حنان السيد:

 

التاريخ ذلك الكتاب العميق الغامض الذي يدور دورة وفى كل مرة يمهل الإنسان ليتعظ ويتفكر ويقرأ فيه ويعتبر ، فإذا قرأ كعابر سبيل غير مبالي لقنه درسا قاسيا. ويظل التاريخ يضرب بسياطه بكل قوة على جدار ذلك الإنسان حتى ينكسر ، ويبدأ بزوال قشور الصدأ والإهمال والغفلة ، ويبدأ يتهيأ للمرحلة ويستعيد أمجاده مرة أخرى .

إنها سنن كونية تسير بنا ، ويتيه البشر فيها ، لا يعرف كيف الطريق ، وكيف له أن يسلم من فتن الدنيا ، ومن يأخذ بيده ودوره في القضية . فمن أشد المصائب التي تمر على الأمة هي أن يسقط علماؤها سقوط الغافلين. وأشد قسوة هو من وقف في طريق الحق منهم ولكنه لا يعرف ما هو دوره المطلوب ، فيظل يتخبط يمينا وشمالا ، ولا يدرى أنه - وهو على طريق الحق- يكون من أسباب علو شأن الباطل ؛ لجهله بدوره .

علماؤنا الذين على طريق الحق الثابتون الواقفون للفتن المدركون لوظيفتهم التي اختارها الله لهم هل يدركون أنهم لهم دورا لو أتقنوه لكانوا الفارس الذي يأخذ بيد الفرسان ليخوضوا الحروب تلو الحروب لنصرة دينهم .

وهل يدركون أنهم بعدم علمهم بمهمتهم سبب فيما يحدث من مآسي وآلام وتخبط وإحباط ؟!! إن الإمام أبو حنيفة - فيما يُروى - كان يمشي في الطريق ، فرأى غلاماً أمامه حفرة ، فقال : إياك يا غلام أن تسقط ، فقال الغلام : بل إياك يا إمام أن تسقط ؛ إني إن سقطتُ سَقطتُ وحدي ، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالم . عندما يشعر الإنسان باليأس أو بالعجز يجلس مع نفسه طويلا يفكر ماذا أفعل؟ أأظل هكذا أم أتغير ؟ فيبدأ يبحث في التاريخ عن السنن الكونية ومكانته فيها ، أيكون من أصحاب الهمم ؟ أم من الأتباع الذين يسيرون حيث يسير الركب ويتركون اليأس يأكل فيهم ليذيب أجسادهم وتذبل وتذوب إلى الفناء؟

سلطان العلماء وبائع الأمراء.

يُحكى عن فارس العلماء رجل المواقف الذي إذا ذُكر اسمه ألهبت القلوب والهمم ، ورأيت فارسا على فرس يحمل العلم في يد ويطبقه بسيفه باليد الأخرى ، سيف الحق القاطع لكل باطل . عندما كان العز بن عبد السلام في دمشق ، وكان الحاكم رجلاً يقال له : الملك الصالح إسماعيل ، من بني أيوب ، فولى العز بن عبد السلام خَطابة الجامع الأموي، وبعد فترة قام هذا الملك بالتحالف مع أعداء المسلمين ، فحالفهم ، وسلّم لهم بعض الحصون ، كقلعة الشقيف وصفد ، وبعض الحصون ، وبعض المدن من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر . إنه مسلم يستعين بغير مسلم على قتال مسلم ، أرأيت إلى التاريخ كيف يعيد نفسه ؟!! فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الموالي لأعداء المسلمين لم يصبر ، فصعد المنبر ، وتكلم ، وأنكر ، وقالها صريحةً ، وقطع الدعاء ، وختم الخطبة بقوله : "اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، تعز فيه وليك ، وتذل فيه عدوك ، ويُؤمر فيه بالمعروف ، ويُنهى فيه عن المنكر " ثم نزل .

وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده ، فغضب عليه غضباً شديداً ، وأمر بإبعاده عن الخطابة ، وسجنه ، وبعدما حصل الهرج والمرج ، واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ، ومنعه من الخطبة ، وخرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس ، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضاً، والتقى بأمراء الأعداء من بيت المقدس ، فأرسل رجلاً من بطانته ، وقال له : اذهب إلى العز بن عبد السلام ، ولاطفه ، ولاينه بالكلام الحسن ، واطلب منه أن يأتي إلي ، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه ، فذهب الرجل إلى العز بن عبد السلام وقال له : ليس بينك وبين أن تعود إلى الخطابة وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتـي وتقبّل يد السلطان لا غير ، فضحك العز بن عبد السلام وقال : يا مسكين ، والله ما أرضى أن يقبل الملك يدي فضلاً عن أن أقبل يده ، يا قوم أنا في واد ، وأنتم في واد آخر ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به . هذا موقف، قال له : إذاً نسجنك ؟ قال: افعلوا ما بدا لكم ، فأخذوه ، وسجنوه في خيمة ، فكان يقرأ فيها القرآن ويتعبد .

قتاله للصليبيين

شارك العز بن عبد السلام عملياً في الجهاد والقتال ضد الصليبيين الذين اتجهوا لاحتلال دمياط وسائر مصر بعد أن وصلوا إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فهّبَّ الجيشُ المسلمُ في مصر لمواجهة الغزاة، قال ابن السبكي: «وكان الشيخ (العز بن عبد السلام) مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخُ حالَ المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح «يا ريحُ خُذيهم» عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنجة فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثرُ الفرنجة، وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد رجلاً سخّر له الريح»، وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحةَ من كرامات العز بن عبد السلام .

عندما كان العز بن عبد السلام بمصر سنة 657هـ، تقدم التتار بعد سقوط بغداد إلى الشام، واستولوا على بعض مدنها، ليواصلوا الطريق إلى مصر، وكان على عرش مصر شاب صغير، وبَعَثَ ملكُ حلب الناصرُ يوسف يطلب النجدة على قتال التتار، فجمع سيف الدين قطز العلماء والأعيان والفقهاء والقضاة لمشاورتهم في الأمر لمواجهة التتار، وحضر الشيخ العز، وعمره ثمانون سنة، وطُرحت المشكلة في استيلاء هولاكو على البلاد، وأن بيت المال خالٍ من الأموال، والسلطان صغير السن، قال ابن تغري بردي: «وأفاضوا في الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام»، وسكت الأمراء والقضاة والعلماء، ولم يَجْرُؤ أحد على الاعتراض على عزم الملك الجديد قطز في فرض الضرائب على الشعب دون الأمراء وبيت السلطان، وهنا ظهرت نصيحة العز الجريئة والحازمة، فأفتى بخلع السلطان الصغير، وجواز تعيين ملك قوي مكانه، وهو قطز، ثم وجَّه له النصيحة في أمر الضرائب مدافعاً عن الشعب ومبيّناً للحق، فقال: «إذا طَرَقَ العدوُّ بلادَ الإسلام وجب على العالَم قتالُهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية والكبابيس المزركشة وأسْقاط السيوف والفضة وغير ذلك، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصرَ كلُّ الجند على سلاحه ومركوبه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا» .

الإمام ابن تيمية

ومن أروع الأمثلة لعلمائنا ما فعله ابن تيمية في حث الشعب على الجهاد وكان يده بيديهم ولم يعطيهم أوامر ويظل من بعيد ينظر ويرى . بلغت الأمة الإسلامية في وقت غزو التتار لها مبلغا عظيما من الضعف والهوان والتفرق , وبات الأمراء والملوك يتقاسمونها فيما بينهم ويستحوذون على خيراتها ومقدراتها , وأضحى الناس مغلوبين على أمرهم وخاضعين لهوى من يحكم ويتأمَّر عليهم . حين توجه التتار إلى بلاد المسلمين أقام ابن تيمية ميعادا سنة 697هـ للجهاد في سبيل الله حرض فيه وبالغ في أجور المجاهدين , وكان ميعادا حافلا جليلا , أشعل فيه روح الانتصار في نفوس المسلمين .

