ماسبق نشره : تربية الأولاد في الإسلام (1)

 

بقلم : الشيخ عبد الله علوان.
 

القسم الأول

الفصل الأول: الزواج المثالي وارتباطه بالتربية
الزواج فطرة إنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول:الزواج المثالي وارتباطه بالتربية
قبل أن أشرع في بيان الأسس التي وضعها الإسلام في تربية الأولاد يحسن أن أتعرض – ولو باختصار – للزواج من نواح ثلاثة:
(أ) الزواج فطرة إنسانية.
(ب) الزواج مصحلة اجتماعية.
(ج) الزواج انتقاء واختيار.
لأن التعرض لمثل هذه النواحي توضح وجه ارتباط التربية بتحمل المسؤولية، وإنجاب الذرية، والاعتراف بنسب الولد، وسلامة جسمه وأخلاقه، وتأجيج عاطفة أبويه نحوه، وتعاون الزوجين على تربيته وتقويم اعوجاجه، وإعداده إنساناً صالحاً للحياة.
وإليكم بعض التفاصيل في كل ناحية من هذه النواحي الثلاثة:
(أ) الزواج فطرة إنسانية
من الأمور البديهية في مبادئ الشريعة الإسلامية، أن الشريعة حاربت الرهبانية لكونها تتصادم مع فطرة الإنسان، وتتعارض مع ميوله وأشواقه وغرائزه.
- فقد روى البيهقي في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفيّة السمحة).
- وروى الطبراني والبيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان موسراً لأن ينكح ثم لم ينكح فليس مني).
فأنت ترى من هذه الأحاديث وغيرها أن شريعة الإسلام تحرم على المسلم أن يمتنع عن الزواج، ويزهد فيه بينة الرهبانية، والتفرغ للعبادة، والتقرب إلى الله، ولا سيما إن كان المسلم قادراً عليه، متيسراً له أسبابه ووسائله.
ونحن إذا تأملنا مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراقبة افراد المجتمع، ومعالجة النفس الإنسانية ازددنا يقيناً بأن هذه المراقبة وتلك المعالجة مبنيتان على إدراك حقيقة الإنسان، وراميتان إلى تلبية أشواقه وميوله، حتى لا يتجاوز أي فرد في المجتمع حدود فطرته، ولا يعمل ما ليس بإمكانه واستطاعته، بل يسير في الطريق السوي سيراً طبيعياً متلائماً معتدلاً.. لا يتعثر وقد سار الناس، ولا يتقهقر وقد تقدم البشر، ولا يضعف وقد قوي أبناء الحياة {فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم: 30.
وإليكم هذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعد من أعظم المواقف الإصلاحية والتربوية في معالجة الطبائع السلبية، وفهم حقيقة الإنسان:
- روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها (وجدوها قليلة) فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فمن هذه النصوص يتبين لكل ذي عقل وبصيرة أن الزواج في الإسلام فطرة إنسانية، ليحمّل المسلم في نفسه أمانة المسؤولية الكبرى تجاه من له في عنقه حق التربية والرعاية.. حينما يلبي هذه الفطرة، ويستجيب لأشواق هذه الغريزة، ويساير سنن هذه الحياة!!!.
الزواج مصلحة اجتماعية
من المعلوم أن للزواج في الإسلام فوائد عامة، ومصالح اجتماعية، سنتعرض بتوفيق الله لأهمها، ثم نبين وجه ارتباطها بالتربية:
1- المحافظة على النوع الإنساني:
فبالزواج يستمر بقاء النسل الإنساني، ويتكاثر ويتسلسل.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يخفى ما في هذا التكاثر والتسلسل من محافظة على النوع الإنساني، ومن حافز لدى المختصين لوضع المناهج التربوية، والقواعد الصحيحة لأجل سلامة هذا النوع من الناحية الخلقية، والناحية الجسمية على السواء، وقد نوّه القرآن الكريم عن هذه الحكمة الاجتماعية والمصلحة الإنسانية حين قال: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} النحل: 72.
وقوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} النساء: 1.
2- المحافظة على الأنساب:
وبالزواج الذي شرعه الله يفتخر الأبناء بانتسابهم إلى آبائهم.. ولا يخفى ما في هذا الانتساب من اعتبارهم الذاتي واستقرارهم النفسي وكرامتهم الإنسانية.. ولو لم يكن ذلك الزواج الذي شرعه الله، لعجّ المجتمع بأولاد لا كرامة لهم ولا أنساب، وفي ذلك طعنة نجلاء للأخلاق الفاضلة، وانتشار مريع للفساد والإباحية..
3- سلامة المجتمع من الانحلال الخلقي:
وبالزواج يسلم المجتمع من الانحلال الخلقي، ويأمن الأفراد من التفسخ الاجتماعي.. ولا يخفى على كل ذي إدراك وفهم أن غريزة الميل إلى الجنس الآخر حين تشبع بالزواج المشروع، والاتصال الحلال تتحلى الأمة – أفراداً وجماعات – بأفضل الآداب، وأحسن الأخلاق، وتكون جديرة بأداء الرسالة، وحمل المسؤولية على الوجه الذي يريده الله منها، وما أصدق ما قاله عليه الصلاة والسلام في إظهار حكمة الزواج الخلقية، وفائدته الاجتماعية حين كان يحض فئة من الشباب على الزواج: (يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة[1] فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء[2]) رواه الجماعة.
4- سلامة المجتمع من الأمراض:
وبالزواج يسلم المجتمع من الأمراض السارية الفتاكة التي تنتشر بين أبناء المجتمع نتيجة للزنى، وشيوع الفاحشة، والاتصال الحرام.. ومن هذه الأمراض الزهري، وداء السيلان (التعقيبة).. وغيرها من الأمراض الخطيرة التي تقضي على النسل وتوهن الجسم، وتنشر الوباء، وتفتك بصحة الأولاد.
5- السكن الروحاني والنفساني:
وبالزواج تنمو روح المودة والرحمة والإلفة ما بين الزوجين.. فالزوج حين يفرغ آخر النهار من عمله، ويركن عند المساء إلى بيته، ويجتمع بأهله وأولاده، ينسى الهموم التي اعترته في نهاره، ويتلاشى التعب الذي كابده في سعيه وجهاده، وكذلك المرأة حين تجتمع مع زوجها، وتستقبل عند المساء رفيق حياتها.
وهكذا يجد كل واحد منهما في ظل الآخر سكنه النفسي، وسعادته الزوجية، وصدق الله العظيم عندما صور هذه الظاهرة بأبلغ بيان، وأجمل تعبير: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الروم: 27.
6- تعاون الزوجين في بناء الأسرة وتربية الأولاد:
وبالزواج يتعاون الزوجان على بناء الأسرة، وتحمل المسؤولية.. فكل منهما يكمل عمل الآخر، فالمرأة تعمل ضمن اختصاصها، وما يتفق مع طبيعتها وأنوثتها، وذلك في الإشراف على إدارة البيت، والقيام بتربية الأولاد، وصدق من قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
والرجل كذلك يعمل ضمن اختصاصه، وما يتفق مع طبيعته ورجولته، وذلك في السعي وراء العيال، والقيام بأشق الأعمال، وحماية الأسرة من عوادي الزمن، ومصائب الأيام.. وفي هذا يتم روح التعاون ما بين الزوجين، ويصلان إلى أفضل النتائج، وأطيب الثمرات في إعداد أولاد صالحين، وتربية جيل مؤمن يحمل في قلبه عزمة الإيمان، وفي نفسه روح الإسلام، بل ينعم البيت بأجمعه ويرتع ويهنأ في ظلال المحبة والسلام والاستقرار.
7- تأجج عاطفة الأبوة والأمومة:
وبالزواج تتأجج في نفس الأبوين العواطف، وتفيض من قلبيهما الأحاسيس والمشاعر النبيلة.. ولا يخفى ما في هذه الأحاسيس والعواطف من أثر كريم، ونتائج طيبة في رعاية الأبناء، والسهر على مصالحهم والنهوض بهم نحو حياة مستقرة هانئة، ومستقبل فاضل بسَّام.
تلكم أهم المصالح الاجتماعية التي تنجم عن الزواج، ولقد رأيت – أخي القارئ – ارتباط هذه المصالح بتربية الولد وإصلاح الأسرة، وتنشئة الجيل.
فلا عجب أن نرى الشريعة الإسلامية قد أمرت بالزواج وحضت عليه، ورغبت فيه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" رواه ابن ماجة.
والقائل: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة وخير متاعها المرأة الصالحة" رواه مسلم.
[1] الباءة: القدرة على الزواج.
[2] وجاء: قاطع للشهوة.
الزواج انتقاء واختيار
الإسلام بتشريعه السامي، ونظامه الشامل.. قد وضع أمام كل من الخاطب والمخطوبة قواعد وأحكاماً، إن اهتدى الناس بهديها، ومشوا على نهجها كان الزواج في غاية التفاهم والمحبة والوفاق.. وكانت الأسرة المكونة من البنين والبنات في ذروة الإيمان المكين، والجسم السليم، والخلق القويم، والعقل الناضج، والنفسية المطمئنة الصافية.
وإليكم أهم هذه القواعد والأحكام:
1- الاختيار على أساس الدين:
نقصد بالدين – حين نطلق لفظه – الفهم الحقيقي للإسلام، والتطبيق العملي السلوكي لكل فضائله السامية، وآدابه الرفيعة.. ونقصد كذلك الالتزام الكامل بمناهج الشريعة، ومبادئها الخالدة على مدى الزمان والأيام.
فعندما يكون الخاطب أو المخطوبة على هذا المستوى من الفهم والتطبيق والالتزام.. يمكن أن نطلق على أحدهما أنه ذو دين وذو خُلق.. وعندما يكون الواحد منهما على غير هذا المستوى من الفهم والتطبيق والالتزام.. فمن البديهي أن تحكم عليه بانحراف السلوك وفساد الخُلق، والبعد عن الإسلام.. مهما ظهر للناس بمظهر الصلاح والتقوى وزعم أنه مسلم متمسك...
وما أدقَّ ما سنَّه الخليفة العادل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لما وضع الموازين الصحيحة لمعرفة الأشخاص، وإظهار حقائق الرجال، وذلك حينما جاءه رجل يشهد لرجل آخر...
فقال له عمر: أتعرف هذا الرجل؟ فأجاب: نعم!
قال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ فأجاب الرجل: لا.
قال عمر: هل صاحبته في السفر الذي تعرف به مكارم الأخلاق؟ فأجاب الرجل: لا.
قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به ورع الرجل؟ فأجاب الرجل: لا.
فصاح به عمر، لعلك رأيته قائماً قاعداً يصلي في المسجد يرفع رأسه تارة ويخفضه أخرى، فرد الرجل نعم!!.
فقال له عمر: اذهب فإنك لا تعرفه، والتفت إلى الرجل وقال له: ائتني بمن يعرفك.
فعمر رضي الله عنه لم ينخدع بشكل الرجل ولا مظهره، ولكن عرف الحقيقة بموازين صحيحة كشفت عن حاله، ودلت على تدينه وأخلاقه!!..
وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم..".
لهذا كله أرشد النبي صلوات الله وسلامه عليه راغبي الزواج بأن يظفروا بذات الدين، لتقوم الزوجة بواجبها الأكمل في أداء حق الزوج وأداء حق الأولاد، وأداء حق البيت على النحو الذي أمر به الإسلام، وحض عليه الرسول عليه الصلاة والسلام.
- روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت[1] يداك".
- وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذُلاًّ، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغضَّ بصره، ويحصِّن فرجه، أو يصل رحمه، بارك الله له فيها، وبارك لها فيه".
وبالمقابل أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أولياء المخطوبة بأن يبحثوا عن الخاطب ذي الدين والخلق، ليقوم بالواجب الأكمل في رعاية الأسرة، وأداء حقوق الزوجية، وتربية الأولاد، والقوامة الصحيحة في الغيرة على الشرف، وتأمين حاجات البيت بالبذل والإنفاق.
- روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض".
وأية فتنة أعظم على الدين والتربية والأخلاق من أن تقع الفتاة المؤمنة بين براثن خاطب متحلل، أو زوج لا يرقب في مؤمنة إلاًّ ولا ذمة، ولا يقيم للشرف والغيرة والعِرض وزناً ولا اعتباراً؟
وأية فتنة أعظم على المرأة الصالحة من أن تقع في عصمة زوج إباحي فاجر، يُكرِهها على السفور والاختلاط، ويجبرها على احتساء الخمرة، ومراقصة الرجال، ويقسرها على التفلت من ربقة الدين والأخلاق؟
فكم من فتاة – ويا للأسف – كانت في بيت أهلها مثالاً للعفة والطهارة، فلما انتقلت إلى بيت إباحي، وزوج متحلل فاجر، انقلبت إلى امرأة متهتكة مستهترة، لا تقيم لمبادئ الفضيلة أية قيمة، ولا لمفهومات العفة والشرف أي اعتبار!!.
ومما لا شك فيه أن الأولاد حين ينشؤون في مثل هذا البيت المتحلل الماجن الآثم، فإنهم سينشؤون – لا محالة – على الانحراف والإباحية، ويتربون على الفساد والمنكر.
إذن فالاختيار على أساس الدين والأخلاق من أهم ما يحقق الزوجين سعادتهما الكاملة المؤمنة، وللأولاد تربيتهم الإسلامية الفاضلة، وللأسرة شرفها الثابت، واستقرارها المنشود.
2- الاختيار على أساس الأصل والشرف:
ومن القواعد التي وضعها الإسلام في اختيار أحد الزوجين للآخر، أن يكون الانتقاء لشريك الحياة من أسرة عريقة عُرفت بالصلاح والخلق، وأصالة الشرف، وأرومة الأصل، ولكون الناس معادون يتفاوتون فيما بينهم وضاعة وشرفاً، ويتفاضلون فساداً وصلاحاً!!.
ولقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم في أن الناس معادن، وأنهم يتفاوتون في الوضاعة والشرف، والخير والشر، بقوله في الحديث الذي رواه الطيالسي، وابن منيع، والعسكري عن أبي هريرة: "الناس معادن في الخير والشر، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا".
لهذا حض النبي صلى الله عليه وسلم كل راغب في الزواج، أن يكون الانتقاء على أساس الأصالة والشرف والصلاح والطيب.. وإليكم طاقة من أحاديثه الكثيرة المتضافرة.
- فقد روى الدارقطني، والعسكري، وابن عدي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "إياكم وخضراء الدِّمَن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء"[2].
- وروى ابن ماجة، والدارقطني، والحاكم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء".
- وروى ابن ماجة والديلمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دسَّاس".
- وروى ابن عدي، وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن"، وفي رواية: "اطلبوا مواضع الأكفاء لنطفكم، فإن الرجل ربما أشبه أخواله".
- وروى ابن عدي في الكامل مرفوعاً: "تزوجوا في الحِجْر الصالح فإن العرق دسَّاس".[3]
فهذه الأحاديث بمجموعها ترشد راغبي الزواج، إلى أن يختاروا زوجات ترعرعن في بيئة صالحة، ونشأن في بيت عريق عُرف بالشرف والطيب، وتناسلن من نطفة انحدرت من أصل كريم، وجدود أمجاد!!.. ولعل السر في هذا حتى ينجب الرجل أولاداً مفطورين على معالي الأمور، ومتطبعين بعادات أصيلة، وأخلاق إسلامية قويمة.. يرضعون منهن لَبان المكارم والفضائل، ويكتسبون بشكل عفوي خِصال الخير، ومكارم الأخلاق!!..
وانطلاقاً من هذا المبدأ أوصى عثمان بن أبي العاص الثقفي أولاده في تخيّر النطف، وتجنب عِرْق السوء.. وإليكم ما قاله لهم: (يا بنيّ! الناكح مغترس، فلينظر امرؤ حيث يضع غرسه، والعِرْق السوء قَلَّمَا يُنجب، فتخيروا ولو بعد حين). وتحقيقاً لهذا الاختيار أجاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن سؤال لأحد الأبناء لما سأله ما حق الولد على أبيه، بقوله: (أن ينتقي أمه، ويحسّن اسمه، ويعلمه القرآن).
وهذا الانتقاء الذي وجّه إليه رسول الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، يعد من أعظم الحقائق العلمية، والنظريات التربوية في العصر الحديث.. فعلم الوراثة أثبت أن الطفل يكتسب صفات أبويه الخلقية والجسمية والعقلية منذ الولادة.. فعندما يكون انتقاء الزوج، أو اختيار الزوجة على أساس الأصل والشرف والصلاح، فلا شك أن الأولاد ينشؤون على خير ما ينشؤون من العفة والطهر والاستقامة.. وعندما يجتمع في الولد عامل الوراثة الصالحة، وعامل التربية الفاضلة يصل الولد إلى القمة في الدين والأخلاق، ويكون مضرب المثل في التقوى والفضيلة، وحسن المعاملة، ومكارم الأخلاق..
فما على راغبي الزواج إلا أن يحسنوا الاختيار، ويُحْكِموا في رفيق الحياة الانتقاء، إن أرادوا أن تكون لهم ذرية صالحة، وسلالة طاهرة، وأبناء مؤمنون!.
3- الاغتراب في الزواج:
ومن توجيهات الإسلام الحكيمة في اختيار الزوجة، تفضيل المرأة الأجنبية على النساء ذوات النسب والقرابة، حرصاً على نجابة الولد، وضماناً لسلامة جسمة من الأمراض السارية، والعاهات الوراثية، وتوسيعاً لدائرة التعارف الأسرية، وتمتيناً للروابط الاجتماعية. ففي هذا تزداد أجسامهم قوة، ووحدتهم تماسكاً وصلابة، وتعارفهم سعة وانتشاراً!!.. فلا عجب أن ترى النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من الزواج بذوات النسب والقرابة، حتى لا ينشأ الولد ضعيفاً، وتنحدر إليه عاهات أبويه، وأمراض جدوده.
فمن تحذيراته عليه الصلاة والسلام في هذا قوله: "لا تنكحوا القرابة فإن الولد يخلق ضاوياً[4]" وقوله: "اغتربوا ولا تضووا[5]".
ولقد أثبت علم الوراثة كذلك أن الزواج بالقرابة يجعل النسل ضعيفاً من ناحية الجسم، ومن ناحية الذكاء، ويورث الأولاد صفات خُلقية ذميمة، وعادات اجتماعية مستهجنة...
وهذه الحقيقة قررها رسول الإسلام صلوات الله وسلامه عليه منذ أربعة عشر قرناً، قبل أن يأتي العلم ليقول كلمته، ويظهر لذوي الأبصار حقائقه.
وهذه معجزة لرسولنا الأمي العظيم صلوات الله وسلامه عليه، تُضاف إلى جملة معجزاته الباهرة، وإخباراته الصادقة..
4- تفضيل ذوات الأبكار:
ومن توجيهات الإسلام الرشيدة في اختيار الزوجة، تفضيل المرأة البكر على المرأة الثيِّب[6]، لحِكم بالغة، وفوائد عظيمة!.
فمن هذه الفوائد: حماية الأسرة مما ينغص عيشها، ويوقعها في حبائل الخصومات، وينشر في أجوائها ضباب المشكلات والعداوات.. وفي الوقت نفسه تمتين لأواصر المحبة الزوجية، لكون البكر مجبولة على الإنس والإلفة بأول إنسان تكون في عصمته، وتلتقي معه، وتتعرف عليه.. بعكس المرأة الثيب، فقد لا تجد في الزوج الثاني الإلفة التامة، والمحبة المتبادلة، والتعلق القلبي الصادق للفرق الكبير بين أخلاق الأول ومعاملة الثاني.
فلا غرابة أن نرى عائشة رضي الله عنها قد وضحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه المعاني، لما قالت للرسول صلوات الله عليه – فيما رواه البخاري - : يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، وشجرة لم يأكل منها، في أي منها كنتَ تُرتِع بعيرك؟ قال عليه الصلاة والسلام: في التي لم يُرْتَعْ منها، قالت رضي الله عنها: "فأنا هي".
وتقصد بيان فضلها على باقي الزوجات باعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها. وقد ألمح عليه الصلاة والسلام عن بعض الحِكَم بالزواج بذوات الأبكار، فقال عليه الصلاة والسلام – فيما رواه ابن ماجة والبيهقي - : "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأقل خِبّاً، وأرضى باليسير"[7].
كما ألمح عليه الصلاة والسلام لجابر رضي الله عنه، أن الزواج بالبكر يولد المحبة، ويقوي جانب الإحصان والعفة، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر – وهو راجع من غزوة ذات الرقاع - : يا جابر هل تزوجت بعد؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيباً أم بكراً؟ قلت: لا، بل ثيباً، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك لنا بناتٍ سبعاً، فنكحتُ امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن: قال: أصبت إن شاء الله".
ومما يشير إليه حديث جابر أن الزواج بالمرأة الثيب قد يكون أفضل من الزواج بالمرأة البكر في بعض الحالات، كحالة جابر رضي اللهعنه التي مر ذكرها، ليتم التعاون في رعاية الأيتام، والعناية بهم، والقيام على أمرهم، تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} المائدة: 02.
5- تفضيل الزواج بالمرأة الولود:
ومن توجيهات الإسلام في اختيار الزوجة انتقاء المرأة الولود، وتعرف بشيئين:
الأول: سلامة جسمها من الأمراض التي تمنع من الحمل، ويستعان لمعرفة ذلك بالمختصين.,
الثاني: النظر في حال أمها، وحال أخواتها المتزوجات، فإن كن من الصنف الولود، فعلى الغالب هي تكون كذلك.
ومن المعلوم طباً أن المرأة حينما تكون من الصنف الولود، تكون في الغالب في صحة جيدة، وجسم قوي سليم.. والتي تتوافر فيها هذه الظاهرة تستطيع أن تنهض بأعبائها المنزلية، وواجباتها التربوية، وحقوقها الزوجية على أكمل وجه، وأنبل معنى.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن على الذي يتزوج المرأة الولود، ويحرص على كثرة النسل، وإنجاب الذرية، أن يؤدي إليهم ما يترتب عليه من واجب ومسؤولية، سواء ما يتعلق بمسؤولية النفقة، أو مسؤولية التربية، أو مسؤولية التعليم.
وإلا كان مسؤولاً عند الله سبحانه فيما فرط، وفيما قصّر، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" رواه ابن حبان.
والذي نخلص إليه بعدما تقدم: أن الذي يأنس من نفسه أو ينهض بمسؤوليات الأولاد كما أمر الإسلام فلا يسعه – إن أراد الزواج – إلا أن يفتش عن المرأة الولود ليضاعف من أعداد هذه الأمة المحمدية التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، وما ذاك إلا من توجيهاته عليه الصلاة والسلام، وذلك حين جاءه رجل يقول له:
يا رسول الله إني أحببت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم" رواه أبو داود والنسائي والحاكم.
تلكم هي أهم مبادئ الزواج، وأهم ارتباطاته بقضايا التربية.. فالإسلام يعالج تربية الأفراد من تكوين الخلية الأولى للأسرة، يعالجها بالزواج لكونه يلبي حاجة الفطرة ويساير أشواق الحياة، ولكونه يلحق نسب الأبناء بآبائهم، ويحرر المجتمع من الأمراض الفتاكة، والانحلال الخلقي، ويحقق التعاون الكامل بين الزوجين في تربية الأولاد، ويؤجج عاطفة الأبوة والأمومة في نفسيهما..
