د. فتحي أبو الورد :

 

ترحمت على فقيد الأمة الشيخ عمر عبد الرحمن عندما جاءنى نبأ وفاته في محبسه بأحد سجون الولايات المتحدة الأمريكية، وراجعت في الأيام الماضية بعض ما صدر عن الراحل الكريم، وما ذكره بعض إخوانه ورفاقه، قبل أن أسطر هذه الكلمات تثبتا ومذاكرة لما قد يكون غاب عن الذاكرة.

وخلصت إلى أنه –رحمه الله- رفض العنف صراحة وعلانية، وقال بصوت واضح مسموع، وبلسان عربى مبين من أعلى منصة لأشهر القنوات الفضائية الأمريكية وأوسعها انتشارا CNN: نحن لا نقر أى اعتداء لا على بنايات ولا على أشخاص، وهذا مسجل بصوته ومرفوع على الإنترنت، وكان واجبه الذى أخذه على عاتقه كما ذكر هو رفض الظلم والاستبداد وفضح الظالمين والمطالبة بمحاكمتهم.

وذكر بعض إخوانه أنه كان موافقا ومؤيدا ومباركا لمراجعات الجماعة الإسلامية التى تمت في مصر، والتى صححت بها ما وقعت فيه من أخطاء، وهذه منقبة لهم.

وكذلك لم تكن هناك فتوى صريحة من الشيخ عمر عبدالرحمن بقتل السادات، كما جاء في شهادة الشيخ أسامة حافظ، فقد كان حينها مختفيا بعد صدور قرار التحفظ الذى أصدره السادات، لأن اسمه كان أول اسم في قرارات اعتقالات السادات وقال: نحن لم نكن نعرف مكانه، واختلفنا في مجلس الشورى، وحينها قلت أنا وغيرى: إن هذه فتوى غير صريحة ولا بد من فتوى صريحة تجيز الاغتيال.

فهل بعد ذلك نصدق ادعاءات الكاذبين وأذنابهم الذين كذبوا وغدروا بالأبرياء وأقحموا اسم الشيخ ظلما في قضية تفجير مبنى التجارة العالمى بسيارة مفخخة عام 1993، وسلطوا عليه جاسوسا، وأخذوا ببعض كلامه وتجاهلوا بعضه الآخر، لكى يطبقوا عليه الخناق ويثبتوا الإدانة، بشهادة وزير العدل الأمريكى السابق نفسه رامزى كلارك، الذى قال: لم يكن هناك أى دليل يعتد به ضد الشيخ، فقد كان الشيخ يقوم بمهامه الدينية.حتى كان وزير العدل الأمريكى السابق نفسه يقول : أطلقوا سراح الشيخ، وأعيدوه لوطنه.

البعض منا تربى على ثقافة عجيبة،  تجعله يتشبث بأدلة الإدانة والإثبات، ولا يلقى بالا لأدلة البراءة والنفى، لا لشىء إلا لأنها كانت أسبق، على الرغم من أن الأخير ينسخ الأول، وأن المتأخر يمحو المتقدم، وأن آخر الأمرين هو الذى يصار إليه عند التحاكم والمخاصمة، إنصافا وخلقا وعدالة وديانة ونزاهة علمية.

كثيرون يحلو لهم التمسلك بمقال أو تصريح أو ما شابه لأحد الناس، ولا يعيرون تراجعه في اجتهاده، أو رأيه السابق أى اهتمام، لحاجة في أنفسهم.

إنها فتنة إلصاق النقائص بالغير، ومرض استعذاب واستحضار رؤية سلبيات الآخرين وترديد أخطائهم وإن تبرؤوا منها.. إنها آفة الباغين للبرآء العيب.

وفى مقام المواساة والتعزية والمصاب يغلب القلب على العقل، ويعطى المقام حقه من القيام بواجب العزاء والترحم وتجاوز الخلاف الذى علق بالذهن -إن وجد-، ويفىء العقل إلى الإنصاف إن كانت ثمة مغالاة قد حدثت، وتتغلب معانى الرحمة والإنسانية وهيبة الموت ورقدة الميت وضعفه على أية معان أخرى، حتى وإن اختلفت مع الميت في حياته.

لما مرت جنازة على النبى صلى الله عليه وسلم، وقف لها تعظيما لهيبة الموت، فقيل له: إنها جنازة يهودى. فقال ((أليست نفسا))، وفى رواية قال: ((إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)).

ولما ترك الزبير القتال ونزل واديا، تبعه عمرو بن جرموز، فقتله وهو نائم غيلة، وحين جاء الخبر إلى علي -رضي الله عنه- قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار.. وجاء ابن جرموز معه سيف الزبير، فقال علي: إن هذا السيف طالما فرّج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما طلحة -رضي الله عنه- فقد أصيب بسهم في ركبته فمات منه، وقد وقف عليه علي -رضي الله عنه- فجعل يمسح عن وجهه التراب، وقال: "رحمة الله عليك أبا محمد، يعز عليّ أن أراك مجدولا –صريعا-  تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة".

وقد روي عن علي من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين}. [الحج: 47].

ولما جاء نبأ وفاة عبدالناصر للأستاذ عمر التلمسانى وقد سجن ظلما في سجونه، كان أول ما قاله : الله يرحمه.

يؤسفنى أن أرى بعض الناس ينصب محاكمة للشيخ عمر عبدالرحمن عند نبأ وفاته، وقبل أن نعرف أية تفاصيل، وهل ستوافق الولايات المتحدة على أبسط مقررات حقوق الإنسان بالسماح له بدفنه في بلده كما كانت وصيته أم لا؟ وقبل أن يوارى جثمانه تحت الثرى، قبل هذا وذاك انبرى البعض يذكر فتاوى الشيخ القديمة، ويعيب مسلكه، وينكر على من ينعتونه بفقيد الأمة، يذكر هذا، وينسى آخر مواقفه بنبذ العنف ومباركته للمراجعات، وينسى كذلك أن الشيخ مات مظلوما في سجون الظالمين.

فهل هذه عقلانية وغيرة زائدة على صحيح النهج؟ أم أنها حشر للنفس للحديث عن الكبار؟  أم استعراض للقوة العقلية والنقدية؟

ذكرنى هذا بمقولة الأعرابى الذى خطّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اعدل يا محمد. أراد بذلك أن يقال: إنه حكيم استدرك على معلم البشرية.

وهناك بعض الناس يحكمون على المخالف وإن أخطأ في اجتهاده وكأنه كفر، ولا يفرقون بين جهاده واجتهاده، وأمثال هؤلاء لو وقفوا على آراء بعض الأئمة الأربعة لقالوا بتكفيرهم ولاتهموهم بالخروج عن النهج الصحيح.

لما تلقى أحد العلماء نبأ وفاة الشيخ أسامة بن لادن –رحمه الله-  وإن اختلفنا معه، وإن أخطأ في اجتهاده، ترحم عليه وقال: مسلم قتله أعداؤنا.

وأذكر أننى ترحمت على الراحل الكريم الدكتور محمد كمال –رحمه الله- حين بلغنى نبأ وفاته، فقال لى أحد أصدقائى: أليس هذا الذى اختلفتم معه؛ لأنه كان سيجر الجماعة للعنف؟.. فقلت له: حتى لو صدق هذا فهل معنى اختلافنا معه، أو خطئه في اجتهاده أنه كفر؛ فلا يجوز الترحم عليه والصلاة عليه؟ إذا كان هذا فهمنا، فيا فرحة أعدائنا ببعضنا!!

عزائى في هذا المقام أن جنازة الشيخ كانت استفتاء وشهادة على حبه ومكانته في قلوب أبناء الحركة الإسلامية على تعدد فصائلهم، وفى قلوب أهل بلده، والجنائز هى الفارق بين أهل البدع والزيغ وأهل الحق، ولذلك كان يقول الإمام أحمد: بيننا وبينكم الجنائز.

رحم الله الشيخ عمر عبدالرحمن.. وتقبل جهده وجهاده في سبيل دينه، وتقبله في الصالحين..

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر