محطة عظيمة من محطات كثيرة مر بها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، إلا أنها كانت فاصلة بين مرحلتي الابتلاء والتمحيص ، والبناء والتأسيس ،

كيف ؟  في مكة ظل الرسول الكريم يقاوم ويصبر ويتحمل ويحتسب عند الله ما ألم به ...!!

كان يمر علي المعذبين ولا يملك الا ان يقول لهم : صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة ،

وكان الاعداء يضعون سلا الجذور علي رأسه وهو ساجد ، وتعرض للاغتيال اكثر من مرة ..!!  تجاوز كل ذلك ومعه صحبه الكرام رضوان الله عليهم بعزم ثابت وصبر جميل  وهمة عالية .

والأمة تحتاج  إلى أصحاب الهمم والطموح، فهم صناع الحياة وقيادات المستقبل في أي أمة من الأمم في القديم والحديث وحتى في موازين الله تعالى في الدنيا والآخرة، فضَّل الله أصحاب الهمم العالية والطموح والمثابرة على غيرهم وإن كانوا مسلمين من أصحاب الحسنى  قال تعالى: ") لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا( " النساء.

قال المتني :

إذا غامرت في شرف مروم

                    فلا تـقـنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

                كطعم الموت في أمر عظيم

يرى الجبناء أن العجز أمن

             وتلك خـديعة الطـبع اللئيم

تعرض المصطفي صلي الله عليه وسلم لشدائد جمة وابتلاءات ضخمة وامتحانات صعبة ، خرج منها اقوي ايمانا واوسع صدرا واثبت يقينا واصلب عودا ، واعلي همة تمكنه من الصمود في وجه العوادى والنكبات ، وتسلحه ضد اهوال الحياة وتقلبات الدهر ...!!

وهكذا المؤمن يخرج من الشدائد اكثر صمودا واقوي عزما كالذهب الاصيل يدخل النار فيخرج اكثر بريقا وأقوي لمعانا ...!!

حصار خانق ثلاثة سنوات  ، صنعه قساة القلوب ومعدومي الضمير وموقدي الحروب ، حتي اكل الصحابة الكرام  اوراق الشجر من شدة الجوع ، حصار مفاده لا يزوجهم احد ولا يزوجون ، لا يبيع لهم احد ولا يبيعون ، لا يزورهم احد ولا يزورون ...!! حتي قيد لهم - من ابناء جلدتهم - من ذوي المروءة والشهامة استطاعوا ان يفكوا عنهم الحصار ...

ثم توفي عمه ونصيره عمه أبو طالب الذي صد عنه كل أذي ،جاءوا إليه يقولون ابن أخيك شتم أباءنا ،وسفه أحلامنا وعاب ألهتنا  ،فجاء به وقال له يا محمد دعك من هؤلاء فقد شتمت أبائهم ،وسفهت أحلامهم ،وعبت ألهتهم ،فرد النبي صلي الله عليه وسلم بكلمات بيضت وجه التاريخ ، وأسست للمبدأ الحق ، واصلحت نبراسا يحتذي به  : والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ،   إنه طريق الدعوات ، لو جاءوا إليه بكل الدنيا ،الشمس والقمر ،السماء والأرض ،الحجر والشجر ما تركت هذا الدين حتي يظهره الله .

وتوفيت السيدة خديجة رضي الله عنها ،التي أمنت به حين كفر به الناس ،وأعطته حين منعه الناس ،وواسته حين تخلي عنه الناس ،فلقب هذا العام بعام الحزن لا علي فقدان الاثنين فحسب، وإنما لما أصاب الدعوة من بعدهما .

وكانت الشدة الثالثة في ذهابه الي الطائف ، حيث لم يقعده اذي ،ولم يؤخره بلاء ، ولم يخلد لراحة ،ولم يقعد عن بذل ،ولم يمتنع عن عطاء ..

 

أمل النبي الكريم  في اهل الطائف ما لم يؤمل في اهل مكة ، ورجي عندهم مالم يرجوه في مكة ،فذهب إليهم ومعه زيد بن حارثة ،يدعوهم إلي الله ، ويأخذهم  إلي الحق فما انفرجت لرؤيته سرائرهم ، ولا تقبلت لرسالته بصائرهم ،ولا تفتحت لدعوته قلوبهم ،و لم يجد من صغارهم إلا هزءا ،ولم يلقي من صبيانهم  إلا صدا  ، ولم يري من كبارهم الا كفرا حتى سلطوا عليه سهاؤهم  فرموه بالحجارة  فعاد جريح الجسد ،دامي القدمين ، تخلط دموعه بعرقه بدمائه ،  وفي طريق عودته لم يجد إلا ربا يلوذ به والاه يضرع اليه وخالقا يحتمي بحماه  ويبث اليه شكواه  :  اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي وقله حيلتي وهواني علي الناس ،إلي من تكلني إلي بعيد يتجهمني أم إلي عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، أعوذ بنور وجهي الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل علي غضبك أو يحل علي سخطك لك ألعتبي حتى ترضي ولك العتبي إذا رضيت ولا حول ولا قوه إلا بك ..

فإذا كان الله يرفع الضر  ويكشف السوء  ،إذا كان الله يجيب  الدعاء ويلبي النداء ، فكيف إذا كان المنادي  والداعي هو صفيه من خلقه وحبيبه من عباده ،  محمد صلي الله عليه وسلم ... .

لاح فجر الأمل في منحة الهية ونفحة ربانية  تمثلت في رحلتي الاسراء والمعراج  ، ليكون الاصطفاء للحبيب صلي الله عليه وسلم  ، حيث صعد للسموات العلا ، ووصل سدرة المنتهي ، وكان من ربه قاب قوسين او أدني ، واعطيت لامته هدية السماء تمثلت في  ( الصلاة ) ، ليصطفي من خلالها عباد الله

وافرزت المحنة منحة ، وانبثق الفرج من الكرب ، وجاء اليسر بعد العسر ... وكان الاسراء والمعراج تسرية عنه وتفريجا لكربه وتقوية لقلبه   وتكريما لدعوته  ... فإذا كانت الأرض قد ضاقت به زرعا  فتحت له السماء أبوابها سماء بعد سماء ،وإذا كان أهل الأرض قد تنكروا له ولدعوته ،فإن أهل السماء رحبوا به والتفوا حوله ،فكان قائدهم وإمامهم ، واستمعت الجن له ،وبلغت عنه ،وكانت رحلتي الإسراء والمعراج للقائد وكانت الصلاة للامة ، وهكذا الهمم العالية والعزائم الماضية و القيم السامية ، تنشدها الرسالة الباقية في اتباعها ، رسالة الاسلام وطريق السلام ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام ..

يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ( إن لي نفساً تواقة ... وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه ... فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا – يعني الخلافة - تاقت نفسي إلى ما هو أفضل من الدنيا كلها ... الجنة).  قال شوقي:

وما نـيـل المطالب بالتمني

                     ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً

وما استعصى على قوم منالٌ

                  إذ الإقدام كان لهم ركابا

 

خميس النقيب