من أعظم الانتصارات التاريخية التي تمثل إعجازًا في تاريخ الحروب، هي انتصار الجيوش قليلة العدد والعتاد على ما سواها بشكل مستمر، ولكن هذه الانتصارات كانت لها شروط خاصة؛ أولها التعلق بالله واليقين بأن النصر من عند الله والهدف أن تكون هذه المعارك في سبيل الله، مع الأخذ بالأسباب المؤدية إلى النصر.

ويقدم نافذة مصر لمتابيعيه سلسة بعنوان "أعظم 10 معارك حارب فيها المسلمون كان عددهم أقل من نصف عدوهم" تباعا، واليوم نتابع سادس هذه المعارك:
 


معركة نهاوند .. فتح الفتوح
المسلمون : 30 ألف مقاتل ـــ الكفار : 150 ألف مقاتل



معركة نهاوند من المعارك الفاصلة في الفتح الإسلامي لفارس. وقعت في خلافة عمر بن الخطاب، سنة ٢١ هـ ( ٦٤٢ م) وقيل سنة ١٨ أو ١٩ هـ قرب بلدة نهاوند في فارس، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً بقيادة النعمان بن مقرن على الفرس الساسانيين ، بانتصار المسلمين انتهى حكم الدولة الساسانية في إيران بعد أن دام حكمها ٤١٦ عاما.

أسباب المعركة

لما انتصر المسلمون في القادسية على الفرس كاتب يزدجرد أهل الباب والسند وحلوان ليجتمعوا فيوجهوا ضربة حاسمة للمسلمين، فتكاتبوا واجتمعوا في نهاوند.

وأرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر : (بلغ الفرس خمسين ومائة ألف مقاتل، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك).فأرسل عمر إلى سعد محمد بن مسلمة ليخبره أن يستعد الناس لملاقاة الفرس، فغادر سعد الكوفة إلى المدينة ليخبر عمر بخطورة الموقف و يُبيّن له الأمر، فجمع عمر المسلمين في المدينة، وخطب فيهم وشرح لهم خطورة الوضع، واستشارهم، وأشاروا عليه أن يقيم هو بالمدينة، وأن يكتب إلى أهل الكوفة فليخرج ثلثاهم لمساعدة الجيش الإسلامي وأهل البصرة بمن عندهم.

ثم قال عمر : أشيروا عليّ برجل يكون أوليه ذلك الثغر غداً، فقالوا : أنت أفضل رأياً وأحسن مقدرة، فقال : أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة – أي : أول من يقابل الرماح بوجهه – إذا لقيها غداً، فقيل : من يا أمير المؤمنين ؟ فقال : النعمان بن مقرن المزني، فقالوا : هو لها.

من هو النعمان بن مقرن المزني ؟

النعمان بن مقرن المزني صحابي جليل من صحابة رسول الله ، أمير قبيلة مزينة التي تسكن قريباً من المدينة المنورة، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه ومعه الهدايا معلناً إسلامهم جميعاً ففرحت المدينة أشد الفرح بهذا الخبر إِذ لم يسبِق لِبيت مِن بيوت العربِ أن أسلم منه أحد عَشَرَ أخاً من أبٍ واحد ومعهم أربع مائة فارِس، قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم :{ ان للإيمان بيوتا و للنفاق بيوتا، وان بيـت بني مقرن من بيوت الايمان }.

نزل فيهم قوله تعالى :{{وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤمِنُْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِر، وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ، وَصَلَوات الرَّسُولِ، ألاَ إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيمُ}} ، ولقد شهد النعمان الغزوات كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم وكان له ولقبيلته دور بارز في محاربة المرتدين.

الاستعداد للمعركة

ندب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن لهذه المهمة الجليلة فكتب إليه قائلاً: "فإنه قد بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم ولا تمنعهم حقًّا فتكفرهم ولا تدخلهم غيضة, فإن رجلاً من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار والسلام عليكم".

وتعتبر نهاوند مدينة حصينة تقع على ربوة شاهقة ارتفاعها ٦٠٠٠ قدم. وكان عمر بن الخطاب يمنع المسلمين من الانسياح والقتال في المناطق الجبلية لكونهم لم يعتادوها. وقد اجتمع للفرس في نهاوند ١٥٠٠٠٠مائة و خمسون الف مقاتل، ناهيك عن مراكز الإمدادات في اذربيجان واصبهان. وفي المقابل كان جيش المسلمين بقيادة النعمان بن مقرن المزني، و كان الخليفة عمر بن الخطاب قد أوصى إن استشهد النعمان بن مقرن كان مع المسلمين حذيفة بن اليمان، فإن استشهد كان مع المسلمين نعيم بن مقرن. وقد جمع الخليفة لهذا الجيش ثلثي قوات الكوفة والبصرة حتى بلغت ٣٠٠٠٠ ثلاثون الف مقاتل،

انسحاب الفرس و تحصنهم

فسار النعمان بالجيش والتقى الجمعان، ودارت المعركة حتى ألجـأ المسلمون الفـرس إلى التحصـن فحاصروهم وطال الحصـار عدة أسابيع وفكر المسلمون في طريقة يستخرجون فيها الفرس من حصونهم لمناجزتهم،و كان الفرس يبنون امام خنادقهم المحصنة موانع تتكون من حسك الحديد اشبه بالخوازيق لكي تعرقل هجوم الخيل والمشاة.

حصارنَهاوَنْد

وكما ذكرنا حصن نَهاوَنْد فوق جبل عالٍ، ومكان الحصن كان يعطي قوة كبيرة للفرس، فبينما هم بالداخل كان المسلمون أسفل الحصن، وبإمكان الفرس أن يصلوا إلى المسلمين بسهامهم، ومن الصعوبة أن يصلهم المسلمون بسهامهم، فكان الحصار فيه مشقة كبيرة على المسلمين، فصَبَرَ المسلمون كعادتهم في القتال واستمروا في حصار الحصن فترة تقترب من الشهر، وكانت من أشد الفترات على المسلمين، وكان الحصار أصعب من حصار "تُسْتَر" بالرغم من أن حصار تستر استمر عامًا ونصفًا، إلا أن هذا الشهر كان في غاية الصعوبة فقد تزامن مع فصل الشتاء، وكان الجو شديد البرودة خاصة في المرتفعات، ولم يتعود المسلمون من قبل على مثل هذا الجو من البرد، فقد نشأ غالبيتهم في الصحراء العربية المعروفة بشدة الحر، ورابط المسلمون وتحملوا المشقة منتظرين نصر الله تعالى القريب.

خطة الجيش الاسلامي لنشب القتال

عقد النعمان مجلسا للتشاور مع قادة الجيش في الكيفية التي يمكن ان تدفع الفرس للخروج من مواقعهم لمقاتلة المسلمين خارج المدينة. وكانت هناك ثلاثة خيارات:

الاول ويقضي بالمطاولة في هذه الحال من الحصار بأمل ان يستسلم الفرس تحت الضغط، والثاني باقتحام التحصينات عنوة. وقد رفض الاول لأنه ليس من صالح المسلمين تجميد الموقف على ما هو عليه لكونه يحط من روحهم المعنوية وقواهم المادية. كما رفض الخيار الثاني لما يسببه من خسائر شديدة للمسلمين.

أما الخيار الثالث وهو ما تم الاتفاق عليه فيقضي بخداع الفرس بالهجوم عليهم ثم اظهار الانسحاب بواسطة مفرزة من الفرسان، وهو ما يمكن ان يغري الفرس على الخروج من مواقعهم لمطاردة المسلمين. وفي هذه الحال يمكن ادارة معركة متكافئة بين الجانبين في العراء.

وقع اختيارالنعمان على فارس من فرسان المسلمين لا يشق له غبار . فأمر النعمان القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فتحرك في الظلام ناحية مدينة نَهاوَنْد، وفي الوقت نفسه ينسحب الجيش الإسلامي ويختفي وراء جبل من الجبال البعيدة، ولم يظهر أمام نَهاوَنْد إلا القوات التي مع القعقاع بن عمرو التميمي.

تقدم القعقاع بن عمرو نحو خنادق الفرس وحصونهم وتحرش بهم و رماهم بالسهام. فنشب القتال بعد احتجاز من الفرس فأخرجهم القعقاع من مواقعهم وجعلهم يقاتلون قواته. وهو يتراجع ويتراجع على مراحل حتى لا تنكشف خطة الخداع. وكان حريصاً على إظهار مظهر انهزام المسلمين. وهي بالطبع مهمة صعبة نجح القعقاع في أدائها في الوقت الذي كان النعمان ينتقل بقواته الى موقع آخر وراء ما كان يقف فيه كلما تراجع القعقاع حتى يخفي قواته عن عيون الفرس الذين ظلوا يخرجون من مواقعهم ويلقون بمجموعات من فرسانهم تباعاً ضد القعقاع بعد ان ظنوها فرصة ينبغي استغلالها لفك الحصار عن مواقعهم حتى لم يبق في حصونهم الا من يقوم على ابوابها.

وكان الفرس في تحركهم خلف القعقاع يزيلون حسك الحديد من امامهم، وظل الامر كذلك حتى رجع القعقاع بقوته تماماً الى موقع القوة الرئيسية للجيش وانقطع الفرس عن مواقعهم بينما باقي الجيش بقيادة النعمان ينتظر في صمت.

المعركة

وفي يوم الاربعاء ٢٦ رمضان، وقد تم ما حدث في صدر النهار ء ولم يكن الظهر قد حل بعد ء امر النعمان المسلمين ان يلزموا اماكنهم ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم. وظل الفرس يرمون المسلمين بالنبل وهم يستترون بالتلال والدروع لا يتحركون على رغم ما أصابهم من جراح. وعندما ضغط قادة المسلمين على النعمان لكي يعطي اوامره بالقتال و جاءه المغيرة بن شعبة وقال: إن القتال قد اشتد على القعقاع ومن معه، ولا أرى ذلك رأيًا، ولو كنت مكانك لناهدتهم. فقال النعمان: رويدًا رويدًا ترى أمرك، نحن نرجو في المكث ما ترجو أنت في الخروج.

انتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال، وصلَّى الجيش صلاة الظهر، ووقف النعمان يخطب في المسلمين، وقال: "قد علمت ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم أوله وسيلحق بكم آخره، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد الله حقًّا وأولياؤه، وقد ترون ما أنتم بإزائه من عدوكم، وما اخترتم وما اختاروا لكم، فأما ما اختاروا لكم فهذه الرثَّة وما ترون من هذا السواد، وأما ما اخترتم لهم فدينكم، ولا سواء ما اخترتم وما اختاروا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحمى منكم على دينكم، وأتقى عبادِ الله رجلٌ صَدَقَ الله، وأبلى بنفسه فأحسن البلاء، وإنكم تنتظرون إحدى الحسنيين: من بين شهيد حيٍّ مرزوقٍ أو فتح قريب، فليكفِ كل رجل ما يليه، ولا يكلْ أحدكم قرنه إلى أخيه، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فعلى المسلم أن يكفي نفسه ويحاول أن يكفي غيره، فكل رجل منكم مُسلَّط على ما يليه". هذا بينما القعقاع وفرسانه يقاتلون الفرس في صبر و شجاعة منتهية النظير.

قام النعمان بشد أزر رجاله وطلب منهم ان يحملوا على عدوهم عقب التكبيرة الثالثة ثم اتجه الى الله تعالى داعياً "اللهم اني أسألك ان تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الاسلام، وذُل يُذَل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذلك على الشهادة واجعل النعمان اول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادتك". ثم طلب من المسلمين "أمّنوا يرحمكم الله"، فأمّن المسلمون وبكوا.

ورجع النعمان الى مركز قيادته وكبر الاولى ثم الثانية ثم الثالثة، فانقض المسلمون على أعدائهم. يقول جبير الراوية "فوالله ما علمت من المسلمين احداً يومئذ يريد ان يرجع الى اهله حتى يُقتل او يظفر فحملنا حملة واحدة وقد ثبتوا لنا". وجرى الاقتتال بالسيوف واستـمر حتى هبوط الليل. وكثر قتلى الفرس حتى صارت ارض المعركة دماءً يزلق فيها الناس والدواب، وزلق فرس النعمان فلقي مصرعه، وكان اخوه نعيم بن مقرن قريبا منه فأسرع وتناول الراية قبل ان تقع وسجى النعمان بثوب وأخفى الخبر عن باقي المسلمين. ثم أتى حذيفة بن اليمان من الميمنة واستلم الراية لكونه خليفة النعمان. استمر القتال حتى أظلم الليل فانكشف الفرس وتراجعوا فسقط منهم الكثير في جرف عميق مات فيه ثمانون الفاً، خلاف ثلاثين الفاً ماتوا في المعركة مقرنين بالسلاسل، كذلك من مات في المطاردة.

ويروي من حضر هذه المعركة من المسلمين أنهم لم يروا مثل شدته قطُّ، فكل معركة مع الفرس كانت أشد من سابقتها، فكانت القادسية من أشد المعارك على المسلمين، ثم كانت جلولاء أشد من القادسية، ثم كانت تُسْتَر، ثم نَهاوَنْد فكانت أشدها.

وعند إنتهاء المعركة تساءل المسلمون عن اميرهم فأخبرهم اخوه معقل بن مقرن "إن الله أقر عينه بالفتح وختم له بالشهادة". فبايع الجنود حذيفة وكان الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة يستنصر لهم ويدعو لهم الله تعالى. اما الفرس فلم يفلت منهم الا من شرد وكان منهم قائدهم فيرزان الذي هرب مع الفلول الى همذان الواقعة الى شمال نهاوند بـ١٠٠ مائة كلم.

كترة الغنائم
كان الخليفة عمر بن الخطاب قد ولَّى السائب بن الأقرع وهو من صحابة النبي على جمع الغنائم، رغم قلة عدد المسلمين وكثرة عدد الفرس لآنه كان واثقًا في النصر، فولَّى من يجمع الغنائم ويقسمه.

وبعد انتهاء المعركة دخل السائب بن الأقرع إلى مدينة نَهاوَنْد التي خَلَتْ من المقاتلين الفرس ليجمع الغنائم،و قد جاءه "الهربذ" صاحب بيت النارمقابل الأمان بجوهرًا نفيسًا في سفطين –وعائنء من جواهر يزدجرد كسرى فارس، لما دخل المسلمون المدينة قسَّم السائب بن الأقرع الغنائم على المسلمين بعد جمعها، وقسم كل الغنائم ما عدا السفطين، فكان نصيب الفارس ستة آلاف درهم، ونصيب الراجل ألفا درهم، فالفارس يأخذ من الغنائم ثلاثة أضعاف الراجل لإنفاقه على فرسه، وبقي السفطان، فقال حذيفة: ماذا نفعل بهم؟ فقال السائب: والله لا أرى إلا أن نرسلهما إلى الخليفة عمر في المدينة. فوافقه المسلمون على ذلك، فحمل السائب بن الأقرع السفطين مع خُمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب، .

كان الخليفة يخرج كل يوم ليطمئن على أخبار الجيش ويدعو لهم ، فرأى السائب بن الأقرع قادمًا عليه فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيرًا يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك وأعظم الفتح. وسمي هذا الفتح في التاريخ فتحَ الفتوح، ورغم المعارك التي سبقت هذا الفتح إلا أن كسر شوكة الفرس في هذه المعركة كان شديدًا، وكان القتال في عمق بلاد فارس مما هَزَّ الدولة الفارسية.

ما بعد المعركة

مع انهيار التماسك الفارسي في الجبهة، عاد نعيم بن مقرن يقود المقدمة ويطارد فلول الفرس الهاربة نحو همذان حتى دخولها فاستسلم حاكم المدينة للمسلمين على ان يضمنوا له الأمان. وقبل المسلمون ذلك وبلغ اهل مدينة الماهين خبر استسلام همذان فاقتدوا بما فعل اهل همذان وارسلوا طالبين الامان الى حذيفة فأجابهم.