ضوء نتائج الاستبداد الروسي وداعميه من باقي الأنظمة المستبدة، وهو ما قد يعني وجود فرصة لقوى التغيير والديمقراطية.


مع تصاعد عروض الوساطة الدولية -التي كان منها الهند والصين وإسرائيل، وأخيرًا تركيا التي نجحت في ترتيب لقاء مباشر لوزيري خارجية روسيا وأوكرانيا بمشاركة نظيرهما التركي في مدينة أنطاليا يوم غد الخميس 10 مارس - فإن هناك احتمالات وإن كانت ضعيفة حتى الآن في تحقيق تسوية سياسية تنهي الحرب بين المعسكرين المتطاحنين، تحقق لكل منهما حدًّا أدنى من المكاسب التي تحفظ ماء الوجه، كأن تحصل روسيا على ضمانات لأمنها بينها عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاعتراف الدولي بالمقاطعتين المستقلتين (دونيتسك ولوغانسك) على أن تنسحب من الأراضي الأخرى التي احتلتها في أوكرانيا وتتعهد بضمان أمنها وسلامها، كما تتعهد للغرب بعدم تهديد أمن دوله الأخرى، فإن ذلك سيعني تأكيدًا للدور الدولي البازغ لروسيا مع استمرار دور الغرب أيضًا، وسيمنح ذلك للدول الأخرى هامشًا للمناورة واللعب على تناقضات القطبين، وستعطي أي وساطة ناجحة دورًا أكبر لدولتها مستقبلًا.


أما في حال استمرار الحرب لفترة طويلة، مع ما يعنيه ذلك من استنزاف عسكري واقتصادي لكلا المعسكرين، حتى وإن نالت روسيا النصيب الأكبر، فإن ذلك سيعني إضعاف دور المعسكرين في السياسة الدولية، وربما يسمح بدور أكبر للقوى الصاعدة في آسيا (الصين والهند وتركيا وحتى إيران)، كما سيعني انشغال تلك القوى الكبرى الجريحة بتضميد جراحاتها، والانكفاء على نفسها، وهو ما يعني انكشاف ظهر الحكومات الاستبدادية العربية المدعومة منها، وأن هذه الحكومات ستكون منفردة في مواجهة شعوبها التي ستشعر مجددًا بقدرتها على التغيير، طالما اقتصرت معركتها على مواجهة أنظمتها دون دعم دولي لها، وستسمح هذه الأجواء بولادة حكومات ديمقراطية منتخبة، كما ستوقف الانزلاق في بئر التطبيع مع الكيان الصهيوني أو التماهي مع مشروعه. وعلى كل حال، فإن هذا السيناريو هو المرغوب بالنسبة لنا، لكنه ليس بالضرورة السيناريو الراجح.


نقلا عن: الجزيرة مباشر