بقلم: عامر شماخ 

تأتى ذكرى ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم وأمته فى حال الشدة والضعف، وقد استهانت بها الأمم الأخرى، يتخطفها القوى  والضعيف، والعظيم والحقير، وما انهزمت تلك الهزائم وهوت إلى هذا الدرك إلا لبعدها عن طريق الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتنكبها صراط الله المستقيم.

 

وفى هذه السطور نذكِّر بفضل المصطفى صلى الله عليه وسلم علينا وعلى العالمين، وحقه علينا -نحن المسلمين- لعل الله يهيئ  آذانًا صاغية وقلوبًا حية فيكون الخير، ويكون الوعى، وتكون الصحوة فإن هذه الأمة لن تحرم الخير إلى يوم القيامة، ومهما تكالب عليها الأعداء، ومهما اجترأ عليها الكفار، ومهما خانها المنافقون فستظل واحة وارفة الظلال بصالحيها وقرآنها وحكمة النبى الخاتم، يؤوى إليها كل شقى، ويبحث عنها كل محروم، ويحن إليها كل متعطش إلى وحى السماء، وكل راغب فى العزة، والكرامة، والحرية، والنور بعيدًا عن كهنوت الأديان وجبروت السلطان وطغيان المادة وسحر الساحرين.

 

لقد كان لمحمد بن عبد الله، الذى ختم الله به الأنبياء وبرسالته الرسالات، فضل إخراجنا من الظلمات إلى النور، ومن الجهالة والضلال إلى آفاق العلم والهدى، وقد أحيا القلوب بعد موات، ولم الشعث، ووحد الصف، وعصم الدماء، وزكى الأموال، وطهر الأعراض، وشرح الله به الصدور، واستوت به النفوس، وكان والنور الذى أنزل به رحمة وبشرى للعالمين، وهل هناك أعجب من رجل كان قاتلا قاطع طريق سكيرًا عربيدًا، ثم يصير على يد محمد كثير الدمع، شديد الخوف من ربه، يغشى عليه إذا سمع آيات العذاب، وفى الوقت ذاته يخافه الشيطان، ويهابه العرب والروم والفرس على السواء؟!

 

إنها النبوة الخاتمة التى أقالت عثراتنا، وأخرجتنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

 

إنها النبوة التى أعزت أقوامًا وأذلت آخرين، وحررت العبيد، وأنصفت المظلومين، وأزالت حواجز بين البشر، صنعها الجبابرة، ما كان لها أن تصنع.

 

إنها النبوة التى جعلت (زينب) ذات النسب تحت (زيد) غير النسيب، والتى جعلت (بلالا) الحبشى الأسود يفاخر بنسبه إلى الإسلام، ويصاهر من كانوا يأنفون -من قبل- أن يكون رقيقًا من أرقائهم.

 

إنها النبوة التى هذبت السلوك، وفجرت ينابيع الرحمة فى القلوب، وصفعت كل متكبر متجبر أرعن دون تردد، وهى التى جعلت الناس جميعًا، ذكرانًا وإناثًا، على الخلافات التى بينهم، سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

 

ولا يتسع المقام لما أكرمنا الله به على يد النبى المصطفى، هذا فى الدنيا، أما فى الآخرة فإن له يدًا أخرى، بل أياد، على أمته وعلى العالمين، فإنه يوم القيامة يكون صاحب شفاعات ثلاث:

 

الأولى؛ شفاعته للبشرية جميعًا،؛ إذ بعدما يتردد الناس على الرسل ويردونهم يأتون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، الذى يدخل على ربه بشتى أشكال المحامد والعبودية خارًّا ساجدًا لعظمته -تعالى- فيقول له ربه: يا محمد!! ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعط، واشفع تشفع» [البخارى] فيشفع.

 

أما الشفاعة الثانية فهى خاصة بأمته، التى كان يبكى فى حياته من أجلها، يقول صلى الله عليه وسلم: «يارب أمتى، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» [البخارى].

 

أما الشفاعة الثالثة فهى لأهل التوحيد ممن أدخلوا النار لمعاص ارتكبوها، فيأتى صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رب! أمتى أمتى، فيقال: انطلق فأخرج من كان فى قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، يقول: فأنطلق فأفعل» [البخارى].

 

فإذا كنا نحتفل بذكراه هذه الأيام، فليكن الاحتفال قيمًا بمقامه صلى الله عليه وسلم، على ما أوصى به العلماء، قالوا:

 

بحبه صلى الله عليه وسلم حبًا يفوق حب الوالد والولد، وفى ذلك أحاديث كثيرة، نذكر منها ما رواه البخارى: «فو الذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» وما رواه الشيخان: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

 

باتباعه، على أن يكون هذا الاتباع ترجمة فعلية لهذا الحب، وأن يكون اقتداء وتأسيًا، وتعظيمًا، وتوقيرًا {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32]، {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21.]

 

- بذكره والثناء عليه، والدعاء له، والأحاديث فى هذا الباب كثيرة، نذكر منها: «من صلى علىَّ واحدة صلى الله عليه عشرًا» [مسلم]، خصوصًا أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أمر من الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

 

بالتحاكم إلى ما أنزل الله إليه، من كتاب وحكمة، وأن تكون مرجعيتنا لدستور السماء، فهذا مما أكده القرآن الكريم {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

 

- بموالاة أوليائه وبغض أعدائه، وهذه أعلى درجات حبه صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].

 

اللهم آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقامًا محمودًا الذى وعدته، إنك لا تخلف الميعاد.. آمين، والحمد لله رب العالمين.