في ظلال القرآن " أيه ومعني .. الجزء الثاني والعشرون" - اعداد فريق " نافذة مصر " - سورة الأحزاب
المصدر : كتاب " ظلال القرآن " لـ المفكر الشهيد " سيد قطب " .
من الاية 10 الى الاية 12
إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12)
ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ; وإذ زاغت الأبصار , وبلغت القلوب الحناجر , وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم:يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبي , يقولون:إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة . إن يريدون إلا فرارا . .
إنها صورة الهول الذي روع المدينة , والكرب الذي شملها , والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ; وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب , وظنها بالله , وسلوكها في الشدة , وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته , وكل انفعالاته , وكل خلجاته , وكل حركاته , ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه: إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس: (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر). . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق , يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
(وتظنون بالله الظنونا). . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج , وذهابها كل مذهب , واختلاف التصورات في شتى القلوب .
ثم تزيد سمات الموقف بروزا , وتزيد خصائص الهول فيه وضوحا:(هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). . والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولا مروعا رعيبا .
قال محمد بن مسلمة وغيره:كان ليلنا بالخندق نهارا ; وكان المشركون يتناوبون بينهم , فيغدو أبو سفيان ابن حرب في اصحابه يوما , ويغدو خالد بن الوليد يوما , ويغدو عمرو بن العاص يوما , ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوما , ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما . ويغدو ضرار بن الخطاب يوما . حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا .
ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع . قال:
ثم وافى المشركون سحرا , وعبأ رسول الله [ ص ] أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل , وما يقدر رسول الله [ ص ] ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم . وما قدر رسول الله [ ص ] على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء " فجعل أصحابه يقولون:يا رسول الله ما صلينا ! فيقول . ولا أنا والله ما صليت ! حتى كشف الله المشركين , ورجع كل من الفريقين إلى منزله , وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق , فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة - وعليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة , فزرق وحشى الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق , فقتله كما قتل حمزة - رضي الله عنه - بأحد . وقال رسول الله [ ص ] يومئذ:" شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر . ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا " . .
وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا - ولا يشعر بعضهم ببعض , ولا يظنون إلا أنهم العدو . فكانت بينهم جراحة وقتل . ثم نادوا بشعار الإسلام ! (حم . لا ينصرون)فكف بعضهم عن بعض . فقال رسول الله [ ص ]:" جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد " . .
ولقد كان أشد الكرب على المسلمين , وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق , ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم . فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق , وأن تميل عليهم يهود , وهم قلة بين هذه الجموع , التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة .
ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف:
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا). .
فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل , والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد ; وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله , وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون . فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك . وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم ; فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل , وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل ! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين !
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة ; وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء . فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان