د. فتحي أبو الورد                                  

عطفا على المقال السابق الذى تناول الحديث عن حرية الاعتقاد وإشكالية عقوبة المرتد ، والذى بينت فيه ألا تعارض بين حرية الاعتقاد من جهة ، ووجود عقوبة للمرتد من جهة أخرى، فقد دار نقاش بينى وبين بعض الزملاء حول المقال السابق فى عدة نقاط ، رأيت من المفيد طرحها تتمة للفائدة ، واستكمالا للمناقشة  .

يرى زميلى ما يلى :

-  تشبيه الردة بالخيانة العظمى، تشبيه غير مسلم وغير واقعي، بدليل وجود غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ولم نعتبر إيمانهم بغير الإسلام ناقضا لولائهم للدولة.

 - في البلاد غير الإسلامية حاليا لو منعوا مواطنيهم من الدخول في الإسلام اعتبرنا ذلك موجبا للجهاد للدفاع عن حرية الدعوة ، واختيار هذه الشعوب الدين الذي تدين به، واستنكرنا منع الحكام شعوبهم من اختيار الدين الذي يرونه لأنفسهم  .

- هل يمكن اعتبار الشرط في صلح الحديبية أساسا للتعامل مع المرتد، من يريد أن يسلم أهلا به ، ومن أراد الكفر لا حاجة لنا به  .

وقبل الشروع فى الرد على ذلك ، هناك منطلقان للحديث عن حرية الاعتقاد ، وتجريم الردة ، والعقوبة عليها .

الأول : المسلمون ينطلقون من عقائد ثابتة أخبر بها القرآن وهى أن الكتب السماوية السابقة أصابها التحريف والتبديل ، وأنه لا يوجد كتاب سماوى الآن يوثق بصحته ، وأن يد التغيير والتحريف قد عملت فى هذه الكتب ؛ فلم يعد هناك ما يوثق بصحة نسبته إلى السماء سوى القرآن الكريم ، وهذا ما أثبته القرآن الكريم فى قوله تعالى " فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ " البقرة 79 . كما اعترف بعض الأحبار والرهبان والقساوسة بوقوع هذا التبديل والتحريف فى كتبهم .. وهذا المعتقد يعد على منطلفا فى تناول قضية المرتد ، وأن الإسلام هو الدين الحق ، ويتعذر أن يقال فى المرتد : إنه تبين له الحق فى غير الإسلام .
أما قضية الدعوة إلى غير الإسلام فأكبر أهدافها هو محاربة الإسلام ، والعمل على وقف انتشاره ، لاستشعار أصحابها بالخطورة السياسية التى سيترتب عليها انحسار نفوذهم ، وليست الهداية والحرص على خلاص الناس من النار هما الغاية والهدف فى حقيقة الأمر .

الثانى : إن المرتد الذى اقتنع بينه وبين نفسه ببطلان دين الإسلام وكونه غير دين سماوى ، أو اقتناعه بدين آخر ، أو عدم اقتناعه بدين آخر مطلقا ، يتحمل تبعة موقفه ما دام يرى أنه على حق ..ويتحمل العقوبة ، وأرجح أن تكون تعزيرية ، أو يضحك على المجتمع ، ويقول الشهادة ويبقى على معتقده الذى يرى صوابه ويلقى الله عليه .
وما من صاحب عقيدة صادق إلا ويتحمل من أجل عقيدته ؛ فليتحمل إذن إن كان صادقا بحق ، ويبقى الحكم فى الآخرة على ما أسرت نفسه إلى من يعلم السر وأخفى.

أما إجابتى على ملاحظات زميلى فأذكرها على النحو التالى :

- تشبيه الردة بالخيانة لمسلم كان مسلما ثم ارتد واقعى جدا ؛ ولا يقاس عليه غير المسلمين فى الدولة الإسلامية ؛ لأن هؤلاء متروك لهم حرية البقاء على دينهم ، ومكفول لهم حرية الاعتقاد دون إكراه أو إجبار ، بخلاف من أسلم طائعا مختارا عالما بالعقوبة ثم ارتد ، أو كان مسلما فى الأصل ثم ارتد ، فهذا قد أتى جريمة وفق التشريع الجنائى الإسلامى .

والشارع الحكيم يميز فى الأسماء والألفاظ تفريقا دقيقا لما يترتب عليها، فيقول :المشرك والكافر والمنافق والمرتد ، ثم يميز أهل الكتاب فمنهم المعاهد والمستأمن والمحارب ، ولكل حكمه ، وإن كانوا جميعا كفارا فى المعتقد .وكل هؤلاء لا سبيل للدولة عليهم – باستثناء المحارب- إلا إذا أظهروا العداوة للمجتمع وأتوا أعمالا إجرامية من شأنها تقويض أركان الدولة ، ومن يفعل ذلك يعاقب بعقوبة المحارب ، وسواء كان المحارب مسلما أو غير مسلم، وﻻمعاقبة على ذات الكفر بدليل وجود اليهود والنصارى والمجوس فى ديار المسلمين لا يتعرض لهم أحد ، يمارسون شعائرهم ، ويظهرون معتقداتهم ، وهذا يؤكد أن المرتد يعد خائنا لا بد أن تكون له عقوبة أيا ما كانت ، حتى نحافظ على كيان الدولة الموصوفة بالإسلامية، وقد اتفقت كل المذاهب الإسلامية على تجريم الردة وإن اختلفوا فى العقوبة وتفصيلها .

أما المرتد سرا فشأنه شأن المنافق ، فهو وإن كان كافرا باطنا إلا أنه لا سبيل للتنقيب عما فى قلبه ،وهذا تطبيق لقاعدة أهل السنة التى تقول : الأحكام تجرى على الظاهر والله يتولى السرائر.
- فى البلاد غير الإسلامية لا يعيرون مسألة دين المواطنين - أو عدم انتمائهم لدين أصلا - اهتماما إلا أن يسلم الكثيرون ، ويشكل الدخول فى الإسلام ظاهرة حينذاك يظهرون العداوة ويتخذون الإجراءات والتدابير للحد من انتشار الظاهرة أو تقليصها.

وفى الواقع حاليا من يسلم من غير المسلمين ، أو من يكفر من المسلمين فى بلاد غير المسلمين لا أحد يتدخل فى هذا الشأن ، ولا أحد منا يطالب بالجهاد دفاعا عن حرية الدعوة ، نحن نطلب فقط الأمان فى بلادنا ويتركوننا وحال سبيلنا ، ونطالب بفتح باب الحريات .

- أما اعتبار الشرط فى صلح الحديبية أساسا للتعامل مع المرتد ، من يريد أن يسلم فأهلا به ، ومن أراد الكفر فلا حاجة لنا به ؛ فأستطيع أن أقول الآن ، فى حالة وجود دولة إسلامية بالفعل ، تدافع عن الإسلام ، وتتخذه منهجا وتشريعا ، وتنفذ أحكامه ، وتتوافر الحريات للمسلمين ولغيرهم على حد سواء ، وليس فقط تتوفر لغير المسلمين ، ويحرم منها المسلمون ، وتتوفر لدينا من القدرات والإمكانات ، والمنابر الحرة لشرح الإسلام وتوضيحه ، وقتها يمكن أن أقول : إن هذا الشرط يمكن أن يكون مقبولا ، وهو ما يتماشى مع الواقع الذى أقرت فيه وثيقة صلح الحديبية ، حين قامت للمسلمين دولة على أساس الإسلام ، توفرت فيها الحريات ، لأننا نوقن حينها أن من يسلم سيسلم بإرادة حقيقية ، ومن يرتد يرتد عن بينة ، ليس عن ترغيب أو ترهيب ، أما الآن فليس من العدل ولا من الإنصاف أن نطرح ذلك ،وأدوات التأثير والقوة جميعها بيد غير المسلمين ، فضلا عن ضعف المسلمين وفقرهم وجهلهم بكثير من أحكام الإسلام ، بفعل أعداء المسلمين ، واتباعهم سياسة تجفيف منابع الدعوة ، والحيلولة دون توضيح صورة الإسلام الصحيحة ، إضافة إلى خدمة بعض حكومات الدول المسلمة للغرب فى هذا المضمار ، ومحاربتهم للإسلام والمسلمين ،وفتحهم الباب على مصراعيه للتنصير والتشيع والإلحاد والطعن فى الإسلام وإثارة الشبهات حوله ، فى وقت العلماء فيه إما فى السجون أو فى القبور أو فى المنفى ، كما لا يخفى على أحد .