ولكونه يقوم على أسس متينة وقواعد عملية صحيحة في اختيار شريك الحياة، والتي من أهمها الاختيار على أساس الدين، وأساس الأصل والشرف، وأساس تفضيل ذوات الأبكار.
ولما يعلم المسلم من أين يبدأ؟ لتكوين الأسرة المسلمة، والذرية الصالحة، والجيل المؤمن بالله... تهون في نظره المسؤوليات الأخرى المترتبة عليه، والمكلف بها.
لماذا؟ لأنه أوجد في بيته حجر الأساس الذي يبني عليه ركائز التربية القويمة، ودعائم الإصلاح الاجتماعي، ومعالم المجتمع الفاضل.. ألا وهو المرأة الصالحة!!!
إذن فتربية الأولاد في الإسلام يجب أن تبدأ أول ما تبدأ، بزواج مثالي يقوم على مبادئ ثابتة لها في التربية أثر، وفي إعداد الجيل تكوين وبناء!!.
ألا فليتذكر أولو الألباب...
[1] تربت يداك: كلمة تفيد الحث والتحريض، والدعاء له بكثرة المال، وصار المعنى: اظفر بذات الدين ولا تلتفت إلى المال وغيره.
[2] خضراء الدمن: عشب المزابل.
[3] أحاديث الاختيار على أساس الأصل والشرف ضعيفة بمفردها وحسنة بمجموعها لتعدد طرقها.
[4] ضاوياً: نحيفاً ضعيف الجسم بليد الذكاء.
[5] أرسل إليّ بعض الفضلاء جزاهم الله كل خير، التخريج الآتي:
فحديث: "اغتربوا ولا تضووا" ذكر تخريجه العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء للغزالي، بأن لفظ الحديث المذكور ليس بحديث، وإنما هو أثر ثبت معناه عن الفاروق عمر حين قال لآل السائب: "قد أضويتُم فانكحوا في النوابغ" أي في الغرائب. واشتهر هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه برواية أخرى: "لا تنكحوا القرابة فإن الولد يخلق ضاوياً".
[6] المرأة البكر: هي التي لم تتزوج بعد، والثيب: هي التي سبق لها أن تزوجت.
[7] المقصود بعذوبة الأفواه: طيب الكلام، ونتق الأرحام: كثرة الأولاد، وأقل خِبّاً أقل مكراً وخديعة.
الفصل الثاني - الشعور النفسي نحو الأولاد
الأبوان مفطوران على محبة الولد
المقصود بالشعور النفسي: إبراز ما أودع الله سبحانه في قلب الأبوين من حب وعاطفة ورحمة نحو أولادهما.. والحكمة في ذلك، هي استهجان عادات جاهلية بغيضة استحكمت في بعض النفوس المريضة، وفي النظرة السيئة إلى البنات، وإظهار فضيلة المثوبة والأجر لمن يصبر على فقد الولد ويتجلد لفراقه... وأخيراً ماذا يفعل الأبوان إذا تعارضت مصلحة الإسلام مع مصلحة الولد؟
كل هذه المشاعر النفسية، والعواطف القلبية، وكل هذه التصورات والتساؤلات ستجدها – أيها الأخ الكريم – مبيّنة موضحة في هذا الفصل، وعلى الله قصد السبيل، ومنه نستمد العون والتوفيق.
أ) الأبوان مفطوران على محبة الولد:
من المعلوم بداهة أن قلب الأبوين مفطور على محبة الولد، ومتأصل بالمشاعر النفسية والعواطف الأبوية لحمايته، والرحمة به، والشفقة عليه، والاهتمام بأمره.
ولولا ذلك لانقرض النوع الإنساني من الأرض، ولما صبر الأبوان على رعاية أولادهما، ولما قاما بكفالتهم، وتربيتهم، والسهر على أمرهم، والنظر في مصالحهم.
ولا عجب أن يصور القرآن العظيم هذه المشاعر الأبوية الصادقة أجمل تصوير، فيجعل من الأولاد تارة زينة الحياة: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا...} الكهف: 46.
ويعتبرهم أخرى نعمة عظيمة تستحق شكر الواهب المنعم:
{وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً} الإسراء: 06.
ويعتبرهم ثالثة قرة أعين إن كانوا سالكين سبيل المتقين:
{والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً} الفرقان: 74.
إلى غير ذلك من هذه الآيات القرآنية التي تصور عواطف الأبوين نحو الأولاد، وتكشف عن صدق مشاعرهما، ومحبة قلبيهما تجاه أفلاذ الأكباد، وثمرات الفؤاد.
وإليك – أيها القارئ الكريم – طاقة مما قاله الشعراء في محبة الأولاد، وهي أشعار تفيض رقة وحناناً، وتتأجج شعوراً وعاطفة.. وهي بمجموعها تؤكد ظاهرة الحب والحنان التي أودعها الله في قلبي الأبوين، ليبذلا قصارى جهودهما، وغاية مساعيهما في تربية الولد، وإعداده ليكون إنساناً صالحاً في الحياة.
ونبدأ بما قاله أمية بن أبي الصلت في حق ولده العاق، وهي من غُرر القصائد التي تفيض رقة وحناناً، والتي تصور صدق المشاعر القلبية الأبوية نحو الولد:
غذوتُك مولوداً وعلتُك يافعاً
تَعُلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت
لسقمك إلاّ ساهراً أتململ
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي
طُرِقتَ به دوني فعينيَ تَهمِل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السنّ والغايةَ التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤمِّل
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً
كأنك أنت المنعم المتفضِّل
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوّتي
فعلتَ كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار فلم تكن
عليَّ بمالٍ دون مالك تبخل
واسمعوا إلى ما يقوله أبو بكر الطرطوسي فيما يتجرع الأبوان عند فراق الولد:
لو كان يدري الابنُ أيّة غُصّةٍ
يتجرّعُ الأبوان عند فِراقهِ
أمٌّ تهيج بوَجْده حيرانة
وأبٌ يسحّ الدمعَ من آماقه
يتجرعان لِبَيْنه غصصَ الرَّدَى
ويبوح ما كتماه من أشواقه
لَرَثَى لأمٍّ سُلّ من أحشائها
وبكى لشيخ هام في آفاقه
ولبدّل الخلق الأبيَّ بعطفه
وجزاهما بالعطفِ من أخلاقه
وإليكم ما قاله آخر في العطف الأبوي الدفاق الذي قعد بالأب دون الكفاح من أجل ما يسعى لتحقيقه:
لقد زاد الحياة إليّ حباً
بناتي إنّهن من الضعاف
أحاذر أن يريْنَ الفقرَ بعدي
وأن يشربْن رنْقاً بعد صاف
وأن يعريْن إن كُسيَ الجواري
فتنبو العينُ عن كرم عجاف
ولولا ذاك قد سوَّمت مُهري
وفي الرحمن للضعفاء كاف
أبانا مَنْ لنا إن غبت عنا
وصار الناس بعدك في اختلاف
ومما قيل كذلك:
ولولا بُنيّات كزُغْب القطا
حُطِطْنَ من بعضٍ إلى بعض
لكان لي مضطربٌ واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبّت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
وأخيراً فلنستمع إلى ما يقوله الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الأميري في صدق الحنان والشاعرية، وذلك لما سافر أولاده الثمانية من المصيف إلى حلب، فتلبث وحده في خلوة شعرية ليتحف الأدب العربي قصيدة من غرر القصائد في محبة الآباء للأبناء:
أين الضجيج العذبُ والشغَبُ
أين التدارسُ شابَه اللعبُ
أين الطفولة في تَوَقُّدها
أين الدُمى في الأرض والكتبُ
أين التشاكس دونما غرضٍ
أين التشاكي ماله سبَبُ
أين التباكي والتضاحكُ في
وقتٍ معاً، والحزنُ والطربُ
أين التسابق في مجاورتي
شغَفاً إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسَوْق فطرتهم
نحوي إذا رَهبُوا وإن رغبوا
فنشيدُهُمْ: (بابا) إذا فرِحوا
ووعيدُهُمْ: (بابا) إذا غضبوا
وهتافهُم: (بابا) إذا ابتعدوا
ونجيُّهم (بابا) إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملءَ منزِلنا
واليومَ، ويحَ اليوم، قد ذهبوا
وكأنما الصمتُ الذي هبَطَتْ
أثقاله في الدار إذ غَرَبوا
إغفاءةْ المحموم هدْأتُها
فيها يشيعُ الهمّ والتعب
ذهبوا، أجلْ ذهبوا، ومسكنُهُمْ
في القلب، ماشطّوا وما قرّبوا
إني أراهم أينما التفتَتْ
نفسي وقد سكنوا، وقد وثبوَا
وأحسّ في خلَدي تلاعبُهم
في الدار ليس ينالهم نصبُ
وبريقَ أعينهم، إذا ظفروا
ودموعَ حُرقتهم إذا غُلبُوا
في كل ركنٍ منهمُ أثرٌ
وبكلّ زاوية لهم صَخَبُ
في النافذات زُجاجَها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقَبُوا
في الباب قد كسروا مَزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعضُ ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبُوا
في الشطر من تفاحَة قضموا
في فضلة الماء التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهت
عيني كأسراب القطا سَرَبوا
بالأمس في (قرنايلٍ) نزلوا
واليوم قد ضَمتهُمُ (حَلَبُ)
دمعي الذي كَتّمتُه جلداً
لما تباكوا عند ماركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلباً بهم يجبُ
الفَيْتُني كالطفل عاطفةًً
فإذا به الغيث ينسكب
قد يعجب العُذَّال من رجلٍ
يبكي، ولو لم أبكِ فالعجبُ
هيهات ما كل البُكا خَوَر
إني وبي عزم الرجَال أبُ
ومن هذا كله نعلم قوة العاطفة الفياضة التي أودعها الله في قلب الأبوين نحو الأولاد، وما ذاك إلا ليساقا سوقاً نحو تربيتهم، ورعايتهم، والاهتمام بشؤونهم ومصالحهم.
{فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله...} الروم: 30.
الرحمة بالأولاد منحة من الله للعباد
ومن المشاعر النبيلة التي أودعها الله في قلبي الأبوين، شعور الرحمة بالأولاد، والرأفة بهم، والعطف عليهم.. وهو شعور كريم له في تربية الأولاد وفي إعدادهم وتكوينهم أفضل النتائج، وأعظم الآثار.
والقلب الذي يتجرد من خُلق الرحمة، يتصف بالفظاظة العاتية، والغلظة اللئيمة القاسية.. ولا يخفى ما في هذه الصفات القبيحة من ردود فعل في انحراف الأولاد، وفي تخبطهم في أوحال الشذوذ، ومستنقعات الجهل والشقاء..
لهذا كله نجد شريعتنا الإسلامية الغراء، قد رسَّخت في القلوب خلق الرحمة، وحضّت الكبار من آباء ومعلمين ومسؤولين على التحلي بها، والتخلق بأخلاقها.
وإليكم اهتمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه بموضوع الرحمة، وحرصه الزائد على تحلي الكبار بهذا الخلق الكريم، والشعور النبيل:
- روى أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا".
- وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ ومعه صبي، فجعل يضمه إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أترحمه؟ قال: نعم، قال: فالله أرحم بك منك به، وهو أرحم الراحمين).
- وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى أحداً من أصحابه لا يرحم أولاده يزجره بحزم، ويوجهه إلى ما فيه صلاح البيت والأسرة والأولاد.. فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبِّلون صبيانكم، فما نقبلهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟".
- وروى البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ منهم أحداً، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ثم قال: "من لا يَرحم لا يُرحم".
- وروى البخاري في أدبه عن أنس بن مالك قال: (جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل صبي لها تمرة، وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيَّان التمرتين ونظرا إلى أمهما، فعمدت الأم إلى التمرة فشقتها، فأعطت كل صبي نصف تمرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته عائشة فقال: وما يعجبك من ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صَبِيَّيْها).
- وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى طفلاً يحتضر، وأوشكت أن تفيض روحُه فاضت عيناه بالدموع حزناً وعطفاً على الصغار، وتعليماً للأمة فضيلة العطف والرحمة... روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلَتْ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها أن ابني قد احتُضر[1] فاشْهَدْنا، فأرسل عليه الصلاة والسلام يُقرئ السلام، ويقول: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى فلتصبر ولتحتسب". فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع[2]، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله مَا هذا؟ فقال: "هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده". وفي رواية: "جعلها الله في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماء".
وينبغي ألا يغرب عن البال أن ظاهرة الرحمة إذا حلت قلب الأبوين، وترسخت في نفسيهما، قاما بما يترتب عليهما من واجب، وأديا ما عليهما من حق تجاه من أوجب الله عليهما حق الرعاية، وواجب المسؤولية، ألا وهم الأولاد!!..
[1] أي حضرته مقدمات الموت.
[2] تقعقع: أي تتحرك وتضطرب.
كراهية البنات جاهلية بغيضة
الإسلام بدعوته إلى المساواة المطلقة والعدل الشامل، لم يفرق في المعاملة الرحيمة، والعطف الأبوي، بين رجل وامرأة، وذكر وأنثى، تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} المائدة: 08.
وتنفيذاًَ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في الحديث الذي رواه أصحاب السنن، والإمام أحمد، وابن حبان عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: "اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم".
فانطلاقاً من هذا الأمر القرآني والتوجيه النبوي، حقق الآباء في أولادهم عبر العصور والتاريخ مبدأ العدل والمساواة في المحبة، والمعاملة، والنظرة الحانية، والملاطفة الرحيمة، دون أن يكون بين الذكور والإناث أي تمييز أو تفريق!!..
وإذا وُجد في المجتمع الإسلامي آباء ينظرون إلى البنت نظرة تمييز عن الولد، فالسبب في هذا يعود إلى البيئة الفاسدة التي رضعوا منها أعرافاً ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي أعراف جاهلية محضة، وتقاليد اجتماعية بغيضة، يتصل عهدها بالعصر الجاهلي الذي قال الله تعالى فيه: {وإذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيمسكه على هونٍ أم يدُسُّه في التراب، ألا ساء ما يحكمون} النحل: 59.
والسبب في ذلك أيضاً يعود إلى ضعف الإيمان، وزعزعة اليقين، لكونهم لم يرضوا بما قسمه الله لهم من إناث لم يملكوا هم ولا نساؤهم، ولا من في الأرض جميعاً أن يغيروا مِن خَلق الله شيئاً ألم يسمعوا إلى ما يقوله الله تبارك وتعالى في تدبيره المبرم، وإرادته النافذة ومشيئته المطلقة وأمره الغالب في شأن الإناث، وشأن الذكور؟
{لله ملك السموات والأرض يخلقُ ما يشاء، يَهبُ لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوِّجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير} الشورى: 49-50.
ومن طرائف ما يروّى أن أميراً من العرب يكنى بأبي حمزة، تزوج امرأة، وطمع أن تلد له غلاماً، فولدت له بنتاً، فهجر منزلها، وصار يأوي إلى بيت غير بيتها، فمر بخبائها بعد عام، وإذا هي تداعب ابنتها بأبيات من الشعر تقول فيها:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان ألاّ نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدنا
وإنما نأخذ ما أُعطينا
فغدا الرجل حتى دخل البيت بعد أن أعطته درساً في الإيمان، والرضى، وثبات اليقين، فقبل رأس امرأته، وابنتها، ورضي بعطاء الله المقدر، وهبته المقسومة!!.
ولكي يقتلع رسول الإسلام صلوات الله وسلامه عليه من بعض النفوس الضعيفة جذور الجاهلية، خص البنات بالذكر، وأمر الآباء والمربين، بحسن صحبتهن، والعناية بهن، والقيام على أمورهن، ليستأهلوا دخول الجنة، ورضوان الله عز وجل.. وبالتالي حتى تكون تربية البنات، وتحقيق الخير لهن على الوجه الذي يرضي الله سبحانه، ويأمر به الإسلام!!..
وإليكم بعض التوجيهات النبوية في وجوب العناية بالبنات، والاهتمام بهنّ:
- روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عال جارتين حتى بلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين – وضم أصابعه – ".
- وروى الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر الجنهي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن، وسقاهن وكساهن من جِدَته – أي ماله – كن له حجاباً من النار".
وروى الحميدي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، أو بنتان أو أختان، فأحسن صحبتهن، وصبر عليهن، واتقى الله فيهن دخل الجنة".
فما على المربين إلا أن يأخذوا بهذه الإرشادات النبوية، والتعاليم الإسلامية في وجوب العناية بالبنات، وتحقيق العدل والمساواة بينهن وبين الذكور.. ليحظوا بجنة عرضها السموات والأرض، ورضوان من الله أكبر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر!.
فضيلة من يتجلد لموت الولد
عندما يصل المسلم إلى درجة عالية من الإيمان، ويبلغ منزلة رفيعة من اليقين، ويؤمن حقيقة بالقضاء خيره وشره، من الله تعالى، تصغر في عينيه الأحداث، وتهون أمامه المصائب، ويستسلم لله سبحانه في كل ما ينوب ويروع، وتطمئن نفسه، ويستريح ضميره لصبره على البلاء، ورضائه بالقضاء، وخضوعه لمقادير رب العالمين.
من هذا المنطلق الإيماني أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، أن من يموت له ولد فيصبر ويسترجع، يبني الله له بيتاً في الجنة اسمه بيت الحمد.. فقد روى الترمذي وابن حبان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع[1]، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد".
ولهذا الصبر ثمرات، يقتطفها الصابر المحتسب، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
فمن ثمراته أنه سبيل إلى الجنة، وحجاب من النار.. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء مرة: "ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد، إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأة: واثنان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنان".
