محمد عوض
من علماء الأزهر الشريف


"رأيت اليوم عجباً!


ثبات وإصرار غريب لم أر مثله قط!


دخلت الكُلِّية؛ فوجدت ثلاث طالبات على رصيف المدخل، وبإزائهن ثلاثة طلاب على الرصيف المقابل أمام مسجد الكُلِّية، يقفون في ثبات وشموخ، يحمل كل واحد منهم لافتة مكتوب عليها: (مش هنفرط مش هنبيع.. مش هنسيب مصر تضيع.. عواد باع أرضه...)، وعامل المسجد - على مرأى ومسمع منهم- ممسكاً بهاتفه يتصل بأمن الكُلِّية، وزملاؤهم الطلاب يرونهم ولا يجرؤ أحد منهم أن يشاركهم أو يقترب منهم".


هكذا أسَرّ لي مُحدثي -أستاذ العلوم السياسية المرموق- في استراحةٍ قصيرةٍ بين محاضرتين في أحد المنتديات العلمية، وتابع الرجل بمرارة: "أرى ألا نُضحي بخيرنا، وأن نرجع خطوات إلى الخلف؛ فالقوى غير متكافئة ولا قريبة من التكافؤ، و«مَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ» كما في حديث ابن عباس".


ثم واصل يشرح فكرته: "إن المواجهة بين الخير والشر إذا كانت النسبة فيها واحد إلى ثلاثة فأكثر؛ فإنها تحتاج إلى خالد بن الوليد". وتوقف عند هذا الحد؛ ليصعد إلى المنصة، ليلقي محاضرته التي حان وقتها.


هذا الكلام أسمعه كثيراً جداً، لاسيّما ممن يشفقون علينا من تنكيل السيسي ونظامه، وهو كلام غير مستغرب حين يصدر عن أناس بسطاء، لكن المستغرب حقاً أن أسمعه من قامةٍ علميةٍ بحجم من ذكرتُ!


هذه النظرة إلى مواجهة الثوار للانقلاب العسكري أثارت في النفس التساؤلات؛ حول جدوى هذه الاحتجاجات اليومية الرافضة للسيسي وانقلابه لثلاثة أعوام، حول هذا الخروج اليومي ضده وضد نظامه بالهتافات واللافتات والمسيرات، والتي تقابلها داخليته وجيشه بكل إجرام وعنفوان ممكن، حتى ليصل في كثير من الأحيان حد إزهاق الأرواح الطاهرة النقية من الرجال والنساء والولدان.. أيُعدّ هذا إلقاء من هؤلاء الثوار بأنفسهم إلى التهلكة؟ ألسنا حين نشارك ونحرض على المشاركة والاستمرار في هكذا احتجاجات نضحي بخيرة شباب الأمة؟ ألا يمكن الاكتفاء بانكار القلب والسكوت حتى يأتي الله بفرج من عنده؟ ألا يُحمّل هؤلاء الثوار أنفسهم ما لا طاقة لهم به، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؟ ألا يسعهم ما وسع غيرهم من الساكتين وهم الكثرة الكاثرة حتى ممن ينكرون انقلاب السيسي؟.........


هذه التساؤلات وغيرها تنشأ من تصور ربما يكون غير صحيح، وهو النظر إلى قدرات الناس على أنها قدرات متساوية!


والحق أنها ليست كذلك، فالناس خلقوا متفاوتين في مستوي قدراتهم الفكرية والروحية والجسدية، يقول د. عبد الكريم زيدان: "والإسلام لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل الإسلام حدًا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، ولأنه وضع على نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى مستوى الكمال.


إن هذا المستوى الأدنى يتكون من جملة معانٍ يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض، كما يشمل جملة معانٍ يجب هجرها وهي المسماة بالمحرمات.


ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي، من غير إلزام، لأن إلزامهم به إرهاق لهم وحرج شديد، والحرج في شرع الإسلام مرفوع لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: 78]. وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286].


وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي تُرغّب الشريعة في القيام بها، والمكروهات التي تُرغّب الشريعة في ترك المسلم لها.


وهذان المستويان الأدنى والأعلى موجودان في تشريعات الإسلام، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:


أولًا: الصلاة: منها ما هو فرض ومنها ما هو مندوب، فالأول يدخل في معاني المستوى الأدنى، والثاني يدخل في معاني المستوى الأعلى.


ثانيًا: الصيام: الفرض منه صيام شهر رمضان، وهذا من معاني الحد الأدنى المطلوب، وصيام ست من شوال، وأيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس، من معاني المستوى الأعلى.


ثالثًا: الحج: فرضُه مرة في العمر، وما زاد فتطوع، وهو من معاني المستوى الأعلى.


رابعًا: وفي إنفاق المال في سبيل الله فريضة الزكاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وفي صدقة التطوع يقول الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.


خامسًا: وفي القتل العمد شرع القصاص، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، فلأهل القتيل المطالبة به وهذا حقهم، ولا تثريب عليهم فيه، ولكنَّ الإسلام ندب إلى العفو، وهو من معاني المستوى الأعلى، وفيه قال تعالى في نفس الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}.


سادسًا: وفي الاعتداء بصورة عامَّة تجوز المعاقبة بالمثل، والعفو والصبر أفضل، وهما من معاني المستوى الأعلى، قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.


سابعًا: وفي البيوع والأشربة: حبَّب الإسلام للمسلم أن يكون سهلًا في بيعه وشرائه ومقاضاته، وهذه كلها من معاني المستوى الأعلى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".


ثامنًا: -وهو موضوعنا- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فرض كفائي يجب وجوده في الأمة، ويسوغ -يجوز ويحل- تركه باليد واللسان، والاكتفاء بإنكار القلب بالنسبة لحاكم ظالم طاغية لا يتَّسع صدره لسماع النصيحة ويقتل من يأمره أو ينهاه، والترك هنا من معاني المستوى الأدنى، ولكن من المندوب إليه قيام المسلم بأمره ونهيه، وإن أدى ذلك إلى قتله، وهذا من معاني المستوى الأعلى، يدل على ذلك الحديث الشريف: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق لسلطان جائر فقتله"، ولا يُعترض هنا بأنَّ إلقاء الإنسان نفسه في التهلكة لا يجوز، وهذه تهلكة، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ لأننا نقول: إن الشهادة في سبيل الله مكرمة لا تهلكة، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو باللسان ضرب من ضروب الجهاد المشروع؛ لما يترتَّب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلان المبطلين وإيقاف الظالمين عند حدهم.


عاشرًا: والإكراه على الكفر بالتهديد بالقتل يُسَوِّغ للمُكرَه أن يقول كلمة الكفر بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، رخصةً من رخص الإسلام، وهي من معاني الحد الأدنى، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، والمندوب إليه عدم قول الكفر وإن أدى ذلك إلى قتله، وهذا من معاني المستوى الأعلى" ا.هـ. [أصول الدعوة، ط مؤسسة الرسالة، ص77، بتصرف].


نعم.. فلو كان الكل دائماً في دائرة الحد الأدنى لما خطى حقٌ خطوة واحدة نحو الأمام في زمن من الأزمان؛ لأن صاحب الحق وأول حامل للوائه في كل عصر كان فرداً واحداً هو الرسول أو النبي أو المصلح.


ولو كان الجميع من ذوي الحد الأدنى ما مات مجاهد غريباً عن أرضه وسمائه، لأن جهاد الطلب فرض كفاية.


إن الأرض لاتخلو في عصر من قائمين لله بالحجة -أصحاب المستوى الأعلى- أيا كانت نُدرتهم، وأيا كانت اللأواء والضرر الذي يُصيبهم، والمعقول والمنطقي أنه بدلاً من أن يطلب منهم الهبوط ينبغي أن يطلب ممن دونهم الارتفاع إلى درجتهم.


إن أهل هذا المستوى المثالي إن لم يُكتب لهم النجاح العاجل فإنهم بمثاليتهم ليُمهدون الطريق للأجيال التالية؛ لتُنجز ما أخفقوا هم فيه.


ولأخذها من البويطي سيد الفقهاء، وصاحب الشافعي، فقد سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه -أي في محنة خلق القرآن فلم يجب- وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدى بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى! فأمر به أن يُحمل إلى بغداد.


قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغلٍ في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ –طوبة- وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بـ«كن» فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق! ولئن دخلت عليه -يعني الواثق- لأصْدُقَنّه ولأموتن في حديدي هذا؛ حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.


تأمل كلمته مرة أخرى: ".... ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قومٌ يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم".


وظل على هذا الثبات حتى تُوفي -رحمه الله- في قيده مسجوناً بالعراق، في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.


هذا الصنف الجيد من البشر آمن بما جرى به قلم القدر أزلاً؛ فاطمأن، وخاض المعامع هاتفاً مع الهاتفين:


أيّ يوميّ من الموت أفرّ *** يوم لا يُقدّر أم يومٌ قُدر
يوم لا يُقدّر لا أرهبه *** ومن المقدور لا ينجو الحذر