د. مصطفى اللداوي
يبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب مصرٌ على المضي قدماً في الحرب التي أعلنها، وعازمٌ على التمادي أكثر في مسلسل الجنون الذي أطلق حلقاته، وسمح لحليفه نتنياهو والكيان الصهيوني بإنتاج المزيد من المشاهد الجنونية المستفزة، التي فاقمت من حدة الأزمة، وضاعفت نتائجها وتداعياتها، وكأنه قد أصيب بحمى هستيرية أفقدته عقله، وأخرجته عن طوره، وصورت له العرب والفلسطينيين ومعهم المسلمين جميعاً وكأنهم دمى بين يديه، أو عرائس شمعٍ يحركها بأصابعه، ويتحكم فيها بإرادته وحسب مزاجه، وأوهمه خياله أنه لا إرادة عند الشعوب العربية والإسلامية، ولا كرامة عند الفلسطينيين، ولا عزة تحركهم ولا غيرة تُغضبهم.

ولهذا أمعن ترامب أكثر في إساءاته واعتداءاته، دون حسابٍ للعقل أو المنطق، أو اعتبارٍ للحق والتاريخ، وظن أنه سينجو بأفكاره، وينجح في مخططاته، وسيحقق ما عجز عن فعله الرؤساء السابقون، وسيكون الرئيس الأمريكي الأوحد الذي منح اليهود اعترافاً طالما حلموا به وتمنوه، وكأن التاريخ سيقف عند وعده، والشعوب ستركع عند قدمه، والفلسطينيون سيسلمون بعقله وسيقبلون بمخططه، وسيخسرون إن خالفوه، إذ ليس بعده منجاة، ولا قدرة لغيره أن يقوم بمثل ما قام به.

لم يكتف ترامب بقراره الأهوج بل مضى قدماً في اتخاذ سلسلة قراراتٍ أخرى من شأنها تعقيد المسألة، وتعميق الأزمة، وجر الأطراف كلها نحو حربٍ دينيةٍ حقيقيةٍ، ستكون هي الأسوأ والأكثر دمويةً في الشرق الأوسط، وسيكون لها مضاعفاتٌ وتأثيراتٌ كبيرة على المنطقة كلها، ويظن أنه يستطيع بهذه القرارات والإجراءات أن يلوي عنق الفلسطينيين، وأن يجبرهم على القبول بأفكاره.

وهو يعتقد أن الفلسطينيين سيبيعون قدسهم بدراهم معدودة، وسيفرطون بحقهم بمعوناتٍ ماديةٍ، وكوبونات إغاثةٍ إنسانيةٍ، وما علم أنه يؤجج نار الحرب، وينفخ في رمادها، وهي حربٌ لا شك في أنها قادمة، فبذور الكراهية التي يزرعها، ومساعي الإفساد التي مضى فيها، وسياسته الخرقاء التي يحاول فرضها، ستثمر حروباً مدمرة وفوضى مخربة، ستطال الجميع ولن ينجوَ منها أحدٌ.

يريد ترامب مقايضة السلطة الفلسطينية على المساعدات المالية التي تقدمها بلاده لتسيير عملها، وهي بمجموعها السنوي لا تمثل شيئاً ولا تغير واقعاً، ولا تنتشل الشعب الفلسطيني من أزماته ولا تحقق له شيئاً من رغباته، وهي لا تُذكر بالمقارنة مع المساعدات التي تقدم للكيان الإسرائيلي بدون شروطٍ، ولكنه يريد أن يستغلها لأنه يعرف واقع السلطة المالي المرير وحاجتها الماسة ونفقاتها المتزايدة وأزماتها المتفاقمة، ويريد أن يفرض عليها وعلى رئيسها القبول بما قرر، والعودة أذلاء إلى طاولة المفاوضات، والقبول بإدارته وسيطاً لعملية السلام، وراعياً لمسار التسوية، وكأنه لم يرتكب جرماً، وإلا فإنه سيقطع هذه المساعدات، وسيتوقف عن تقديمها حتى تأتي السلطة إليه صاغرةً ذليلة.

لا يكتف ترامب بمعاقبة السلطة الفلسطينية ورئيسها، بل يريد أن يعاقب الشعب الفلسطيني كله، وأن يحرمه من مساعدات الأونروا البسيطة التي لا تكاد تقيل عائلة صغيرة فضلاً عن شعبٍ أغلبه لاجئٌ ومشردٌ، فأعلن كعادته على شبكة تويتر أنه ينوي التوقف عن دفع التزامات بلاده السنوية لوكالة الأونروا، ولسان حاله يقول للشعب الفلسطيني إما القبول بقراره والتوقف عن الاعتراض والتظاهر وإلا الجوع والحرمان. هذا الأسلوب الوضيع وهذه السياسة الوقحة لا يلجأ إليها عاقل، ولكنه للأسف بلغ من السفه والجنون حداً يجعله يظن أن الفلسطينيين يبيعون كرامتهم بدولاراته، ويفرطون بحقوقهم أملاً في مساعدات بلاده، التي يراها الفلسطينيون نجسة وغير نظيفة، ومشروطة ومهينة.

يصر ترامب على دولٍ أخرى أن تنحو نحوه، وأن تقلده في سياسته، وأن تؤيده في قراراته، وإلا فإنه سيعيد النظر في علاقة إدارته بها، ويقصد بذلك علاقتها المالية، وحجم المساعدات التي تتلقاها حكوماتها من الولايات المتحدة، وهو لا يدخر وسعاً في تأليب هذه الحكومات وتحريضها، والدفع بها والتأثير عليها، إذ يريد منها أن تكون جزءاً من المعركة، وإلى جانبه في جبهة العدوان الجديدة، وإلا فإن مصيرها الحرمان إن لم يكن الجوع مآلها، ولا يدري أنه بهذا العمل إنما يزرع الفتنة، ويؤسس للكراهية، ويحرض على العنف.

الحكومات العربية تراقب ما يجري في المنطقة، وترصد تصريحات ترامب وتعلم خطواته وتعرف إجراءاته، وتدرك أنه يحاول استخدام المساعدات المالية في تركيع الشعب الفلسطيني وتمرير قراره عليهم، وسلب القدس منهم وتجريدهم من أرضهم وحقوقهم في بلادهم، فهل تكتفي بالمتابعة والمشاهدة، والرصد والمتابعة، وتقبل أن تكون شاهدةً عاجزةً عما يحدث، وترضى أن يستغل ترامب قوة بلاده في الضغط على الفلسطينيين وابتزازهم، وهم يعلمون أن الفلسطينيين لن يستجيبوا لترامب ولن يخضعوا له، ولن يضعفوا أمامه ولن يأتي اليوم الذي يفاوضونه فيه على شرفهم وكرامتهم.

أما ينبغي على هذه الدول والحكومات الغنية القادرة، التي حباها الله المال والقدرة، وأعطاها من الثروات والكنوز ما لم يعط أحداً غيرهم، فجعلهم أغنياء أثرياء يحوزون على التريليونات، ويسبحون فوق بحيراتٍ من النفط والغاز، أن يقفوا إلى جانب الشعب الفلسطيني العزيز، الذي يرفع رأسهم دوماً بكبريائه، ويحفظ كرامتهم بمقاومته، ويحقق لهم العزة بانتصاراته، ويحول بتضحياته دون تغول العدو عليهم وطمعه فيهم، وهو الذي لا يخفي أطماعه ولا ينكر طموحاته في بلادهم وخيراتهم؟ فهل يدركون أن كرامة الفلسطينيين لهم كرامة، وعزتهم لهم عزة وسؤددٌ ومكانةٌ؟

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر