كانت الدعوة إلى الله -ولا تزال- سبباً رئيساً للهداية المأمولة، والسعادة المنشودة للبشرية على مرِ التاريخِ؛ فالدعوة أساس استيقاظ النفسِ البشريةِ من غفلتها، وتحريك المياه الراكدة في مصارف التائهين، ومعول البناء للدولة الإسلامية.

والداعية من ورثة الأنبياء والمرسلين في تبليغ رسالتهم إلى البشر أجمعين، وهي المهمة الأجل والأعظم التي من الممكن أن يمتهنها الإنسان بحثاً عن الحقيقة المنشودة، وإبلاغ الرسالة الأزلية بأنه لا إله إلا الله.

فالداعية الى الله هو الجسر الذي يعبر عليه البشر ليصلوا إلى بر الأمان، وهو المصباح الذي ينير للحائرين منهم ظلام الغي والبُعد عن طريق الهداية، فلم يكن بمستغرب أن يشيرَ الحقَ -تبارك وتعالى- إلى أهمية الداعية في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

وبرغم وضوح الرؤية للبشر، إلا أن الطريق مليء بالصعاب ولا يستطيع عبوره إلا من امتلأ قلبه بالإيمان وعَمُرَ بحب الله ورسوله، واستقر في قلبه اليقين بالله وبنصره لمن ابتغى سبيله، فالداعية يتذمر أحياناً من الصعوبات، وربما يُلقي بكل ما في يديه من أوراق جانباً لينعم بالحياة، ولهؤلاء نقول إن حلاوة إنقاذ مسلم من طريق الغي والضلال في حق الداعية أفضل عنده مما طلعت عليه الشمس، فهو بذلك تمكن من الإمساك بتلابيه وإنقاذه من الوقوع في براثن الشرك أو الضلال.

روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه من حديث أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ - وَهُوَ عِنْدَهُ - فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".

واليوم نتساءل عن أسباب فتور الداعية وابتعاده عن طريقه، هل الأمر يتعلق بالداعية نفسه أم بالمتلقين لدعوته أم الاثنين معاً؟

وبالنظر إلى حياة الداعية نجد أن أخطر عدو له هو التكبر والكبر على الناس ؛ فالكبر وتضخيم الذات تجعل الداعية غير مكترث بأي توجيه أو نُصح من أحد؛ لأنه أصبح خارج سربهم بعلمه وتفوقه، والأدهى من ذلك أنه بات يتصور أن لديه طاقات هائلة من كثرة الإفراط في الثناء عليه فيتحول من طاقة إيجابية داخل المجتمع إلى طاقة سلبية تُدمر نفسه قبل أن تدمر غيره.

والأخطر من ذلك أننا نجد بعض الدعاة أصيبوا بعدم الانضباط، وطغى حبهم للزعامة ولطلبها؛ لأنهم يرون أنفسهم الأحق بها وهو ما يخرج بهم من دعاة علم إلى راغبي مُتع الحياة الدنيا وأخطرها الزعامة.

وللأسف فإن من أشد ما يُدمر الداعية -خاصة لو كان في مقتبل حياته العلمية- هو انبهاره بالعلم والمعرفة التي حاز عليهما، مما يجعله يشذ عن جموع المسلمين ويرى نفسه إماماً وربما مجدداً للأمة يُفتي في كل شيء، ولو كان رأيه شاذاً!

ومن الأسباب التي تدمر الداعية تعوده على حياة رتيبة مملة في مجال الدعوة مما يجعل الملل يتسلل إليه فينسى نفسه ودعوته.

ومن أخطر أسباب الفتور شعور الداعية بالانهزامية والضعف غير المبرر أمام تيارات الفساد، خاصة مع ضعف الإيمان في قلبه والثقة في الله سبحانه وتعالى، وبذلك يتمكن الإحباط من نفس الداعية جراء الشر والباطل الذي يحيط به، وتفنن أهله في عرضه وترويجه، وهو ما يجعل الداعية خاصة مع كثرة المشاهد السلبية التي يراها أمامه وحواليه يشعر باليأس وقد يتمكن منه، وهو ما يؤثر على دعوته ومسيرته بل وبقتل الروح الايجابية بداخله.

ويعد من أخطر الأسباب أيضاً التي تؤثر سلباً على الداعية هو ما آلت إليه الخطبة الموحدة في نفوس الدعاة فقد قتلت بداخلهم الطموح وجعلتهم أسرى في ميدان الدعوة على خطبة الجمعة المُعدة سلفاً أو محاضرة مرتجلة أو كلمة أمام الجماهير لا تسمن ولا تغني من جوع، فقتلت الإبداع بداخل الإئمة والدعاة.

ولا شك في ميل كثير من الدعاة إلى البطالة والكسل مع كثرة مغريات الحياة بالرحلات والمخالطات ليبتعدوا عن جدية الدعوة وجوهرها وهو أمر لا شك يدمر حياتهم الدعوية ويصيبها بالفتور القاتل، وهناك من الدعاة من انشغل، وشغل نفسه بكثرة الجدل والمراء في بعض القضايا الفكرية، والتنظير والمراء غير المجدي في الدين  لينطبق عليه قول القائل: "علم لا ينفع، وجهل لا يضر" والأمر لا يعدو إلا تضييعاً لوقت الداعية وتدميراً لقدراته فيما لا يفيد وهو ما يعود بالسلب على الدعوة الإسلامية.

وأخيراً... ظهرت فئة من الدعاة جل همهم الانشغال بعيوب الآخرين -خاصة زملائهم في حقل الدعوة- ومحاولة الضرب في ظهورهم أمام رؤسائهم لينالوا مكانهم وهم بذلك يعطون للشيطان السلاح الأقوى لتدمير طريق الإصلاح الذي رسمه الداعية لنفسه.

وصدق الإمام الشافعي - رحمه الله - حين قال:

المرء إن كان عاقلاً ورعـاً * أشغله عن عيوب غيره ورعه

كما العليـل السقيـم أشغلـه * عن وجع الناس كلهم وجعـه

وللخروج من هذه الكبوة على الدعاة تجديد النية مع الله، وانشغالهم بعدة أمور ليفلحوا في الدنيا والآخرة وهي:

أولاً/ على كل داعية أن يستشعر أهمية المسئولية الكبيرة التي أوكلت إليه تجاه دينه وأمته، والواجب عليه أن يتصدى للمعتقدات الخاطئة لينهض بأمته ويساهم في رفع الجهل عنها ورأب صدعها ومعالجة عللها وأدوائها، فأمتنا الإسلامية ما أحوجها اليوم لكوادر من الدعاة المميزين لتأدية أدوار معينة تجاه دينهم، وتلك الشعوب التي تَأمل فيهم الكثير من الخير والدعوة إلى الله.

ثانياً/ على الداعية إلى الله أن يتقين بقلبه وجميع جوارحه أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ويبتعد عن التكالب عليها ، فقلبه لا ينصرف عن طاعة الله، وعقله ولسانه لا ينشغلان إلا بذكر الله والدعوة إليه، فإن قيمة الداعية الحق هو فيما يحققه من أعمال صالحة وجهود مباركة تنفع المحيطين به وتنفعه عند الوقوف أمام الله.

ثالثاً/ الثقة غير المتزعزعة بنصر الله واليقين بوعده، وأن حماية الدين مسئولية الخالق العظيم، وعلى الداعية أن يدرك بأن عليه أيضاً دوراً اصطفاه الله لإتمامه في الدنيا، وهو تبليغ مراد الله في خلقه، ولذلك عليه أن يستعد بأسلحته التي منحه الله إياها لمواجهة أعداء الدين والمتآمرين عليه.