محمد أبوغدير :
لقد كان شهر رمضان فرصة عظيمة لشحن القلوب بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته ، ووسيلة فعالة لكسر النفس وترقيق القلب بالصيام المفضي إلى الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والإستعداد ليوم الرحيل وذلك هو ثمرة تقوي الله التي هي مقصود الصوم .
وكان شهر رمضان منحة ربانية ليغفر الله ذنوب عباده الصائمين نهاره والقائمين ليله ، ومن ثمار المغفرة والإستغفار صلاح العبد وسعادته واستقامة أحواله ، وحصول الرضا والطمأنينة وراحة البال ، كما ان قيام اللّيل هو شرف المؤمن ويعطيه جلالًا ونورًا ، ويجنّبه الإعراض
الغفلة .
فإن ادرك المسلم فرص هذا الشهر ومنح الله فيه - السالف بيانها - اطمأنت نفسه ورق قلبه وزرفت دمعته خشية من الله تعالى ،
وكذلك إذا أشرقت روحه نثرت عبير المودة نسائم المحبة ، وبلسم الألم ودواء الحزن ، حصلت إبتسامته ، وإن إنقضى رمضان وفاتت هذه الفرص فلا نلومن إلا أنفسنا .
وبعد انتهاء هذا الشهر الكريم ، نقف عند الدمعة من خشية الله من خلال بيان فضلها ، وأسباب حصولها ونذكر امثله للبكائين خشية من الله تعالى .
وعن الإبتسامة عن الإبتسامة من حيث مفهومها ، وفوائدها ، وكونها طاعة وعبادة ، وفي ذلك كله الرسول قدوة لنا .
أولا : الدمعة خشية الله تعالى :
الدمعة خشية لله تعالى - كما سبق القول في المقدمة - هي ثمرة شهر من نتاج الطاعات التي مارسها المؤمن ، بها اطمأنت نفسه ورق قلبه زرفت عينه دمعة خشية .
وقد روي ان ابن المبارك جلس مع أصحابه يومًا فانطفأ السراج ؛ فقام رجل يُصلِح السراج، فلما اشتعل نظروا إلى ابن المبارك فإذا لحيته قد ابتلَّت بالدموع ! ، قالوا له : ما يبكيكِ يرحمك الله ؟! قال : تذكرتُ القبر وظُلمتَه .
سبحان الله ! هكذا السلف الصالح يبكي ظلمة القبر عندما ينطفيء السراج ؛ ونحن نبكي على فوات المسلسل التليفزيوني لو انقطع التيار الكهربائي .
فهيا نتحدث عن الدمعة من خشية الله من حيث فضلها ، ليدفعنا ذلك الى الهمة العالية للحصول على أسبابها ، لنصل إلى حال السلف الصالح في التحلى بها .
أ - فضل من أدمعت عينه من خشية الله :
من دمعت عيناه من خشية الله تعالى ، كان محلا لذكر الله تعالي في القرآن الكريم ، وينال حب الله تعالى ، ويظله الله يوم القيامة بظله ، وينجيه من نار جهنم ، فلا تمسه يوم القيامة ، ولا يدخلها ولا تراها عينه ، ودلائل ذلك في الآتي :
1 . تكريمه بذكر الله تعالى له في القرآن :
يقول الله سبحانه : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) المائدة: 83 ،
ويقول عنهم سبحانه أيضًا : ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) مريم : 58 .
ويقول كذلك : ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) الإسراء: 109.
2 . يحبها الله تعالى :
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تراق في سبيل الله... ) رواه الترمذي .
3 . يظله الله في ظله :
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»... وذكر منهم: «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) درواه البخاري ومسلم .
4 . ينجيه الله من النار :
عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله، ما النجاة؟"، قال: ( أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ) رواه الترمذي .
5 . لا تمس النار عينه :
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي .
6 . لا يدخل النار ولا تراها عينه :
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ) رواه الترمذي .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا ترى أعينهم النار : عين حرست في سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله» رواه الطبراني .
ب - أسباب حصول الدمعة خشية من الله تعالى :
على المسلم يستطيع أن يلتمس أسباب البكاء من خشية الله ، بأن يحاسب نفسه في حياته قبل أن تشهد عليه جوارحه يوم القيامة ، وأن يقرأ القرآن متدبرا لمعانيه ، وأن يحرص على سماع المواعظ المؤثرة من الصالحين ، وأن يتألم نادما على ما فرط في جنب الله ، ويخشى سوء الخاتمة ، وأن يذكر الله في خلوته وبيان ذلك ودلائله في الآتي :
1 . محاسبة النفس قبل أن تشهد عليه جوارحه :
يذكر قول الله تعالى فيقول : ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...) الآيات "فصلت".
2 . قراءة القرآن وتدبر معانيه :
قال تعالى : ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) الاسراء : 10 0 - 109
عَن ابن مَسعودٍ رضي اللَّه عنه قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ( اقْرَأْ علَّي القُرآنَ ) قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : ( إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ) فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً ) قال : " حَسْبُكَ الآن " فَالْتَفَتَّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ . رواه البخاري ومسلم .
3 . سماع المواعظ المؤثرة :
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه ـ وهو أحد البكّائين ـ قال : ( وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ) .
4 . أن يتألم نادما على ما فرط في جنب الله :
فدموعُ التائبين في جُنْحِ الليلِ تروي الغليل ، وتشفي العليل ، كما قال الإمام الطبري فـي تأويـل قوله تعالى (أَفَمِنْ هَـذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ ) النجم : 59،61 :
5 . البكاء شفقة من سوء الخاتمة :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما مرّ رسول الله صلى الله عليه والة وسلم بالحِجْر قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسَهم أن يُصيبكم ما أصابهم ؛ إلا أن تكونوا باكين " ، ثم قنّع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رأسه ، وأسرع المشيَ حتى أجاز الوادي ) . رواه البخاري ومسلم .
