د. عز الدين الكومي:

 

منذ وقوع الانقلاب العسكري،على الرئيس "محمد مرسي" وعلى التجربة الديمقراطية الوليدة، وبين الحين والحين تطالعنا دعوات من هنا وهناك، تارة تنادي بضرورة عسكرة الثورة واستعمال السلاح، مع عدم إدراك خطورة مثل هذه الدعوات والتداعيات المترتبة عليها، واستغلال ذلك من قِبَل الإعلام المحلي والخارجي، وعدم إدراك ما يحدث من تدخلات في الشأن المصري عسكريا بزعم القضاء على الإرهاب، وعدم إدراك مَن الذي سيدعم الثوار عسكريا ضد الدولة العميقة من جيش وشرطة وقضاء وبلطجية وإعلام، مع حملات تشويه وتسفيه لمن يتبنى خيار السلمية، وتارة أخرى نرى دعواتٍ يُقصَد منها شق صف الشرعية، مثل دعوات الاعتراف بالأخطاء، وانعدام الرؤية وقصر النظر وضيق الأفق وعدم فهم اللعبة السياسية، والانخداع بالديمقراطية والثقة الزائدة بالعسكر، إلى دعوات الاصطفاف مع من كانوا سببا في وأد الديمقراطية، ودعم النظام الانقلابي واستجداء العسكر ليخلصوهم من الإخوان، إلى دعوات التصالح مع العسكر والقبول بالأمر الواقع، إلى دعوات خوض انتخابات 2018، والاعتراف بشرعية المنقلب، إلى احتمالات عودة مرسي صفر % واحتمالات عودة الشرعية أيضا صفر % ... وغيرها من الدعوات المشبوهة!!

وقد جعلتني هذه الدعوات الصفرية الأخيرة، أتخيل ما حدث للمسلمين الأحباش فى القرن التاسع عشر، عندما قام الإمبراطور(منليك الثاني) وبدعم أوروبي بشن حملة كبيرة على المسلمين، ونجح في احتلال مدينة "هرر" عاصمة إمارة "هرر" المسلمة، ومع ذلك زوّج (منليك الثاني) ابنته إلى (محمد علي) أمير "ويلو" لاجتذاب المسلمين، فأنجبت(ليج أياسو) الذي تسلم العرش بعد هلاك (منليك الثاني) عام 1913، فأظهر الإسلام، وبدّل علم الدولة إلى الهلال بدلا من الصليب، ثمّ نقل عاصمة حكمه إلى مدينة "هرر" الإسلامية، وبنى المساجد في مدن هرر، و"ديرداوا"، و"جكجكا"، فثارت ثائرة الكنيسة ورفضت تتويج (ليج أياسو)، وأصدرت قراراً بحرمانه من التاج، فهرب إلى (إريتيريا) وبقي هناك إلى أن قُبض عليه، وقتل على يد سفاح الحبشة "هيلا سلاسي"!!

والشاهد هنا أن (منليك) الصليبي قتل آلاف المسلمين الأحباش، ومع ذلك لم ينس المسلمون، ثأرهم حتى أن المرأة المسلمة الحبشية تضع على ثيابها شريطا أحمر تذكيرا بالثأر من الصليبين، والمسلم الحبشي عندما يبني بيتا يضع إطارا أحمرَ في أرضية كل غرفة ليذكره بالثأر من الصليبيين!! فالأحباش المسلمون لم ينسوا ثأرهم بعد قرنين من الزمان، ومع ذلك يأتي من يطلب منا الاستسلام ورفع الراية البيضاء، ويقدم لنا بيان الهزيمة والاعتراف بالأمر الواقع، كما أرادت لنا "كاترين أشتون"!!

ونفس الشيء يقال بالنسبة لرجال المقاومة الفلسطينية، الذين يقاومون المحتل بصدور عارية، على مدى سبعين سنة، رغم اعتراف العالم بالمحتل الغاصب، فهل يعقل أن نقول لحماس ومن معها فى خندق المقاومة: ارفعوا الراية البيضاء، واعتبروا "نتن ياهو" حاكما متغلبا، على الطريقة البرهامية، واقبلوا بالأمر الواقع لتعيشوا أذلاء فى كنف الصهاينة؟؟!! لكن مازال الفلسطيني فى الشتات، يحتفظ بمفتاح بيته ولا زالت الأجيال تتوارث هذه المفاتيح.

ولقد رأيت عجبا في مقاطعة "فالنسيا" بأسبانيا؛ رأيت شابا وقد أسلم حديثا، جاءني في يوم وفي يده لفافة، فظننتها بعض متعلقاته الشخصية، ولكن كانت المفاجأة أنْ أخرج مفتاحا قديما كبير الحجم، وقال: هذا مفتاح بيتنا الذي استولى عليه النصارى الأسبان، ومازال يحدوه الأمل أن يعود لبيته بعد قرون!!

وعقب الانقلاب الذي قام به "كنعان إفرين" في تركيا،حيث فرض العسكر دستوراً جديداًعام 1982، تضمن مادة تحول دون محاكمة العسكر، مهما اقترفوا بحق الشعب من جرائم، ولكن ألغيت هذه المادة بعد ذلك، وتم تقديم لائحة اتهام بحق كنعان إفرين في 2011، وقضت محكمة الجنايات في أنقرة بالسجن المؤبد عليه، في الثامن عشر من يونيو 2014، على خلفية قيادته الانقلاب العسكري، وقد بلغ من العمر ثمانية وتسعين عاما، ولكن قَدّم محاموه طعنا على الحكم الصادر بحقه، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على انقلاب 1980، الذي يعتبر الأكثر دموية في تاريخ تركيا، حيث اعتقل خلاله مئات الآلاف من الأشخاص، وحُوكم نحو ربع مليون شخص، وأُعدم خمسون معتقلًا، ومات العشرات تحت التعذيب في السجون، فضلًا عن فرار عشرات الآلاف من الأتراك إلى الخارج!!

فهل قال قائل للأتراك ارفعوا الراية البيضاء وأعلنوا الهزيمة، فلا مفر من بطش "إفرين" والعسكر، وارضوا بالأمر الواقع ؟؟!!

واليوم يخرج علينا أحد أصحاب الدعوات المشبوهة ليقول لنا: (احتمالات عودة د. "مرسي" 0%، واحتمالات عودة الشرعية 0%، ومافيش حاجه حاليا اسمها: إسقاط انقلاب، الإنقلاب نجح وانتهينا، واللغط بشأنه وبشأن 30 يونيو بقى أقرب للذكريات والتوثيقات التاريخية منه لكلام عن واقع، واحنا حاليا فى مرحلة جديدة من مراحل حكم العسكر مستقرة تماما من سنة على الأقل، ومافيش فى التاريخ ولا الجغرافيا حاجه اسمها انقلاب يسقط بعد أربع سنين ويرجع الرئيس اللي كان بيحكم من أربع سنين وانتهت مدته، والانقلاب بعد نجاحه أسس لعهد جديد من عهود الحكم في مصر، وأي كلام ضد هذا العهد مالوش دعوة بالأحداث التاريخية اللي حصلت من أربع سنين، وأي تطور هايحصل مستقبلا هايبقى بمعزل عن الأحداث دي و99% من الناس فاهمين ومتأكدين من النقطتين اللي فوق دول، ومعظم اللي بيتكلموا دلوقتي في عودة "مرسي" وعودة الشرعية وإسقاط انقلاب بيتاجروا بقصد أو بدون قصد بمشاعر وعواطف مجموعة من الموهومين على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي)!!

والسؤال هنا: من الذي أعطى هذا الشخص أو غيره الحق في أن ينصب نفسه متحدثا رسميا باسم الشرعية، أو على الأقل الرافضين للنظام الانقلابي الدموي، ولو استمر قرنا من الزمان ووصفهم بالموهومين ؟؟

إنه بيان انهزامي من بدايته إلى نهايته، خاصة عندما يقول: (ربنا يهني سعيد بسعيدة هو شعار المرحلة الحالية، وأن قائد الانقلاب بيحكم شعب، والشعب لا يبدي أي مقاومة للي بيتعمل فيه، وللي هايوصله له قائد الانقلاب مبروك عليهم، يتهنوا ببعض، الناس اللي ثارت من أول 25 يناير لحد دلوقتي ما ثاروش علشان نفسهم ثاروا علشان الشعب ده اللي ماطمرَتش فيه التضحيات سيبوهم واخلعوا ايديكم)!!

أهل الحق والإصلاح ودعاة الخير يقدمون الخير للناس، ولا ينتظرون جزاء ولا شكورا من أحد لا من الشعب ولا من غيره، هم ثاروا على الظلم والطغيان، وطلبا للحرية والكرامة، وسيثورون ضد كل ظالم مهما انتفش واستأسد الباطل، وقد ذكرت الأستاذة "شيماء" ابنة الرئيس "مرسي" أنها قالت لأبيها: قلت له ظناً منى أني أواسيه: "لا تحزن يا أبي، هؤلاء الناس لا يستحقون حاكماً مثلك، أنت نعمة كفروا بها فكان لا بد من نزعها منهم تأديباً، فهنيئا لهم ما اختاروا لأنفسهم، فهم لا يستحقون إلا من يذلهم، وينهب أعمارهم وأقواتهم وخيرات بلادهم، لكنه غضب بشدة، وصحح لي ما قلته، ومدافعا عن الشعب المصري، قائلا: الشعب المصري شعب مسكين، أُضعف لسنوات طويلة، عانى كثيرا من توالي الفجرة والمجرمين على حكمه، وهو يستحق حياة كريمة كباقي الشعوب"!!

وبعد كلام كثير ولت وعجن، يحاول أن يذكرنا بأنه صار بطلا لا يخشى لومة لائم من إعلانه بيان الهزيمة ولكن فقط أراد تقديم النصح والإرشاد للفاشلين المخدوعين الموهومين إلى ثلاثة أمور هامة وهى : إطلاق سراح المعتقلين بأي ثمن، وتوثيق الأحداث والجرائم بدقة وأدلة دامغة إن لم يكن من أجل يوم تعود فيه الحقوق ويحاسب فيه المجرمون فعلى الأقل حفظاً للتاريخ من التزوير، ثم الإعداد لعهد ما بعد قائد الانقلاب لعله قريب!!

وهنا نورد كلاما مهما لشهيد القرآن - سيد قطب ـ رحمه يقول فيه: بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعا ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء. ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء، لأن عمق جذورها في التربة يعوضها عن الدفء والهواء، مع أننا حين نتجاوز المظهر المزور البراق لشجرة الشر، ونفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها، تبدو لنا واهنة هشة نافشة في غير صلابة حقيقية ! على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجُمها به شجرة الشر من أقذاء وأشواك!!

إذا كان "الإخوان" قد ضعفوا واستكانوا وفشلوا حسب زعمكم، فلماذا تتكالب عليهم كل قوى الشر فى الأرض؟؟!!

وأخيرا حتى لو أنّ "الإخوان" قبلوا بالأمر الواقع ورفعوا الراية البيضاء هل سيتركونهم؟؟

لن يتركوك حتى لو اعتزلت في بيتك وأغلقت عليك بابك، طالما ضوء الحق ينفذ من شباك بيتك، فأنت تهديد يجب أن يزول !!

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر