وليد شوشة :

كان الترتيب لفض اعتصامي رابعة والنهضة قد تم إعداده ليخرج بالشكل الذي تم به، على طريقة مكيافيللي في (الأمير): "من يصبح أميراً لمدينة حرة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي هي عليه، لأنها ستجد دائماً الدافع للتمرد باسم الحرية..لذلك فإن الطريقة الأكيدة هي إما أن نخربها أو أن نقيم فيها". لذا كانت كل أحداثه من قتل وحرق، ووحشية وتعذيب، وإهانة، مقصودة ومستهدفة لذاتها، ولم تكن أبداً رد فعل أو مقاومة كما قيل!

 لقد حدثت تلك الجريمة الشنيعة باتفاق قادة المجلس العسكري والجيش، وقيادات الشرطة، والقضاء، وزعماء جبهة الإنقاذ، والإعلاميين، وتبريكات رجال الدين الإسلامي والمسيحي، وغيرهم. وبرضا الولايات المتحدة وأوروبا وتبريكات الكيان الصهيوني، ودعم مالي من بعض الدول العربية.

وفي اليوم التي كانت تسيل الدماء فيه أنهاراً، وتعلو صرخات المحاصرين فوق ضجيج القاهرة، كان المصريون يغطون في نومهم العميق، ويغضون الطرف شماتةً ورضاً، أو خوفاً وقهراً.

كان الاتفاق والاجماع على اختيار الوحشية والقتل عنواناً للفض، مهما كان عدد القتلى، ومهما كانت الدماء، ومهما كانت التكاليف والخسائر، ومهما قيل عنهم. وهذا ما أكده حازم الببلاوي رئيس الوزراء إبان الفض. وهذا ما فعله الجنرال بينوشي وأنصاره حيث حول سانتياجو إلى ساحة حرب بعد انقلاب سبتمبر1973، وأطلقت الدبابات الصواريخ، وتعرضت المباني الحكومية للقصف بالمقاتلات النفاثة. وكان بينوشى يهيمن على الجيش والشرطة ولم يكن للرئيس سلفادورآلندي سوى ستة وثلاثين مناصراً يقاومون من داخل القصر الجمهوري ومع ذلك أطلق الجيش أربعة وعشرين صاروخاً عليه. لقد أراد بينوشى أن يكون الانقلاب تراجيدياً ومأساوياً.

بالرجوع إلى الميدان نجد أن أعداده كانت تتزايد، وكانت الروح المعنوية للمعتصمين ترتفع يوماً بعد يوم، وبدأت التقارير الصحفية اليومية تخرج منه، والقنوات تتوافد إليه لتنقل الأحداث على مدار الساعة، وكانت الصورة المنقولة في معظمها جيدة المحتوى والتأثير، وتقارير مراسل الجزيرة عبد الله الشامي على سبيل المثال خير شاهد.

بمرور الأيام بدأ زخم الميدان يزداد وبدأت المنصة في قيادته بحماسة بالغة، ومن فوقها ألهبت خطب السياسيين والمشاهير ورجال الأزهر والرياضيين والقضاة والعلماء والخطباء والوزراء وغيرهم مشاعر المعتصمين والمتابعين.

ومع ذلك لم يكن هناك رؤية واضحة لتحالف دعم الشرعية لإدارة الصراع ومستقبله. فاختيار مكان الاعتصام لم يكن موفقاً لوقوعه بين المباني العسكرية، وبعيداً عن التأثير. كما أن الاعتصام كوسيلة ليست كافية لكسرالانقلاب وإعادة الرئيس المختطف، ولم تهتز ثقة قادة التحالف بالجيش المنقلب، ولم يظنوا أبداً– وبعض الظن حق - أن الميدان سوف يُفض بالقوة والقتل. ولا أدري لماذا؟ وشواهده كانت حاضرة إن لم تكن من يوم أحداث محمد محمود، فمن يوم مجزرة الحرس الجمهوري! ولو كانت هناك دراسة لهذا الاحتمال ولو كان بنسبة تحقق1% لتغير الوضع، ولأوجد الاسلاميون البدائل والحلول والمخارج، وتجنبوا المحنة والخسائر.

ثم بدأ تنظيم الميدان وابداعاته تتجلى، وبدأت المسيرات تخرج منه ولمسافات طويلة وأماكن بعيدة وتعود إليه، لتنقل نبضه وتكسب له المزيد من الأنصار والمتعاطفين.

ساعتها أحس الانقلاب بأن الوضع ربما يخرج عن سيطرته، والوقت لم يعد في صالحه. فبدأ يذيع أن الاعتصام سوف يُفض بالقوة مراراً، وبدأت ماكينة الإعلام في تهيئة الشارع للفض بقدر كبير من التضليل.

 لقد تأكد العسكر بعد كل هذه الأحداث، وبعد دراسة جيدة للميدان، وبث العيون فيه لرفع التقارير والوقوف على كل ما يدور بداخله، وعلى قدراته الردعية وإمكانية المواجهة؛ أن قادة التحالف لن يبادروا بالرد أو المقاومة وليست لديهم الإمكانات، ومع ذلك ظل اتهامهم بحيازة الأسلحة على طول الخط.

ولم يكن الانقلاب يعنيه أعداد المعتصمين، ولم يكن حريصاً على دمائهم. ومن ظن أن اختيار تاريخ ووقت الفض يرجع إلى الحرص على المعتصمين. فهو مخطئ.

لأنه جاء بخيله ورجله عند شروق الشمس، وبدأ بكل أشكال القتل، واستخدم الطائرات، والمجنزرات والمعدات الثقيلة والأسلحة الرشاشة، وحاصر الميدان من كل جوانبه، ومنع الدخول إليه والخروج منه، ولم يفتح ممراً آمناً أو ممرات للخروج. ولم يستخدم المياه أو قنابل الغاز للتفريق. بل انتشرت القناصة في كل مكان يقتلون كل من يتحرك، وحرقوا الأحياء وقتلوا المصابين، وأحرقوا المسجد، والمستشفى الميداني، وجرفت الجرافات جثث الشهداء.

كان قادة الانقلاب يعتقدون في استخدام الوحشية والقتل للفض، مستخدمين (عقيدة الصدمة) ليصطادوا عصفورين بطلقة واحدة : المعتصمون الذين لم يراودهم أدنى شك في الفض بهذه الوحشية .والشعب ليأخذ العبرة والعظة مما حدث، ولذا تم التنكيل بكل القامات المؤيدة والداعمة للتحالف وإن لم تنتمي له- المستشار محمود الخضيري نموذجا- لتصل الرسالة إلى الشعب بأنه لا كرامة لأحد.

ونجحت خطة العنف والوحشية في القتل، وانتقلت من الاعتقال إلى الاغتيال، ومن الاختفاء القسري إلى التصفية الجسدية.

لقد أحدث الإفراط  في العنف، وصدمة القتل، وبشاعة الفض، نتائج خطيرة على مناهضي الانقلاب. منها:

•    القضاء على فكرة الاعتصامات والتجمع في الميادين، وإغلاقها أمامهم تماماً.
•    ضعف التظاهر تدريجياً، وخفوت صوته، وقلة أعداد المتظاهرين.
•     تسلل خوف البطش والاعتقال والقتل إلى نفوس المتظاهرين، والمتعاطفين معهم .
•    قتل أعداد كبيرة من رافضي الانقلاب، منذ الحرس الجمهوري وحتى الآن، مما أحدث صدمة رهيبة ما زالت آثارها باقية في النفوس.
•    اعتقال الألاف، والتنكيل بهم داخل السجون والمعتقلات، والحكم عليهم بعشرات السنين وملايين الجنيهات من الغرامات، فأثرعلى المعتقلين وأسرهم، من فقدان وظائفهم وضياع رواتبهم، وارهاق ميزانيات بيوتهم.
•    تشريد الآلاف، وملاحقتهم ومطاردتهم، ففقدوا وظائفهم وهجروا بيوتهم، واضطربت حياتهم.
•    هجرة الآلاف، وتركهم الميدان الذي تأثر بغيابهم، وساعدهم الانقلاب على ذلك بغض الطرف، فتشتت أسرهم، وأصابتهم سلبيات تغيير العادات والتقاليد والبيئات الجديدة، وفتنة السعة بعد الضيق، والغنى بعد الفقر، فقعد البعض وانشغلوا بالحياة، وتكاسل آخرون.
•    تخلى  البعض من عموم الناس ومناهضي الانقلاب بمرور الوقت عن المسار الثوري، فبسط الانقلاب سيطرته، ودعم أركانه، وثبت دعائمه لأكثر من ثلاث سنوات ومازال في عمره بقية.
•    غرس الرهبة والخوف من الجيش والشرطة في نفوس الشعب.
•    تورط الجيش وقادته، والشرطة وقادتها، وبعض رموز القضاء، والسياسة والإعلام ورجال الدين في عمليات القتل بالمشاركة أو بالرضا بكسر نفوسهم، واجبارهم على الصمت ودوام الدعم .

فعلت وحشية الفض فعلتها، وأتت بنتائجها المخطط لها بدقة، وعلى رأسها انتهاك الخطوط الحمراء: حرق المسجد.. فاهتز في نفوس الناس معنى التقديس والحرمة وغاب مبدأ الدفاع عنه-أحداث مسجد الفتح برمسيس نموذجا- ومنها قتل الشيوخ والأطفال والنساء.. فاهتزت المروءة والرجولة والنخوة التي كانت تعظم هؤلاء لضعفهم . ومنها حرق البشر أحياء.. جريمة من أبشع الجرائم لم تحدث في أي عهد وزمان. انتهاك حرمات البيوت بالحرق والتكسير.. فصارت فرجة دون أن يتحرك أحد للدفاع عنهم.

وهكذا نجحت الصدمة والترهيب في إخافة الناس، وإضعاف المناهضين وتفريقهم، وتدعيم الحكم العسكري. ولكن هل الانقلابيون بعد كل ما فعلوه قادرين على إدارة شؤون البلاد، وتثبيت دولتهم بالبطش والارهاب والقتل؟! أعتقد أن الواقع والمستقبل القريب سوف يجيب على هذا التساؤل!

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر