خليل العناني


ينسب البعض للفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله "لو كان الفقر رجلا لقتلته"، في حين ينسبه آخرون لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.


ولو هنا حرف امتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط كما يقول أهل اللغة، فلا الفقر رجل، ولا عمر أو علي سيقتلانه.


يخبرنا علماء وباحثو الثورات والانتفاضات أن الفقراء لا يقومون بثورة ولا يدشنونها، ربما يلحقون بها، ولكنهم لا يبدؤونها، هم قد يتمردون وينتفضون ولكنهم لا يثورون، وشتان ما بين الثورة والتمرد، فالثورة -في معناها العام والواسع- هي حراك شعبي كبير يستهدف تغييرا جذريا وكليا للنظام السياسي بشخوصه ومؤسساته وقيمه وممارساته واستبداله بنظام آخر أكثر تمثيلا وعدلا، فيما التمرد هو حالة انفجار لفئات وطبقات معينة نتيجة لتراكم حالة الغضب والإحباط.


وعليه، فإن الدول الفقيرة نادرا ما تشهد ثورات، ولكنها في أغلب الأحوال تشهد انفجارات وانتفاضات شعبية بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.


وحسب جاك غولدستون عالم الاجتماع السياسي الأميركي والأستاذ بجامعة جورج مايسون، فإن الفقر وحده لا يؤدي إلى قيام الثورات، ويستدل على ذلك بأن الثورات التي حدثت خلال القرون الثلاثة الأخيرة كانت في بلدان متوسطة الدخل وليست فقيرة.


وهي أطروحة لها وجاهتها ليس فقط نظريا ولكن أيضا تاريخيا، فحسب غولدستون، فإن الثورة الأميركية عام 1775 قام بها المستوطنون الأميركيون الذين كانوا أفضل حالا من الفلاحيين الأوروبيين، كما أن الثورة الفرنسية 1789 قام بها عمال وفلاحون كانوا أفضل حالا اقتصاديا واجتماعيا من نظرائهم الروس الذين جرت ثورة في بلادهم بعد ذلك بـ100 عام.


لكن، لماذا لا يثور الفقراء رغم فقرهم وعوزهم واحتياجهم الشديد؟ هنا يطرح غولدستون وآخرون إجابات عديدة، منها أنه لا يستطيع الفقراء -سواء العمال أو الفلاحون- أن يقوموا بالإطاحة بحكومات تمتلك جيوشا نظامية عازمة على الدفاع عن أنظمتها مهما كان الثمن، فالثورات تحدث -في أغلب الحالات- عندما يقع انقسام أو انشقاق بين النخب الداعمة للنظام خاصة النخبة العسكرية، والنخب وليس الفقراء هم من يستطيعون تعبئة المواطنين من أجل الثورة والإطاحة بالنظام.


أيضا، فإن الفقراء لا يمتلكون الموارد الكافية -سواء المادية أو المعنوية- لتشكيل قوة ثورية يمكنها العمل والتخطيط لتغيير النظام القائم، وأحيانا يفسر البعض الفقر باعتباره قدرا دينيا أو أمرا طبيعيا يجب تحمله والصبر عليه، لذلك يعتقد غولدستون أن الفقر لا يؤدي إلى ثورات وإنما إلى تمرد شعبي، وكما أشرنا سابقا فإن التمرد هو انفجار مجتمعي يحدث نتيجة للاحتقان والغضب المتراكم، وبالتالي لا يوجد مشروع سياسي واضح خلف التمرد.


لكن إذا كان الفقر لا يدفع الناس للثورة وتغيير النظام فما الذي يدفعهم إذن؟ هنا يجيب غولدستون بأن الحرمان النسبي وليس الفقر هو الذي قد يدفع إلى قيام الثورة وحدوث التغيير، فالشعور بعدم المساواة وانعدام الفرص -سواء في الدول الغنية أو الدول متوسطة الدخل- هو الذي يدفع باتجاه التفكير في الثورة، وذلك من أجل تغيير موازين القوى السياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويصبح الأمر أكثر إلحاحا عندما يدرك المواطنون أولا أن فقرهم ليس قدرا حتميا لأن بلادهم فقيرة ولكن نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والفاسدة، وثانيا لأن هناك فئات وطبقات أخرى لا تعاني الفقر، بل تحتكر الثروات والموارد على حساب بقية المجتمع، وبكلمات أخرى، فإن فقرهم هو بفعل فاعل وليس أمرا قدَريا.


في مصر يعيش ما يقارب ثلثي السكان تحت خط الفقر، أي على أقل من 30 جنيها يوميا، ورغم ذلك لم تقم ثورة يناير بسبب الفقر وحده، وكذلك لم يطلقها أو يقودها الفقراء، ولكن قادتها وحركتها شرائح من الطبقة الوسطى من المهنيين والطلاب والعمال والموظفين الذين كانوا قوة الدفع الحقيقية للثورة خلال 18 يوما.


كذلك الحال في تونس وليبيا وسوريا واليمن التي حدثت فيها انشقاقات داخل النخب الحاكمة ومؤسسات الدولة، مما ساعد في قيام الثورة، وقد كان الشعور بالحرمان النسبي، وغياب العدالة الاجتماعية، وشيوع الفساد بين الطبقة الحاكمة من أهم محركات ثورات الربيع العربي، ولذلك حملت هذه الثورات شعارات ومطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وذلك بغض النظر عما حدث لاحقا.


لذلك، يحذّر البعض أحيانا مما تسمى "ثورة الجياع" التي قد تحدث نتيجة للفقر الذي يضرب البلاد والعباد، وهم هنا يخلطون -ربما بدون قصد- بين التمرد والانفجار الشعبي وبين الثورة، فالجوعى لا يثورون، وإنما يتمردون وينتفضون، ليس لإنهاء فقرهم بشكل حقيقي ومؤسسي، وإنما من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية واجتماعية مؤقتة، وذلك دون تجاوزها بالضرورة باتجاه تغيير للنظام الذي يتسبب في فقرهم ومعاناتهم.


الأكثر من ذلك، فإن شرائح من الفقراء قد يتم توظيفهم واستخدامهم من قبل الثورة المضادة، فالأنظمة السلطوية تعتمد أحيانا على الفقراء في صراعهم مع الشرائح والفئات الثورية التي تخرج من الطبقة الوسطى، وذلك من خلال تشويهها والاشتباك معها، وفي بعض الحالات قد يتم تنظيم فئات من الفقراء في شكل مليشيات منظمة مثل شبكات "البلطجية" في مصر أو "الشبيحة" في سوريا الذين يحصلون على دعم وفير من أجهزة الأمن من أجل مواجهة الثوار، وذلك مثلما حدث في "موقعة الجمل" التي حدثت قبل تنحي مبارك عام 2011، فهؤلاء ضحايا الفقر الذين يتم استخدامهم في الثورة المضادة.


نقلا عن: الجزيرة نت