إبراهيم صقر الزعيم - مدونات الجزيرة:

 

لما دخل المرابطون المقدسيون المسجد الأقصى المبارك يوم الخميس الماضي، مكبرين مهللين من باب حطة، تبادر إلى ذهني قول الله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:58)، فجعلت أتأمل الآية، وأقلب النظر فيها، ولا أزيد على قول (سبحان الله). فهنا أمر الله سبحانه وتعالى، بني إسرائيلي بدخول مدينة بيت المقدس، وأن يدخلوا الباب سجدا، والباب المقصود في الآية، هو باب حطة، وهذا قول مجاهد، والسُّدِّيِّ، وأن يعلنوا للخالق خضوعهم وخشوعهم، بأن يقولوا حطة، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حنطة، وبعد آلاف السنين، نفذ هذا الأمر، بيد أنه ليس من بني إسرائيل، وإنما من أمة محمد، فدخل الفلسطينيون الباب سجدا، والأعجب من هذا أنهم دخلوا من باب حطة، وكأنهم يقولون: اللهم حط عنا ذنوبنا بمدافعة المستكبرين على أمرك.

ولعل هذا هو ما يفسر التعنت الإسرائيلي، بمحاولة الإبقاء على باب حطة مغلقا، ثم حالة القهر، التي تعامل بها جنود الاحتلال مع المنتصرين الداخلين سجدا من هذا الباب، فتلك الحالة وذلك الباب، يكشف كبرياءهم على أمر ربهم، ويفضح زيف ادعائهم بالأحقية للأرض المقدسة، ذلك أن معصية أمر إلهي، أفقدتهم أي حق فيها، وتحولت مباشرة لمن يقوم حق القيام على الأمر والنهي. إن جريمة إغلاق المسجد الأقصى المبارك، في الرابع عشر من تموز (يوليو)، التي انتهت بانتصار ثوار القدس، بعد 14 يوما، من الرباط الأسطوري، جاءت لتكشف عن فضيحة وحقيقة وأمانة. لم نسمع طيلة هذه الفترة، صوتا منددا كما السابق، وربما انكشفت قريحة كثير من هذه الأنظمة الصامتة، أن الاستنكار والتنديد الذي يصب في مساندة المقاومة يعد إرهابا، فكيف لهم أن يمارسوا الإرهاب، الذي يحاربوه أصلا!


وإذا كان الأمر كذلك فلا غبار أبدا على صمتهم، ألم يقل رسول الله ﷺ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"؟ وماذا عليهم لو آثروا السلامة! أليس حديثهم يصب في صالح الإرهابيين (المقاومين)، المدافعين عن القدس والمسجد الأقصى المبارك! لكن والحال هذه، لماذا جاءت تلك الاتصالات لفتح المسجد الأقصى المبارك؟ إنني لا أستبعد أن يكون الهدف منها تقديم مزيد من التسهيلات لدخول الصهاينة المسالمين (الإرهابيين) للمسجد الأقصى، بعد التشويش عليها من المرابطين على بوابات الأقصى، فقد تطور الخذلان الرسمي للمقدسيين، إلى حد التماهي مع الاحتلال الإسرائيلي، وتنفيذ مخططاته التهويدية، وهذا ليس جديدا، ففي عام 2014 وجهت الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، اتهاما لدولة خليجية، بتسريب البيوت العربية في القدس لمصلحة جمعيات إسرائيلية. هذه هي الفضيحة، فكما كانت سورة التوبة فاضحة للمنافقين، فإن القدس فاضحة للمتخاذلين عن النصرة، وكما كان حال الحكام، كانت كثير من المؤسسات الإسلامية، واللجان المعنية بالقدس.


والدروس المستفادة التي ينبغي العمل بها، هو أن تعمل المرجعيات الإسلامية والوطنية في القدس وفلسطين، على توطيد علاقاتها بالدول العربية والإسلامية، التي وقفت إلى جانب القدس، وإيجاد مؤسسات بديلة داعمة للقدس، في تلك الدول، فليس من المعقول أن يصمت أولئك صمت القبور، ثم لما يروا نصرا تحقق، يتسابقون لاختطافه من أبطاله، ليحمدوا بما لم يفعلوا. والحقيقة التي يسطرها صمود المقدسيين، فيغيرون بها فرضية كان الفلسطينيون يتعاملون معها، على أنها من المسلمات، هي أن تحرير فلسطين، سيأتي بالكلية من الخارج، وهنا لا أنكر الدور المحوري للأمة العربية والإسلامية، فهذه قضية إسلامية، وسيكون للأمة دور مهم في إكمال التحرير، وليس بداية التحرير، فالشرارة الأولى يشعلها أهل بيت المقدس وأكنافه، وأهل فلسطين هم في الحلقة الأولى، والقدس ومرابطوها في القلب منها، أما الحلقة الثانية فتضم دول الطوق، ثم الحلقة الثالثة بقية الدول العربية والإسلامية.

إن دور الأمة دور إسنادي، وليس هذا تقليلا لدورها، فالإسناد مهم في أي معركة، فما يتمتع به أهل فلسطين، من قوة عسكرية في غزة، واحتكاك مباشر بالمستوطنين وجيش الاحتلال في الضفة والقدس، وإحاطة شاملة بطبيعة العدو من فلسطينيي عام 1984، يؤهل الشعب الفلسطيني لقيادة المعركة الفاصلة مع الاحتلال الإسرائيلي، وعليه فلن يكتمل التحرير بدون الأمة الإسلامية، ولن يبدأ بدون أهل فلسطين.

أما الأمانة التي تحملها القدس للفلسطينيين، فهي أمانة الوحدة، ولقد رأينا كيف كانت القدس قبلة الجهاد والمقاومة، فانبرى الأبطال يفدونها، واستوى في ذلك النساء والرجال، والشيوخ والشباب والفتيان، ووقف المسلمون والمسيحيون صفا واحدا دفاعا عن مسرى النبي الكريم ﷺ، ومهد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، واتفقت مواقف الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة، حتى التي تؤمن منها بمشروع التسوية، وتعرضت المرجعيات الإسلامية والوطنية للقمع الإسرائيلي، ومن ذلك إصابة الشيخ عكرمة صبري، خطيب المسجد الأقصى المبارك، واعتقال القيادي حاتم عبد القادر، مسؤول ملف القدس في حركة فتح.

إن هزيمة خمس فرق عسكرية، أمام الثوار المؤمنين بحقهم في القدس والمسجد الأقصى، دليل لا يرقى إليه الشك، أن قوة الحق، متغلبة على باطل القوة، وأن المقاومة بكافة أشكالها، هي الطريق الوحيد لانتزاع الحقوق، واستعادة الهيبة والكرامة، وهنيئا لكم يا أهل القدس وفلسطين وأحرار الأمة، نصرا على طريق النصر.