وائل قنديل:


كلما أصابت كارثةٌ شعبًا من شعوب الأرض، يسارع الجنرال إلى الإمساك بأقرب ميكروفون، ويدخل في وصلة طويلة من المنّ على الشعب، الجاحد، بأنه لم يلحق به ما لحق بشعب أوكرانيا، وقبل ذلك بشعبي سورية والعراق، ولا ينتهي من الكلام إلا وقد صدرت قراراتٌ اقتصاديةٌ تبتز الجماهير برفع سعر سلعة من السلع، الخبز مرّة والوقود والسجائر مرّات كثيرة.


بينما الناس يركضون خلف أنباء الجحيم المندلع في أوكرانيا، وفيما الأنفاس محتبسةٌ خيفة ورعبًا من قفزة نووية مجنونة يقوم بها رئيس روسيا، يظهر سريعًا ليتحدّث في ندوة، أو جولة، أو افتتاح كوبري أو مشروع، المهم أن يتكلم في كل شيء، من الدين إلى التعليم إلى الثقافة، وكالعادة لا تغيب الثورة، بوصفها الكابوس الذي يطارده.


اختار الجنرال الجغرافيا والتاريخ مادّة للسخرية والاستهزاء والتحقير، باعتبار أنهما غير مطلوبين في السوق. يختزل الوطن كله في أنّه سوقٌ للعمل، وللتجارة والاستثمار، يخضع لقيم العرض والطلب، ومن ثم ينبغي أن يكون التعليم خادمًا لهذه السوق المفتوحة على مصراعيها لمن يجيدون انتهاز الفرص، وامتطاء التشريعات لتنقل الجيش والأجهزة الأمنية من على أطراف الجغرافيا، إلى قلب السوق، منافسين لا يقدر عليهم أحد، ومحتكرين لا يصمد أمامهم أحد.


فكرة احتقار العلم والعلماء والحطّ من شأنهم ليست جديدةً على نظام يزن علاقاته الخارجية بمكيال التربّح والسمسرة، وليس أكثر خطرًا على مثل هذا النظام من أجيال تتذكّر وتذكّره بمقتضيات تاريخ وجغرافيا الأوطان، والتي هي أقدس من الأسواق.


فلنعدم التاريخ الذي يعلم الناس من العدو ومن الشقيق، في مثل هذه المرحلة السوقية، التي ينتعش فيها نظام سوقي، يجد ذاته في نحن في عصر إشعال النار في الخرائط المقدّسة، واقتياد الجغرافيا، مثل سبايا الحرب الجريحات، إلى مخادع المنتصرين، يفعلون بها الأفاعيل، ثم يحوّلونها إلى خادمةٍ لهم حين يخلدون للراحة. 

من الطبيعي أن يحتقر هذا النظام علم التاريخ الذي يقول للناس إنّ عدوّهم التاريخي هو الكيان الاستعماري الذي اغتصب أرض فلسطين، والذي يعتبر بقاء الجنرال ونظامه في الحكم ضرورة وجودية لبقائه وتمدّده، فيبيع له الغاز المسروق من فلسطين بثمنٍ باهظ، ثم يشتري منه ثروة البلد من الغاز بثمنٍ بخس، ويستعمل الوطن سوقًا لتصدير الغاز المسال إلى أوروبا.


التاريخ يقول إن الأوطان كيانات مقدّسة، وليست محطات خدمة مدفوعة الأجر، تتوقف عندها قوافل الأعداء المحمّلة بالغاز والسلاح للاستراحة والتزوّد بالوقود والمياه، قبل مواصلة الرحلة إلى الشمال .. فلنطرد هذا التاريخ من مناهج الدراسة كي لا يؤثر سلبًا على زعيم السوق/ الوطن.


الجغرافيا تذكّر الناس بخرائط الوطن وحدوده، وتعلّمهم كيف يحفظون تضاريسه ويصونون ملامحه، تلك الجغرافيا التي تشارك التاريخ المؤامرة على السوق وصاحب السوق، ويحرضان، معًا، الناس على الدفاع عن ذاكرة الوطن، ويذكّران الناس بفلسطين، الحدود والمكان والزمان والحكاية .. فلنقتل تلك الجغرافيا، كما قُتِل شهيدها العالم الكبير الدكتور جمال حمدان، الذي أفنى عمره في الدفاع عن خرائط فلسطين، والتصدّي لمحاولات تزوير تاريخها وجغرافيتها، حتى الموت، بالتزامن مع هبوب رياح أوسلو السامة، التي غرست خنجرًا آخر في قلب الحكاية الفلسطينية.


ولنواصل قصف تلك الثورة/ المؤامرة التي حاولت أن تحيي اعتبارات التاريخ والجغرافيا في أفئدة الجماهير في ربيع 2011. .. إذن، لا جديد هنا في استحضار عفريت الثورة من سنة 2011، وإطلاقه على الناس باعتبارها مكمن الخطر، على الرغم من مرور عشر سنوات تقريبًا على جريمة قتلها وإضرام النار في آثارها، لكن الجديد هذه المرّة هو انتقال الزعيم من التصويب على الثورة بوصفها العدو والخطر، إلى وصم الشعب كله (الناس) بأنه العقبة أمام انطلاق الدولة التي هي في هذه الحالة هي القائد شخصيًا ونظام حكمه.


يقول جنرال السوق إن أداء الناس متواضع، وقد افتروا على الدولة واعتبروها الخصم، والمهم هو الحفاظ على الدولة وعدم انزلاقها مرّة أخرى للخراب والدمار. ثم يقفز أبعد من ذلك، ليحاكم السينما على أفلام يراها قد دلّلت المواطن على حساب الدولة، أو حرّضت الناس على الاحتجاج والغضب لنيل الحقوق المهدورة، حتى لو كان هذا الفيلم قد مرّ على إنتاجه ثلاثون عامًا.


الناس سيئون غشاشون وطمّاعون ومزعجون لملك السوق .. وهكذا كل الخطاب المعادي للثوار وللثورة أصبح الآن موّجهًا إلى الناس، كلّ الناس، وكأنه بصدد التجهيز لثورةٍ على الشعب، تقتلعه من جذوره، وتسقطه من الوجود، أو أنه يريد استيراد شعبٍ آخر، بدلًا من هذا الشعب السخيف الذي يتسبّب في تردّي الدولة، وأظن أن هذه مرحلة من البارانويا لم يصل إليها أحد، لا في الواقع، ولا حتى في سينما الفانتازيا، كما قدّمها المخرج صلاح أبو سيف في فيلم "البداية" من خلال شخصية الزعيم "نبيه" التي جسّدها العبقري جميل راتب، زعيم "مملكة نبيهاليا" الذي كان يتهم شعب الواحة المكتشفة بالتآمر على المملكة، ويريد منه أن يرقد كالدجاج على البيض حتى يفقس لزيادة موارد المملكة.


كان "الزعيم نبيه" يحكم ويتصرّف وهو على ثقة تامة بأن الشعب كله رهائن عنده، في مملكته التي لا يصل، أو يعرف، أو يهتم بما يدور فيها أحد، حتى حلّقت طائرة في سمائها واكتشفت وجود الرهائن، فانطلقوا للتحليق معها.


حتمًا، ستأتي طائرةٌ في وقت ما.


نقلا عن: العربي الجديد