وحين انزعج الناس سنة 700 هـ من توجه التتار إلى بلاد الشام وأخذوا يبيعون متاعهم ويتأهبون للهرب , قام ابن تيمية بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في فضل الجهاد ووجوبه , ونهى عن الإسراع في الفرار ورغَّب في إنفاق أجرة الهرب في الجهاد , وأوجب جهاد التتار وألزم به . وتوجه إلى العسكر القادم من حماة فاجتمع بهم , وحثهم وثبتهم ورفع من معنوياتهم , وبيَّن الأجر العظيم الذي وُعدوا به. وكان يذهب إلى المجاهدين في سبيل الله ويجتمع بهم كثيرا ويبيت عندهم ويعظهم ويقوي من جأشهم , ويعدهم بالنصر ويبشرهم الغنيمة ويذكر لهم ما ينتظرهم من الجزاء عند الله في الجنة , بل إنه في بعض المواقف يقسم لهم ويقول : والله إنكم منصورون , فيقولون له : قل : إن شاء الله , فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. هذه الأدوار تظهر لنا دور العلماء الحقيقي ، فليس دورهم جمع الأموال ، أو النحيب على ما مضى ، أو الظهور في الفضائيات ليذكرونا بالمآسي والمذابح التي تعرضنا لها ، فهم يزرعون بذلك الإحباط واليأس ، فليس من تخصصهم أن يعرفونا مساوئ الانقلاب وفشله – وإن كان هذا مطلوبا – ولكن أيضا عليهم أن يعلمونا كيف نسقطه وكيف نخوض معركتنا !! لم يقف العلماء موقف المتفرج اليائس ينظر ويتحسر ، أو يقف موقف المحبِط الذي يُحبِط من همم الأمة ، ولم ينجرّ العلماء وراء الفتن التي تصيب الشعب لتفتنهم وتشدهم عن الطريق .

فكان العلماء أعقل ما يكونون من معرفة وضع الأزمة ووضع الأمة ، فكانوا هم الهمة التي أيقظت روح الأمة وعملوا بما علموه . وللأسف كثير من علماء الحق انساقوا وراء الفتن ولم يقفوا لها ويوحدوا الصفوف ويتجنبوا الوقوف مع فصيل أو رأي .

للأسف كانوا هم من أسباب انشقاق وانتشار الفتن وإبعاد الثوار عن طريقهم !! ألم يعلم أولئك العلماء بأن دورهم أهم من أقوى الجماعات والكيانات ؛ فبأيديهم توحيد الصفوف وتأليفها والبعد عن الفتن وتربية الثوار تربية إيمانية وجهادية . فلقد أتيحت لهم سبل كثيرة من قنوات وصفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي . بإمكانهم توجيه المعركة ومعرفة الطريق إلى النصر ، فهم لو اجتمعوا من أجل إعلاء كلمة الله واتفقوا على خطط موضوعة ففي أيديهم قوى كبيرة من الثوار يمكن توجيهها وتربيتها وإرشادها لخوض المعركة . ألم يدرك بعض علمائنا أنهم قوة لا يمكن لأحد أن يقف أمامها وأنهم سلاحا قوى فتاك إن عرفوا جيدا ما هي مهمتهم الحقيقية .

همسة في آذانكم

اتقوا الله في معركة فاصلة .. في مصير الأمة .. فإن خذلتم المعركة ولم تدركوا ما هو دور العلماء أبدلنا الله بعلماء خير منكم ولا يكونوا أمثالكم ، فيقودون المعركة ويفتحون فتوحات الفاتحين بأمر الله

 

 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر