يحيى رضا جاد
لما آل أمر المسلمين – للأسف – إلى التخلف العام في الدين والدنيا، أصبحت العبادات مجرد رسوم وشكليات لا تكاد تتجاوز الأداء والحركات والسكنات.. مما دفعني إلى كتابة هذا البحث عن عبادة الحج، أحد أركان الإسلام العظيمة؛ راجياً به انتشال نفسي، وغيري، من “شَرَكِ الشكلية في العبادة”، ومن “مستنقع الجفاف الروحي“، ومن  “بِركَةِ الركود العقلي“.. فلنبدأ باسم الله :
 
أولاً: الحكمة من الحج بشد الرحال إلى المسجد الحرام
قد يقول قائل: ” لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج؟ لماذا هذه الرحلة المضنية والله معنا، بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد؟ ما الداعي إلى السفر والارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه فيها وهو القائل: “إني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان“؟! (البقرة:186)
فأقول:
1- الحقيقة أن الله قريب منا حقاً وصدقاً، ولكننا مشغولون على الدوام بغيره.. إنه لا يقيم دوننا الحجب، ولكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب: نفوسنا – بشواغلها وهمومها وأهوائها- تلفنا في غلالات كثيفة من الرغبات.. وعقولنا تضرب حولنا نطاقاً من الغرور.. وكبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر، بل والعمى في بعض الأحيان.. فلا نعود – بسبب من ذلك كله – نرى أو نحس بشيء سوى نفوسِنا.
 
2- إن شد الرحال إلى مكة، وتكبد المشقات والنفقات، هي وسائل مادية للتخلص من هذه الشواغل، وتفريغ القلب لذكر خالقه، وإيقاظ الحواس على حقيقة القرب القريب لله جل جلاله.
 
3- ومن هنا كانت كلمة “عرفة”؛ فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على “معرفة”؛ فهو “يتعرف” على ربه و”يكتشف” قربه، كما “يتعرف” على نفسه و”يكتشف” بعدها عنه تعالى.
 
4- والحج في معناه “خروج”.. خروج من دنيانا إلى دنيا الله.. خروج من اعتدادنا بأنفسنا إلى الاعتداد به سبحانه.. خروج من العبودية لـ “الأسباب” (من مال وولد وأرض وعقار ومنصب وسلطة ونفوذ وجاه) إلى العبودية لـ “سبب الأسباب”.. خروج من حولنا وقوتنا الموهومتين إلى حوله وقوته المتيقنتين.. خروج من إرادتنا إلى إرادته، ومن رغبتنا إلى رغبته..
 
ثانياً: من أسرار ثياب الإحرام
1- إن ثياب الإحرام البيضاء التي نرتديها على اللحم، والتي يشترط أن تكون غير مخيطة، هي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس، ويتساوى فيها الفقير والغني؛ لأن في هذا الثوب البسيط معنى الأخوة والمساواة برغم تفاوت المراتب والثروات.
 
2- وهي رمز للخروج من زينة الحياة الدنيا.. تماماً كما نأتي إلى الدنيا في لفة، ونخرج منها في لفة.
 
3- وهي رمز للتجرد التام أمام حضرة الخالق؛ لأننا أمام الله لا نكاد نساوي شيئاً، بل نحن بالنسبة له سبحانه: لا شيء.. فعلينا أن نخلع كل ثياب الغرور والزينة،  متجردين من شهوات النفس والهوى، حابسين إياها: عن كل ما سوى الله، وعلى التفكير في جلاله.. وما التلبية بعد الإحرام إلا شهادة على النفس بهذا التجرد، وبالتزام الطاعة لله، والامتثال لأوامره.
 
4- وثياب الإحرام ثوب من قطعتين؛ رمزاً لستر العورة الظاهرة، وستر العورة الباطنة.. الأولى: حياءً من الخلق، والثانية: حياءً من الخالق.. حياءً من سوء الخلق الظاهر الذي تعرفه الناس، وحياءً من العورة الباطنة -عورة القلوب والنفوس والشهوات- التي لا يراها، ولا يطلع عليها، إلا الله.
 
ثالثاً: من أسرار الطواف حول الكعبة
1- إن المسجد الحرام – أقصد كعبته – هو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله.. ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا المكان “رمزاً قدسياً”، أصبح “بيتاً لله”، بل إن شئتَ قلتَ: أصبح “عَلَمَ الله المركوز في أرضه”.. ومن ثم نحن نطوف حوله تعظيماً لله، متبعين في ذلك سننه وقوانينه الكونية؛ ألا تلاحظ معي – في قوانين المادة وسننها التي اكتشفها الإنسان- أن “الأصغر” يطوف حول “الأكبر”، وأن “الإلكترون” في الذرة يدور حول نواتها، وأن القمر يدور حول الأرض، وأن الأرض تدور حول الشمس، وأن الشمس تدور حول المجرة، وأن المجرة تدور حول مجرة أكبر، وهكذا إلى أمد لا يعلمه إلا الله..
ومن ثم، فنحن نطوف حول الكعبة “تعظيماً لله”، وتأكيداً على أنه سبحانه مركز الثقل في حياتنا كلها؛ فمنه البدء، وبه المسيرة، وإليه المصير.
 
2-  إن الطواف رمز للحب والتعلق الكاملين بالله: شعوراً وقولاً وفعلاً.. فأنت تطوف حول بيته سبحانه بقلبك وعقلك وقدميك.. فما الطواف –في حقيقته- إلا دوران للقلب والقالب حول قدسية الله؛ صنعَ “المحب” مع “المحبوب المنعِم”، الذي تٌرى نعمته ولا تٌدرك ذاته.
 
3- وهو رمز لدوران الأعمال حول قطب واحد، واستهداف الحركات والأفكار لهدف واحد: هو الله؛ حيث كل شيء منه وإليه.. فالطواف هو التعبير الجسمي والروحي – بالكلمة والفعل والقلب- عن “توحيد الله” وعن “مدى إخلاصك له” وعن وحدة أهدافك الظاهرة والباطنة بتحليقها حول مراد الله واستهدافها لرضاه.
 
رابعاً: من أسرار تقبيل الحجر الأسود
قد يقول قائل: ” ألا تلاحظ معي أن تقبيل الحجر الأسود وثنية صريحة؟!”
فأقول:
1- ويحك.. ألا تقبل خطاباً يأتيك من حبيبتك ؟! هل أصبحت بذلك وثنياً ؟! اللهم لا.. فعلام اللوم إذا قبلنا نحن ذلك الحجر الذي حمله نبينا صلى الله عليه وسلم في ثوبه وقبله.. إن تقبيلنا له تزود من غائب؛ فأنت تضع شفتيك حيث وضع النبي صلى الله عليه وسلم شفتيه.
 
2- واعلم، رحمك الله، أن الحجر الأسود يمين الله في أرضه – رمزاً- .. من استلمه – بالإشارة أو اللمس أو التقبيل- فقد بايع الله على الالتزام بأمره ونصرة دينه.. فعند الحجر تكون البيعة لرب الأرض والسماء على الإيمان والتصديق والعمل والوفاء؛ الإيمان بالله لا بالحجر، والتصديق بكتابه لا بالخرافة، والعمل بسنة نبيه المختار لا بسنة الكفار والفجار، والوفاء بعهد الله – توحيداً خالصاً: قلباً وقالباً، في العبادات وفي المعاملات.
 
3- فتأمل، وافهم، ولا تكن من الغافلين؛ لأننا لا نتجه بمناسك الحج نحو الجدر والأحجار ذاتها، وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات – كما مر، وكما سيأتي إن شاء الله.
 
خامساً: من أسرار السعي بين الصفا والمروة
1- إن السعي بين الصفا والمروة – ومثله رمي الجمار، والشرب من زمزم – إعلان لارتباط الإسلام وأمته بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وعائلته؛ لتؤكد الأمة الإسلامية بهذا الارتباط أنها سائرة على درب النبوات السابقة، ومتممة لها، لا منكرة إياها، ولا شاذة عنها.
 
إن مثل تلك الشعائر، التي يؤديها الحجاج، توقظ في نفوسهم ذكرى الأنبياء العظام الذين قاموا بمثل تلك الشعائر في نفس تلك المواطن، وتعيد إلى الحياة أعمالهم، وتوقظ النزعة إلى الاقتداء بهم في كل تصرفاتهم .. وهي إحياءٌ لذكريات عزيزة وأيام لا تنسى في حياة هؤلاء الأنبياء.
 
2- والسعي بين الصفا والمروة تذكير للمسلم بوجوب البحث والعمل والكد والسعي في حياته الدنيا إذا أراد الارتقاء والتقدم, بله النجاة.. فهو رمز للهرولة التي يجب أن يعيش فيها كلٌ منا إلى لحظة وفاته – إذ الكسل والدعة والتواكل ليست من صفات المسلم الحق- ملتمساً من الله – طيلة حياته- العون والتأييد، والرضوان والغفران.
 
3- إن السعيَ بين الصفا والمروة سعيٌ بين نقطتين محددتين؛ وهذا يرشدنا إلى “تأطير” و “تقصيد” و “ضبط” و “تنظيم” مسعانا في حياتنا الدنيا؛ بأن نجعل له “إطارا”  و “قصدا” و “خطة”، وإلا فستنفلت الأمور، ويموج بعضنا في بعض؛ فيخيب مسعانا.
 
سادساً: من أسرار الوقوف بعرفة
1- إن الوقوف بعرفة وسيلة مادية للتخلص من الشواغل الدنيوية، ولتفريغ القلب لذكر خالقه، ولإيقاظ الحواس على حقيقة القرب القريب لله – جل جلاله- .. ومن هنا كانت كلمة “عرفة”؛ فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على “معرفة”؛ فهو “يتعرف” على ربه و “يكتشف”  قربه، كما “يتعرف” على نفسه و ” يكتشف” بعدها عنه تعالى.
 
2- والوقوف بعرفة بعد السعي: بذلٌ للمهج في الضراعة إلى الله – بقلوب مملوءة بالخشية، وأيد مرفوعة بالدعاء، وألسنة مشغولة بالدعاء، وروح تحسن الظن ببارئها- ألا يخيب سعينا، وأن يبارك أعمالنا، وأن يجزينا عن حسن الأفعال بالحسنات، وأن يغفر لنا الذنوب ويتجاوز عن الزلات؛ إذ لا ملجأ منه إلا إليه.
 
3 – والوقوف بـ “عرفة” فرصة لـ “التعارف” والتقارب والتفاهم والتشاور والتعاون وإنشاء الصلات الجديدة –المظللة بالمحبة والإخاء- بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأقطارهم وطبقاتهم وقدراتهم وأذواقهم.
 
4- وهو – بالإضافة إلى ذلك كله- رمزُ للوحدة بين المسلمين؛ إذ هو تجمعٌ في مكانٍ واحد، وفي وقتٍ واحد، وبملبس واحد: إلى قبلةٍ واحدة وهدفٍ واحد.. يتلقون فيه من الله، ويتجهون إليه، ويسيرون بأمره – فحضورهم بأمره، وأفعالهم بأمره، وانصرافهم بأمره.
 
5- والمشهد يوم عرفة، حين ترى الحجاج في ثيابهم البيض، وفي موقفهم المزدحم العظيم، تحس أنهم أشبه بالناس في ساحة العرض الأكبر، يوم يخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون .. إنه “تجسيد مصغر” لمشهد الحشر والوقوف بين يدي الله يوم القيامة.. يا له من موقف رهيب، ومشهد مهيب، تعجز الكلمات عن الإحاطة به، بله اكتناه أسراره !!
 
سابعاً: من أسرار حلق الرأس
1 – ما حلق الحاج لرأسه – فيما يبدو لي- إلا حلقٌ للكبرياء عن عقله؛ اعترافاً منه بالقصور، ومعرفةً منه لمقامه بالنسبة إلى مقام ربه، وإقراراً منه بأن للعقل حدوداً لا يجوز له أن يتعداها، ومجالات يجرم عليه الخوض فيها.
 
2- وهو – فوق ذلك: ” خضوعٌ” لعظمة الله و”تذللٌ” لعزته.. لقد كانت العرب إذا أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه: حلقوا رأسه وأطلقوه.. إذن، فوضع النواصي بين يدي ربها محلوقةً: هو ” تمامُ” الخضوعِ والتذلل والعبودية له تعالى.. ولهذا كان الحلق من “تمام” الحج.
 
ثامناً: من أسرار رمي الجمار
قد يقول قائل: ” ألا تلاحظ معي أن رجم إبليس برمي الجمار عمل بدائي خرافي أسطوري ؟!”
فأقول:
1- على رسلك .. ألا تضعون باقة ورد على نصب حجري تذكاري – تقولون: إنه يرمز إلى الجندي المجهول – وتلقون خطبة لتحيته وتمجيد أعماله .. فهل عملك هذا عمل بدائي خرافي أسطوري وثني ؟! .. اللهم لا .. فعلام اللوم إذا ألقينا حجراً على نصب حجري تذكاري نقول إنه يرمز إلى الشيطان ؟! .. المسألة كلها رمزيات.. فتنبه ولا تكن من الغافلين.
 
2- والرمي مقت واحتقار لعوامل الشر ونزعات النفس ونزغات الشيطان.. إنه رمز مادي لصدق العزيمة في طرد الشرور ومطاردتها حتى إزهاقها.
 
تاسعاً: من أسرار الذبح والنحر
1- النحر رمز لذبح رغبات النفس الدنيئة, وشهواتها وأهوائها المفسدة.
2- وهو رمز للتضحية والفداء؛ حيث تضحي ببعض مالك رمزاً لإزهاق شهواتك وأهوائك.
3- إنه – باختصار- إراقة لدم الرذيلة بيد اشتد ساعدها في بناء الفضيلة.
 
عاشراً: من أسرار الرقم “سبعة”
قال لي أحدهم مرة: ” ألا تلاحظ معي أن حكاية السبع طوفات, والسبع هرولات, والسبع رجمات؛ هي من بقايا خرافة الأرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة ؟! “
فقلت متعجباً من سخريته واستنكاره :
1- دعني أسألك :
لماذا أيام الأسبوع سبعة ؟!
ولماذا تدور الإلكترونات حول نواة ذرتها في نطاقات سبعة ؟!
ولماذا تتكون الكرة الأرضية من سبع طبقات ؟!
ولماذا تتكون السماء من سبع نطاقات ؟!
ولماذا كانت ألوان الطيف سبعةً ؟!
.. ألا يدل ذلك على شيء.. أم أن كل هذه الأمور، هي الأخرى، شعوذات طلسمية ؟! .. يبدو أن “السبعة” سر في البناء المادي والمعنوي للكون.. يبدو لي – والله أعلى وأعلم- أن السبعة هي درجة “الاستواء” و”التمام”.
 
2-  ولهذا – والله أعلم- كان الأمر بـ “السبع طوفات”؛ حتى نٌظهر له سبحانه “تمام” التعلق به، و”تمام” التعظيم والحب والتوحيد له. ولهذا – والله أعلم- كان الأمر بـ “السبع هرولات” ؛ حتى نظهر له سبحانه “تمام” إيماننا بالسابقين من الأنبياء، و”تمام” اقتدائنا بهم، و”تمام” إخلاصنا وبذلنا لوسعنا فيما سنقوم به من أعمال.
 
ولهذا – والله أعلم- كان الأمر بـ “السبع رجمات” ؛ حتى نظهر له سبحانه “تمام” تحررنا من الأهواء ونزعات النفوس ونزغات الشياطين وإغوائهم – إنسهم وجنهم – و”تمام” و “صدق” عزيمتنا في طرد الشرور, بل ومطاردتها حتى إزهاقها.
 
حادي عشر: أبعاد فلسفة المكان ورسالته الخالدة
ألست معي – قارئي الكريم- في أننا بحاجة إلى أن نعي ونفقه “أبعاد فلسفة الأماكن” التي نؤدي فيها مناسك الحج؛ حتى نبتعد قدر الإمكان عن شَرَكِ “الشكلية في العبادة”؛ حتى تعود “الحياة الحقة” لمناسك الحج وشعائره؛ إذ مناسك الحج تبتغي ” تقوى القلوب” (الحج:32) فحرام أن نختزلها في الحركات والسكنات، وأن نغرق مقاصدها الروحية السامية في التفريعات والجزئيات !!
 
تعال بنا نطوف معاً – قليلاً- حول أبعاد تلك الفلسفة:
1- نحن بحاجة إلى أن يتذكر الحاج – وهو يطوف حول الكعبة- ما هو أكثر من مجرد الطواف والدوران؛ إذ حول الكعبة نزلت كلمات الله على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم .. وبهذه الكلمات تمت في مدرسة النبوة إعادة صياغة أهل الجاهلية – أسرى العصبية وعبدة الأوثان- حتى غدو الجيل الفريد الذي غير مجرى الدنيا والحضارة، وأمسك بدفة التاريخ.
 
2- ونحن بحاجة – كذلك- إلى أن يتذكر الحاج، وهو ذاهب ليرمي جمرة العقبة, ما هو أكثر من رمي الجمرات.. إذ في العقبة عقدت “الجمعية التأسيسية للدولة الإسلامية”.. تلك الدولة التي غيرت الواقع، وحولت مسار التاريخ، وجعلت المستضعفين في الأرض: الأئمةَ والوارثين لمواريث النبوات والحضارات.. وذلك عندما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الدولة، بعد أن سبق لهم بيعته على إقامة الدين.. فولدت في العقبة الدولة التي حرست الدين، والتي ساست الاجتماع والعمران بشريعة هذا الدين.
 
3- ونحن بحاجة – كذلك- إلى أن يتذكر الحاج –وهو بالعقبة أيضاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسس الدولة الإسلامية الأولى على “البيعة والشورى والاختيار” لا على الاستبداد والتزوير والإجبار.. وذلك عندما هم الأنصار بمبايعته على إقامة الدولة, فرغب إليهم أن تتم البيعة بواسطة “مؤسسة دستورية” تنشأ بالاختيار والانتخاب، فقال لهم  صلى الله عليه وسلم : ” اختاروا منكم اثني عشر نقيباً“.. فولدت بذلك أولى المؤسسات الدستورية في الدولة الإسلامية.. فمن العقبة – يا من ترمي الجمرات- بدأ تراث أمتنا في المؤسسات الدستورية القائمة على الشورى والاختيار والانتخاب، وبمشاركة الرجال والنساء، قبل أن تعرف الأمم والحضارات لها تراثاُ في هذه المؤسسات.
 
4- ونحن بحاجة – كذلك- إلى أن يتذكر الحاج – وهو واقف بعرفة- ما هو أكثر من مجرد الوقوف والدعاء.. إذ في هذا المكان كانت حجة الوداع والبلاغ, تلك الحجة التي كانت مؤتمراً جامعاً قرر فيه صلى الله عليه وسلم  “الحقوق المدنية الإسلامية”.. وذلك في خطبة الوداع الشهيرة، تلك الخطبة التي مثلت – بحق – “وثيقة الحقوق المدنية الإنسانية” التي شرعها الإسلام للإنسان.
 
ثاني عشر: من دلالات منسك الحج
1- إحياء ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، وتذكرة أهل الكتاب بها :
لما كان إبراهيم الخليل “أبو الأنبياء” وابنه إسماعيل – عليهما السلام- قد أقاما قواعد البيت العتيق, فلقد شاء الله أن يكون إلى ذلك البيت العتيق حج أمة “خاتم الأنبياء” الذي أحيت شريعته ملة إبراهيم، والذي تعيد أمته – في مناسك حجها- مناسك إبراهيم وإسماعيل وهاجر، مجسدة بهذا الإحياء وحدة دين الله.
فإلى “أول بيت” تحج الأمة الخاتمة.. ” فتحيي أمة ” خاتم الأنبياء ” مناسك ملة” أبي الأنبياء، وتذكر بها أهل الكتاب – توحيداً خالصاً, وملة حنيفية سمحة- خاصةً بعد أن اختلفوا في إبراهيم وتشاكسوا فيه (أل عمران:95-97)
 
2- التأكيد على أن الإسلام هو الشريعة الخاتمة لسلسلة رسالات الله إلى الإنسان:
إن البيت العتيق هو “أول بيت” عبد الله فيه على هذه الأرض.. ففيه، ومنه، بدأ الدين، وإليه قرر الله أن يكون حج “الأمة الخاتمة”؛ رمزاً وتجسيداً لوحدة دين الله من لدن آدم إلى محمد صلى الله وسلم عليهم جميعاً.
ورمزاً وتجسيداً لاكتمال لبنات هذا الدين الواحد بشريعة الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى يرتبط “الختام” بـ  “البدء” و “القمة” بـ “الجذور” و “المنتهى” بـ “المنطلق”؛ فيتجسد الرمز: رمز استيعاب الإسلام – الذي جاء به محمد من عند الله- للدين الإلهي على إطلاقه – وللتدين على عمومه- وهيمنته عليه .. وحتى ترتفع الأعلام المؤذنة بأن تصديق الأمة الخاتمة بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو جزء من “تصديقها” بجميع الرسل والأنبياء، و”احتضانها” ” لهدي النبوة جميعه على امتداد موكب حملته، و “هيمنتها” على الدين كله بتربعها على عرشه؛ إذ هي الأمة “الخاتمة” و “المكلفة بالحفاظ عليه” و “الدعوة إليه”.
 
ثالث عشر: من مقاصد الحج العامة
1- نشر السلام :
إن الحج طريقة فذة لـ “تدريب” المسلم على السلام، و “إشرابه” روح السلام؛ فهو “رحلة سلام” إلى “أرض سلام” في “زمن سلام”؛
رحلة سلام : إذ المسلم لا يبغي قتال أحد، ولا قتل أحد، وإنما يخرج قاصداً وجه الله وبيته.. محرماً يظل فترة إحرامه في سلام حقيقي مع من حوله وما حوله من إنسان وحيوان، وطير ونبات.. فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ولا قطع لنبات ولا شجر، ولا صيد لحيوان ولا ذبح له، بل ولا حلق لشعر نفسه، ولا قص لظفره.
 
إلى أرض سلام: إذ أرض الحج هي البلد الحرام: مكة، والبيت الحرام: الذي جعله الله مثابةً للناس وأمناً، و”من دخله كان آمنا” (آل عمران:97) إنها منطقة أمان فريد في نوعه؛ يشمل الطير في الجو، والصيد في البحر، والنبات في الأرض .. فهي “منطقة معقمة” لا يصاد صيدها، ولا يروع طيرها ولا حيوانها، ولا يقطع شجرها ولا عشبها.
 
في زمن سلام: إذ الحج – بالسفر إلى تأديته، والعودة منه، وأداء مناسكه- يقع في ثلاثة أشهر – هي: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم- هي من الأشهر الحرم التي جعلها الله “هدنة إجبارية” تٌغمد فيها السيوف، وتحقن الدماء، ويوقف القتال؛ حتى “يتذوق” الناس طعم السلام والهدوء والأمن والأمان؛ فيسعوا إليه مهرولين !
.. فهل رأت الدنيا “تطبيقاً عمليا” للسلام و “تدريباً” عليه كهذا الذي يصنعه الإسلام في رحلة الحج كل عام ؟!
 
2– التربية :
يقول تعالى : ” لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب” (البقرة:196)، “ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه” (الحج:28).. “لا رفث“: يمنع في الحج منعاً جازماً حاسماً الاستجابة لشهوة الفرج، وكل ما يتصل بها، ويمهد لها، أو يحركها – من قول أو فعل أو إشارة.
 
“لا فسوق“: ويمنع في الحج ارتكاب أي مخالفة شرعية.. والمعاصي والمخالفات يعظم إثمها بعظم حرمة زمانها ومكانها، وبمقدار التشديد والتوكيد في النهي عنها .. وكل ذلك متحقق في الحج؛ إذ مخالفة الشرع منهي عنها نصاً خارج وقت الحج، ونصاً أيضاً في وقت الحج, إضافة إلى حرمة زمان الحج ومكانه.. ومن ثم،على الحاج أن يلتزم في أثناء مدة حجه بأعلى درجات الطاعة والانضباط.. وإذا كان الشرع قد كف الحاج عن عدد من المباحات، فكيف لا يكف الحاجٌ نفسه عما هو محرم ومنهي عنه من أصله.
 
“لا جدال“: الحاج في أمس الحاجة للصفاء ولاستغلال وقته والاستفادة منه.. والجدال – في أغلب الأحيان- مضيعة للوقت، ومٌذهب للصفاء، وسبب للمشاحنات، ومقدمة للخصومات والمنازعات.. ولذلك نهى الله عن الجدال في الحج.
 
“ومن يعظم حرمات الله“:  إن الحاج ضيف من ضيوف الرحمن، بل هو نزيل بيت الضيافة الرباني.. ونحن إذا كنا ضيوفاً على غيرنا من الناس نكون على غاية ما يمكن من الأدب والهدوء والانضباط والالتزام واللياقة، فكيف بمن يكون في بيت الله وضيافته؟ وكيف  إذا كان المضيف في غياة الإكرام والتنعيم لضيفه ونزيل بيته؟ إن الإساءة في مثل هذا المقام جريمة، بل وفضيحة تسير بها الركبان !
 
“وتزودوا فإن خير الزاد التقوى“: على الحاج – وهو يستعد لسفره, ويتزود لرحلته- أن يتذكر أنه عما قريب سيفارق أهله وولده وبلده وماله إلى غير رجعة، وأن عليه أن يتزود أكثر وأكثر لسفره الأكبر، ورحلته الأخطر .. وليتعلم من رحلته إلى الحج – وتزوده لها، ومفارقته من يحب وما يحب- أنه لابد مرتحل ومفارق، وأن لكل ارتحال زاداً واستعداداً، وأن زاد الآخرة هو التقوى والعمل الصالح.. ومن أهم لوازم التقوى أن يبرئ المرء ذمته من المظالم وحقوق العباد؛ فيرد منها ما يمكن رده، ويستسمح من يمكن الاستسماح منه، ويستغفر الله ويتوب إليه مما لا يعلمه ولا يستطيع رده ولا التحلل منه؛ حتى لا يكون في سفره –الأصغر والأكبر- مثقلاً ومكبلاً بالمظالم وآثامها.
 
وبناءً على كل ما سبق، يجب على الحجاج أن يكونوا على درجة عالية من حسن الخلق، ومن الرفق واللين والتسامح.. وأن يعتبروا الحج فرصة نادرة لترويض النفس وتدريبها على التواضع والهدوء والخشوع والصفاء والبر والعفو والحلم.. إذ كل هذه أخلاق ضرورية كي يكون الحج مبروراً مقبولاً.
 
وبهذا يعود الحاج كيوم ولدته أمه.. ويعود وقد أصبح من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.. يعود وقد أصبح يدرأ بالحسنة السيئة، ويدفع بالتي هي أحسن.. يعود وقد ألزم نفسه بكف الأذى عن الناس، بل وبالتغاضي عن أذاهم, ومقابلته بالحلم والغفران..
 
أما أن يذهب على ما كان عليه من سوء الخلق وفظاظة الطبع وكثرة الجدال والخصام والأذى والفسوق، ثم يمكث هناك وعود على ما كان عليه، فما استفاد من حجه، وما ضمنه حجاً مبروراً متقبلاً، بل “ما حج هو، وإنما حج الجمل” !!
.. أرأيت كيف هو الحج “دورة تربوية تدريبية نادرة”..  فإذا رأيتَ وعلمتَ؛ فالزم !!
 
3- الوحدة الإسلامية – تجسيداً واقعياً وتطبيقاً عملياً :
الحج طريقة فذة لربط أمة الإسلام بمركز واحد، يديم لها رباط الدين، ويجدده فيها، ويوثق خيوطه، ويشدها بواسطته إلى ذكريات النور الذي انبثق في فجر رسالتها فهداها وأخرجها من الظلمات إلى النور.. وفي الحج تتجلى “الوحدة الكاملة للأمة الإسلامية” بكافة شعوبها وأعراقها وأقطارها: وحدة في المشاعر والشعائر، ووحدة في القول والفعل..  لا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية ولا طبقية، وإنما الجميع مسلمون، وبرب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرأون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، ولهدف واحد يبغون.
 
الحج فرصة لكل حاج كي “يجسد” الوحدة الإسلامية و “يستمتع” و “يعمق” شعوره بها – ولو لبضعة أيام أو أسابيع- .. فليوثقها بحسن التعارف والتآلف، وبالتعاون وحسن التعامل، وبتبادل الآراء والأخبار والمعلومات، مغلفاً ذلك كله بالمحبة والإخاء.
 
4- الانتفاع “ليشهدوا منافع لهم“:
1- “منافع”..  هكذا بالتنكير، ومن غير تحديد.. ومن ثم، فهي مفتوحة وعامة ومطلقة..  مما يدل بدوره على أن منافع الحج كثيرة ومتنوعة، بل وغير محصورة –لو أعددنا لها الإعداد الأمثل، واستثمرنا هذا الموسم أحسن استثمار: مادياً ومعنوياً، سياسياً وثقافياً فكرياً، واجتماعياً.
 
1/2- ولقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم  إلى قيمة الحج كـ “مؤتمر عالمي أكبر”؛ حيت اتخذ منه منبراً لإذاعة أهم القرارات والبلاغات والتوجيهات والقضايا التي تتصل بالسياسة العامة للمسلمين؛ ففي الحجة التي تمت في السنة التاسعة للهجرة، تحت إمارة أبي بكر الصديق، أٌعلن على الناس، بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ، قرار إلغاء المعاهدات التي عقدت مع المشركين؛ إذ قد نكثوها وعبثوا بها وخرجوا عليها ..
 
وفي العام التالي، حج رسول الله صلى الله عليه وسلم  بنفسه -حجة الوداع، وألقى خطاباً لم تَعِ مسامع الوجود أرقى من مبادئه، ولا أشرف من مقاصده: جاعلاً إياه سجلاً صادقاً لحقوق الإنسان وحريات الأمم، وملخصاً فيه أهم مبادئ الإسلام.
 
2/2- وعلى درب رسول الله صلى الله عليه وسلم سار الخلفاء الراشدون؛ إذ جعلوا من موسم الحج مؤتمراً يلتقون فيه بالولاة والعمال والقضاة، والعاملين على الزكاة، وقادة الجند، والفقهاء وأهل الرأي، بل وجمهور الناس من مختلف الأقاليم الإسلامية؛ حتى توضع صورة واقع الأمة أمام العقل القائد والمفكر – الخليفة الراشد- ؛ ليغيث الملهوف، وينصف المظلوم، ويرد الحق إلى أهله، ويضبط الأمور ويرشدها وينظمها، ومن كانت له مظلمة أو شكاية أو اقتراح فليتقدم به له .
 
3/2-  وعلى درب الرسول صلى الله عليه وسلم  وخلفائه الراشدين سار التابعون بإحسان؛ فكان موسم الحج منتدى للقراء والفقهاء والمحدثين وأهل الفكر والأدب، يتبادلون فيه الآراء والأفكار والخبرات والاجتهادات والروايات؛ لتنمو في الأمة ملكات الضبط والحوار والتعقل والاجتهاد واحترام الرأي الآخر .
 
4/2- واليوم.. وفي ظروف عصرنا الحديث، وعلى ضوء الواقع البائس الذي تحياه أمتنا – التي أصبحت “أمماً شراذم” بعد أن كانت أمة واحدة، رغم ما لديها من إمكانيات مادية، ورغم ما تملك من عقول مبدعة ومفكرة وخلاقة.. هل نطمح ونطمع ونتطلع إلى إعادة شعيرة الحج ” مؤتمراً عالمياً أكبر” لأمة الإسلام، و”لقاءً جامعاً” لعقل الأمة الراشد؛ يتأمل واقعها، ويرسم لجمهورها سبل الخلاص؟!.. ما ذلك على الله بعزيز، ولا على المخلصين المصلحين “المتضامنين المتضامين”ببعيد !!
 
3- والحج – عند سبر غوره- رحلة علمية وثقافية, وتوسيع لأفق المسلم، ووصل له بالعالم الكبير من حوله.. هكذا ينبغي أن تكون رحلة الحج من أولها إلى آخرها،  بذهابها ورجوعها، بإقامتها وتنقلاتها.. فمشاهدة البلدان وأهلها، ومجالسة العلماء والحكماء والمثقفين، وحضور الدروس والمحاضرات –على اختلاف أنواعها- وزيارة المواقع الأثرية والمآثر الإسلامية التي شهدت بزوغ فجر الإسلام وسطوع نوره على الأرض .. كل ذلك علم وثقافة، وتفقه وخبرة، لا ينبغي للحاج أن يضيعها أو يقلل من شأنها؛ لأنها من المنافع التي دعانا الله لأجل شهودها وتحصيلها باعتبارها من مقاصد الحج وثماره.
 
 
4- وفي الحج “تدريب على تحمل المشقات”، واحتمال الشدائد، والصبر على المكاره؛ إذ السفر للحج ركوب للمشقات، ومفارقة للأهل والوطن، وتضحية بالراحة والدعة والمال.
وفيه “تدريب على مواجهة الحياة كما فطرها الله”؛ بأزهارها وأشواكها، وشهدها وصبرها، وحرها وقرها؛ إذ حياة الحاج أشبه بحياة الكشاف – وخاصة في خيام منى وعرفات- في بساطتها وخشونتها، وتنقلاتها وارتحالاتها، واعتمادها على النفس، وبعدها عن الترف والتكلف والتعقيد.. مع ما قد يصطدم به الحاج من مناخ سيء؛ إذ أشهر الحج دائرة مع شهور السنة القمرية؛ وهي أشهر – كما نعلم- تأتي أحياناً في وقدة الصيف، وأحياناً في زمهرير الشتاء.. كل ذلك ليكون المسلم على استعداد لتحمل كل الـأجواء، والاصطبار على كل ألوان الصعوبات.. فأعظم بها من منافع !!
 
5-  إن الحج ” شحن لبطارية الروح والإيمان”.. يملأ جوانح المسلم بالتقى والخشية من الله، والعزم على طاعته، والندم على معصيته.. ويغذي فيه عاطفة الحب لله ولرسوله ولمن عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.. فيعود المسلم أصفى قلباً، وأطهر مسلكاً، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عوداً أمام مغريات الشر .. ينشئه الحج خلقاً آخر، ويعيده كيوم ولدته أمه.
 
6- والحج تبادل للمنافع التجارية والاقتصادية -على نطاق واسع- بين المسلمين.. أو هكذا يجب أن يكون.. وموسم الحج – في واقع أمره اليوم- مجرد “استهلاك” لسلع يصنع أغلبها غير المسلمين، بل إن “سجادة الصلاة” و” بوصلة القبلة” يصنعها الوثنيون للمسلمين !!
 
5- ذكر الله وعبادته والخضوع والتسليم له:
“اذكروا الله عند المشعر الحرام”.. “واذكروه كما هداكم”.. “واستغفروا الله”.. ” فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً”.. “واذكروا الله في أيام معدودات”..
 
1-  إن الأمر بذكر الله أمر متكرر في كل مراحل الحج ومناسكه، وهو أمر ملازم لكل أعمال الحج ومحطاته..  مما يجعل الحاج في حالة انقطاع وتجرد وتفرغ واستغراق، فتسمو روحه إلى آفاق علوية ربانية نورانية لا يعلم مداها، ولا فيوضاتها، إلا الله.
 
2- والحج – وهو شرعاً: القصد إلى بيت الله والهجرة الفعلية إليه- هو في حقيقته وجوهره: قصد إلى الله، وهجرة إليه مما سواه؛ خضوعاً وتسليماً له..
وشد الرحال إنما هو في حقيقته وجوهره إلى “رب البيت” لا إلى ” ذات البيت”..
 
3- وبمثل ما أن الحج “دورة ذكر مكثفة”، فهو أيضاً “دورة تعبدية شاملة”سواء بسواء.. وهاك البيان : لقد أكرمنا الله وشرفنا بعبادات متنوعة ومتعددة؛ حتى يجد الناس – على اختلاف ظروفهم وأحوالهم وقدراتهم- فرصتهم ونصيبهم ومجال قوتهم منها، وحتى يجد كل مكلف أنواعاً من العبادات تتسع لكل ما فيه، وما لديه، من بدنٍ وعقل وروح ونفس ومال ووقت.. فالصلاة عبادة لروحه ونفسه وعقله وبدنه.. والصيام عبادة لروحه ونفسه وبدنه .. والزكاة عبادة لروحه ونفسه وماله.. والجهاد عبادة لبدنه أو لماله أو للسانه.. والذكر عبادة لقلبه وروحه ونفسه ولسانه..
 
ولكن الحج يجمع كل هذا ويزيد عليه؛ فالحاج يعطي غير قليل من وقته في رحلته ومناسكه.. وهو يضحي بماله الذي ينفقه والذي يفوته كسبه.. وهو يجاهد ويعاني ببدنه وكافة حواسه؛ فيمشي بقدميه طائفاً وساعياً، ويرمي بيديه راجماً.. وهو ينهمك في حجه بقلبه وروحه ونفسه.. ويلبي ويذكر ويدعو بقلبه ولسانه..
وبذلك يتضح أن الحج عبادة تستغرق من الحاج كل كيانه؛ ففي الحج نصب وتعب، ومجاهدة ومعاناة، وصلاة ودعاء، وذكر وفكر، وحلم وصبر، ونفقات وصدقات.. وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه “جهاد لا قتال فيه” رواه ابن ماجة (2901) وصححه الألباني.
 
ألست معي – بعد ذلك كله – في أن الحج ” دورة تعبدية شاملة”!!