6 . أن يذكر الله في خلوته :
وعنه قالَ : قالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ واله وسَلَّم : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ : وذكر منها ، رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) رواه البخاري ومسلم .
ج - امثله لبكاء السلف الصالح خشية لله:
وهذه أمثلة راقية لمن فاضت أعينهم خشية لله تعلى وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم فهو أرقهم قلبًا وأخشاهم لله .
ثَبَت في الصَّحيحينِ ، عنِ ابن مسعود رضي الله عنه -: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( اقرأ عليَّ القرآن ) ، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل ؟ ! قال : ( إنِّي أحبُّ أن أسمعه مِن غيري ) ، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) النساء : 41 ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حسبك )، فإذا عيناه تَذْرفان .
وقد ثَبَتَ عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا صَلَّى سُمِع لصدره أزيز كأزيز المِرْجَل منَ البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدَّ غليانه؛ رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي.
قال أبو بكر رضي الله عنه: ( من استطاع أن يبكي فليبك ِ، ومن لم يستطع فليتباك ) .
خطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أهل البصرة فقال : ( أيها الناس ، ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع ، ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت ) .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ( لأن أدمع دمعة من خشية الله، أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار ).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما: إذا قرأ: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) سورة الحديد: 16 ، يبكي حتى يغلبه البكاء .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ( أبكاني ثلاث : هول المطلع ، وانقطاع العمل ، وموقفي بين يدي الله ، لا أدري أيؤمر بي إلى الجنة ، أم إلى النار )
وشكا رجل إلى أم الدرداء القساوة من قلبه ، فقالت: ( عُد المريض وشيع الجنازة واطلع في القبور ) .
ثانيا : الإبتسامة عبير المودة وبلسم الألم :
سبق القول في المقدمة أن المسلم إذا ادرك ثمرات هذا الشهر - السالف بيانها في المقدمة - رق قلبه وأشرقت روحه وحصلت إبتسامته التي نثرت عبير المودة ونشرت نسائم المحبة ، وكانت بلسم الألم ودواء الحزن ، على كل من حوله .
وفي هذه السطور القصيرة نتكلم عن الإبتسامة من حيث مفهوم ، وفوائدها ، وكونها طاعة وعبادة ، وفي ذلك كله الرسول قدوة لنا .
أ. مفهوم الإبتسامة :
الإبتسامة لغة : من التبسم وهو مبادئ الضحك ، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور ، فإن كان بصوت يسمع من بعيد فهو القهقهة ، وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم .
والإبتسامة نعمة عظيمة من نعم الله تعالى ، فهي سحر حلال تنبثق من القلب فتعطي الإنسان نشاطا وحيوية ، إن رسمها لنفسه ازداد بها قوة ، وإن أرسلها لقريب أشعره بالراحة ، وإن وجهها لمن لايعرفه صنعت معه صداقةً ، لذلك قال ابن عيينة رحمه الله: ( البشاشة مصيدة القلوب ).
ب - فوائد الابتسامة :
1. أنها باب من أبواب الصدقة والمعروف :
قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم : ( وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة ) رواه الترمذي .
وقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق ) رواه الحاكم والبيهقي .
2. أنها سبب في كسب مودة الناس ومحبتهم :
قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم : ( لن تسعوا الناس بأموالكم ، فليسعهم منكم بسط الوجه ) رواه الحاكم .
3. فيها ترويح للنفس ودواء للهموم وذهاب للغموم :
قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم : ( وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة ) رواه الطبراني في الكبير .
4. تجدد في النفس النشاط :
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه " إن هذه القلوب تمل كما تملّ الأبدان ، فابتغوا لها طرف الحكمة " .
5. أنها مظهر من مظاهر حسن الخلق :
قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ( أنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ) رواه مسلم .
6. فيها تأس بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم :
وقال عبدالله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه : " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه الترمذي .
وعن جرير بن عبد الله - رضى الله عنه- قال : ( ما حجبني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، ولا رآني إلا تبسّم في وجهي ) رواه البخاري
ج - الإبتسامة طاعة وعبادة :
1 . نبتسم لأنفسنا لنسعدها وندخل السرور إليها ، نبتسم عندما نحقق إنجازاً ولو صغيراً فإن ذلك يدفع إلى مزيد من العطاء والإنجاز ، نبتسم عند الإخفاق لأن ذلك خطوة على طريق النجاح .
2 . ونبتسم لأقرب الناس إلينا من الوالدين والزوجة والأولاد فهم أولى الناس بالابتسامة ، فكم تبددت جبال المشاكل فور تلقيها حرارة الابتسامة ، وسارعت بالانصهار والذوبان .
3 . ونبتسم لرفقاء العمل وجيران المنزل وتلاميذ الفصل ، لتفرج بها عنهم هموم قلوبهم و نداوي بها مكلومهم وننشط خاملهم و تفرح محزونهم .
د - الرسول قدوتنا في الإبتسامة :
1 . كان حال الرسول دائما التبسم :
وقال عبدالله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه : " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه الترمذي .
يقول جابر بن سمرة رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ( .... كان لا يضحك إلا تبسما ... ) رواه الحاكم .
2 . لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم وهو ينظر إلى مستقبل هذه الأمة :
عن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم فقلت: ما أضحكك، قال : ( أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة، قالت: فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها ) رواه البخاري .
ولقد ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو مبتسم ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي بهم، فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضح )