مصطفى البدري:

حكى زين الدين العراقي في كتابه طرح التثريب أكثر من ثلاثين قولا للعلماء في تحديد ليلة القدر، ثم نقل في خاتمة كلام العلماء كلاما مهما لابن حزم رحمه الله قال فيه: هي في العشر الأواخر، في ليلة واحدة بعينها لا تنتقل أبدا، إلا أنه لا يُدرَى أيّ ليلة هي منه، إلا أنها في وتر منه ولابد، فإن كان الشهر تسعا وعشرين فأول العشر الأواخر ليلة عشرين منه، فهي إما ليلة عشرين وإما ليلة اثنين وعشرين وإما ليلة أربع وعشرين وإما ليلة ست وعشرين وإما ليلة ثمان وعشرين؛ لأن هذه الأوتار من العشر، وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين، فهي أما ليلة إحدى وعشرين وإما ليلة ثلاث وعشرين وإما ليلة خمس وعشرين وإما ليلة تسع وعشرين وإما ليلة تسع وعشرين. اهـ
 
اهتم العلماء والعُبّاد والزُّهّاد قديما وحديثا بشأن ليلة القدر؛ وما ذلك إلا تعظيما منهم لما عظّمه الله تبارك وتعالى، وعظّمه رسوله عليه الصلاة والسلام، فقد أنزل الله عز وجل القرآن كاملا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في هذه الليلة، أو أنه ابتدأ إنزاله على النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء في هذه الليلة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال أيضا: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ}، فصار تعظيم شأنها من تعظيم القرآن الكريم، بل إن قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} واضح بيّن في إعلاء مكانتها وتعظيم شأنها.
 
وقبل أن أتكلم عن شأنها فيما يتعلق بالعبادة، أحببت أن ألفت إلى أنها الليلة التي تكتب فيها مقادير السنة من الآجال والأرزاق وسائر الحوادث، قال تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، نقل شيخ المفسرين (الطبري) عن العلماء قولهم: ليلة القدر، يُقضَى فيها أمر السَّنة كلها مَنْ يموت ومَن يولد، ومَن يعزّ ومَن يذل، وسائر أمور السنة. اهـ، فإذا كانت كل مقادير العباد قد سُطّرت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فإن التقدير السنوي يوضع في أيدي الملائكة في هذه الليلة المباركة، وهذا هو أحد الأسباب التي ذكرها العلماء في تسميتها (ليلة القدر) أي (ليلة التقدير) كما ذكر القرطبي في تفسيره.
 
{خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}

قال القرطبي في تفسيره: وفي تلك الليلة يُقسَم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء، كما قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني جميع الدهر. وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد الله ألف شهر، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها. اهـ
 
اختلاف العلماء في تحديد هذه الليلة من رمضان فهو كبير وطويل، وحسمه صعب جدا، وقد ظهر من كلام ابن حزم في أول المقال كيف أن حساب الليالي الوترية نفسه يختلف بحسب عدد أيام الشهر، وهو أمر لا يُعرف إلا عند ظهور هلال شهر شوال
ولهذا كله وردت التوجيهات النبوية الصريحة «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» و «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ»، حثا منه وحضا على الظفر بها والفوز بخيرها، وبيّن شيئا من فضلها قائلا: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وحذر من تضييعها بقوله: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، ..... لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» وفي شرح هذه الجملة قال الهروي في مرقاة المفاتيح: والمراد حرمان الثواب الكامل أو الغفران الشامل الذي يفوز به القائم في إحياء ليلها، قال الطّيّبِي: اتحد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء، أي فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وكان عليه الصلاة والسلام خير قدوة في تحريها والاجتهاد فيها، تقول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ المِئْزَرَ وَأَحْيَا الَّليْلَ» رغم أنه أصلا يحيي كل ليالي رمضان -بل كان يقوم الليل دائما- لكن المقصود هنا الزيادة في هذه الليالي وتمييزها عن سوابقها.
 
في أي يوم تكون ليلة القدر؟

حديث عائشة الأخير عن حاله عليه الصلاة والسلام مع أحاديث الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تدل على صحة ما قاله ابن حزم وجمهور العلماء أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، ولأنها ليلة قد وقع فيها حدث وانتهى، وهو نزول القرآن، فالصحيح أنها ليلة واحدة محددة، لا تتنقل ولا تتغير كل عام كما زعم البعض ذلك، أما اختلاف العلماء في تحديد هذه الليلة من رمضان فهو كبير وطويل، وحسمه صعب جدا، وقد ظهر من كلام ابن حزم في أول المقال كيف أن حساب الليالي الوترية نفسه يختلف بحسب عدد أيام الشهر، وهو أمر لا يُعرف إلا عند ظهور هلال شهر شوال، أي بعد انتهاء رمضان، أضف إلى ذلك حالة الفرقة التي عليها المسلمون، والتي تجعل الليالي الفردية في بلد زوجية في بلد آخر، لذا.. ينبغي علينا أن نحرص على قيام هذه الليالي العشر كاملة (شفعها ووترها)، وأن نكثر فيها كلها من القرآن والذكر والدعاء وعمل الصالحات عموما.
 
زيادة فضل

في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قال ابن كثير: أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له. وأما الروح فقيل: المراد به هاهنا جبريل، عليه السلام. ثم نقل عن السلف تفسيرهم لكلمة (سلام)، قال مجاهد: سلام هي من كل أمر. وقال أيضا: هي سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى. وقال الشعبي: تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد، حتى يطلع الفجر.
 
وأخيرا

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعَفُ عَنِّي"، فاللهم بلغنا ليلة القدر، ووفقنا لحسن العمل فيها، وأعنّا على قيامها إيمانا واحتسابا، واجعلنا فيها من الفائزين المقبولين.