يعد السيد محمد رشيد رضا من رواد النهضة والصحوة الإسلامية المعاصرة ، بما له من إسهامات كبيرة في تقويمها ، وترشيد إطارها .

والسيد رشيد رضا هو صاحب مدرسة كبري تسمي بمدرسة المنار التي مزجت بين عقلانية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، وبين المدرسة النصية المتمثلة في الوهابية ومدرسة الحديث .

من هاتين المدرستين بلور السيد رشيد رضا فكرته ، وعمل علي تطويرها وإحكامها حتى نضجت وآتت أكلها فأنبتت ثمرا طيبا يسر الناظرين ويشبع الآكلين .

ولقد امتاز منهج السيد رشيد بالعقلانية ، بمعني أنه خفف حدة الخلاف القائمة بين أهل الرأي وأهل الحديث ، وبين العقلانيين –المعتزلة- والنصوصيين –السلفيين- .

وقد خاطب في كتبه ومصنفاته ومناره ، النخبة الإسلامية ، ثم ألقي بهذه البذرة إلي تلميذه الوفي الولي ، الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه ، الذي خالف شيخه في فروع بسيطة لكنه كان حسن الذكر للسيد رشيد مقرا له بفضله في تقويم الصحوة الإسلامية بل وبعثها من بعد سكن وراحة بال .

يقول الشيخ الغزالي في كتابه "دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" ص9 ، ط1/الشروق 1997م=1418ه: "ووقف حسن البنا علي منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا ، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب ، وع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد ، وإفادته منها ، فقد أبي التورط فيما تورط فيه.

ويجلي الشيخ الغزالي اللثام عن علاقة الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه بمدرسة المنار في موضع آخر من كتبه ، فيقول في كتابه "علل وأدوية" 1/122 ، ط/أخبار اليوم : "إن الرجال الثلاثة : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا هم قادة الفكر الواعي الذكي في القرن الأخير.

والنقيق العالمي الذي يثور ضدهم هو من أشخاص علمهم بالإسلام سطحي ودفاعهم عنه دفاع الدبة التي قتلت صاحبها .

إن صاحب "المنار" –الشيخ رشيد رضا- استوعب مذاهب المفسرين ، من تفسير بالأثر إلي تفسير فقهي ، إلي تفسير بلاغي ، إلي تفسير كلامي ، ومن المختصرات إلي المبسوطات ، ثم ضم إلي ذلك علما بآراء المذاهب الفقهية الكثيرة ، إلي تعقيدات الأصوليين الذين نبغوا في شتى العصور ، إلي ما جد في العالم الإسلامي بعد احتكاكه بالمجتمعات الحديثة .

وقد روي أن أستاذه الشيخ محمد عبده طالع خمسة وعشرين تفسيرا ليستريح إلي معنى آية من آيات الأحكام ، اضطربت فيها الأقوال.

وكان الرجل صاحب فكر متميز ومقولة مدعومة في هذه المعامع العلمية ، فما غره بريق ، ولا هالته كثرة ، وكان بصيرا بعلل الضعف التي انتابتنا ، ومداخل الشيطان في حياتنا ، وكان عميق الشوق إلي إحياء العقل الإسلامي والعودة به إلي نقاء السلف الأول.

والذي أراه أن مدرسة المنار هي المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة –وهذه إشارة قوية من الشيخ الغزالي أن مدرسة الإخوان امتداد لمدرسة المنار- وعلي الذين يرفعون القواعد من هذه المهاد أن يتجنبوا بعض الهنات التي فات فيها الصواب إمامنا الكبير ، فما نزعم عصمة له أو لغيره.

قال لي الأستاذ حسن البنا عليه الرضوان : أنه تناقش مع الشيخ رشيد في إحدى القضايا الفقهية ، واتسعت مسافة الخلف بينهما ، ولم يصلا إلي وفاق.

ثم رأيت الأستاذ البنا يصدر صحيفة الشهاب ، ويبدأ باب التفسير ، فإذا هو يستفتح بسورة الرعد ! قلت له : لم هذا البدء ؟ قال : من حيث انتهي الشيخ الكبير محمد رشيد رضا.

قلت في نفسي : لا يعرف الرجال إلا الرجال .

فمدرسة الإخوان المسلمين ، بل الصحوة الحاضرة بأكملها امتداد وثمرة من ثمار مدرسة المنار ، لكن امتازت جماعة الإخوان المسلمين بشعبويتها ، أي بمخاطبتها للجماهير والعامة والكافة ولم تقتصر علي التأليف ومخاطبة الأروقة والنخبة فحسب ، ويبدو أن هذا الجانب موطن الخلف بين الجانبين ، ولا جرم أن تكون ثمة أجنحة وتيارات متباينة داخل المدرسة الواحدة ، واختلاف الرؤى ووجهات النظر.

وقد تفرعت هاته المدرسة وتشعبت وصار لها رجالها الأفذاذ المتقنون المتفننون في سبل النهضة وطرائق التقدم.

ولد الرائد الشيخ محمد رشيد رضا بالقلمون إحدى قري طرابلس الشام ، وتعلم في قريته وفي طرابلس وبيروت ونال العالمية علي منهاج مشابه لمنهج الأزهر.

وجمع في ثقافته بين السلفية والتصوف ، ولما قرأ بعض أعداد مجلة "العروة الوثقي" حدثت له هزة وأصدر المنار التي حملت فكر مدرسة الإحياء والتجديد إلي كل أنحاء العالم الإسلامي علي امتداد أربعين عاما . وترك من التراث ما أهله ليكون أحد أعلام اليقظة الإسلامية المعاصرة .

وهناك مشروع إصلاحي لمدرسة المنار ، فلم يكن الشيخ رشيد رضا مع مزيجه السلفي الصوفي الحركي ، يرضي بوضع أمته بين الأمم ، فبلور لنفسه مشروعا إصلاحيا ، قائما علي الإصلاح العلمي والسياسي والاجتماعي ، وسوف نقف عند معالم هذا المشروع للشيخ رشيد ، ونحاول جاهدين أن نلفت الأنظار إلي عقلية هذا الرجل وإلي الملامح العامة في مشروعه الإصلاحي النهضوي ، ولن نقف علي صنائعه صنيعا صنيعا لأن الاستيعاب ليس من شرطنا ، بل الإيماءة والإيحاء ، كي يقف جيل الصحوة المعاصرة علي المعالم الفكرية الرئيسية للرجالات الذين شيدوا تلك النهضة وشرعوا في إحكامها.