- وروى أحمد وابن حبان عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة، قال: قلنا يا رسول الله: واثنان. قال: واثنان".. قال أحد الرواة لجابر: أراكم لو قلتم: واحداً، لقال: واحداً، قال جابر: وأنا أظن ذلك.
ومن ثمرات الصبر كذلك أن الولد الذي يموت وهو صغير يشفع لأبويه يوم القيامة.
- روى الطبراني بإسناد جيد عن حبيبة أنها كانت عند عائشة رضي الله عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها، فقال: "ما من مسلمَين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث (أي سن البلوغ) إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يُوقفوا على باب الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل آباؤنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم".
وروى مسلم في صحيحه عن أبي حسان قال: توفّي ابنان لي فقلت لأبي هريرة رضي الله عنه: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً تحدثناه تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، "صغارهم دعاميص[2] الجنة يلي أحدهم أباه – أو قال أبويه - فيخذ بناحية ثوبه أو يده، كما آخذ بصَنِفةِ[3] ثوبك هذا، فلا يفارقه حتى يدخله الله وإياه الجنة".
ومن المواقف البطولية الإيمانية التي كان يقفها نساء الصحابة رضي الله عنهن، والتي تدل على الصبر والرضى والإيمان عند موت الولد، موقف أم سليم – رضي الله عنها – الرائع، وتجلدها العظيم.. وإليكم القصة بكمالها كما رواه البخاري ومسلم: عن أنس رضي الله عنه قال: كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي، فخرج أبو طلحة. فقُبض[4] الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم – وهي أم الصبي - أَسَكْنَ[5] ما كان، فقربت له العشاء فتعشى، ثم تصنعت (أي تزيَّنت) أحسن ما كانت تَصنَّعُ قبل ذلك، فوقع بها (أي جامعها) فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، فقالت: فاحتسب ابنك (أي ابنك مات فاطلب الأجر من الله)، قال: فغضب، ثم قال: تَركْتِني حتى إذا تلطَّختُ (أي أصابتني جنابة بسبب الجماع)، ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان – فأقر عليه الصلاة والسلام أم سليم على ما فعلت – ثم قال: "بارك الله ليلتكما". وفي رواية قال: "اللهم بارك لهما"، فولدت غلاماً سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن – يعني من أولاد (عبد الله) المولود – وما ذاك إلا استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا: (اللهم بارك لهما).
ولا شك أن الإيمان بالله سبحانه، إذا ترسخ في قلب مؤمن، فإنه يصنع الأعاجيب لكونه يصيّر من الضعف قوة، ومن الجبن شجاعة، ومن الشح والبخل بذلاً وسخاء، ومن الجزع والهلع صبراً واحتمالاً.
فما أجدر الآباء والأمهات أن يتذرّعوا بالإيمان، وأن يتسلحوا باليقين حتى إذا أصابتهم مصيبة لم يجزعوا، وإذا مات لهم ولد لم يتبرّموا، وإنما كان قولهم: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب) حتى يحظوا بالثواب والأجر عند من له الحكم والأمر. اللهم هوّن علينا مصائب الدنيا، ورضّنا بقضائك وقدرك، وتولَّنا في الدنيا والآخرة فإنك خير المتولين يا رب العالمين.
[1] يسترجع: يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
[2] دعاميص: واحد دعموص: أي صغار أهلها، وأصله دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها.
[3] بصنفة ثوبك: أي طرفه.
[4] قبض: أي مات.
[5] تقصد أنه مات، وفهم أبو طلحة أنه تماثل نحو الشفاء.
تغليب مصلحة الإسلام على حب الولد
إذا كان قلب الأبوين ينطوي على مثل تلك المشاعر الصادقة من الحب والرحمة والعطف والحنان نحو الأولاد، وفلذات الأكباد، فينبغي ألا تطغى هذه المشاعر على الجهاد في سبيل الله، وتبليغ دعوة الله في الأرض، لأن مصلحة الإسلام فوق كل المصالح والاعتبارات.. ولأن إقامة المجتمع الإسلامي غاية المؤمن، وهدفه في الحياة.. ولأن هداية الإنسانية التائهة أسمى ما يسعى إليه المسلم وأعظم ما يحرص على نشره وتحقيقه.
وهكذا فهم الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعهم بإحسان هذا الفهم، فلم يعرفوا حركة سوى الجهاد، ولا تبليغاً غير الدعوة، ولا غاية غير الإسلام. فلا غرابة أن نسمع في التاريخ عن انطلاقتهم الكبرى في تبليغ الرسالة الإسلامية، وإعلاء كلمة الله في الأرض.. ولا عجب أن يضحوا في سبيل ذلك بالغالي والنفيس، ويتمنوا الشهادة في سبيل الله.
وإليكم ما قاله عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس ملك مصر لما خوفه بجمع الروم الهائل، وأغراه بالمال والدنانير: (يا هذا! لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك.. أما ما تخوفنا به من جمع الروم، وعددهم، وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم، فلعمري ماهذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يردنا عما نحن فيه إن كان ما قلتم حقاً، وإنَّا منكم على إحدى الحسنين: إما أن تعظم لنا غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإن الله عز وجل قال في كتابه العزيز: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين} البقرة: 249.
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده.. وليس لأحد منا همّ فيما خلفه من أهل وولد، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته.. وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة، ولو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه).
هذا الموقف الذي وقفه عبادة رضي الله عنه، هو واحد من آلاف المواقف التي وقفها جدودنا البواسل الأمجاد، في فترات طويلة من التاريخ، وما هذه التضحيات الجسام، وتغليب حب الجهاد والدعوة على حب الأهل والولد، والمسكن والعشيرة.. إلا لأنهم وجدوا الله سبحانه يقول في محكم تنزيله:
{قل إن كان آباؤكم وأبناؤُكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفتمُوها وتجارةٌ تخشَون كسادَها ومساكنُ ترضَوْنها، أحبَّ إليكم من اللهِ ورسولهِ وجهادٍ في سبيله، فتربصوا حتى يأتيَ اللهُ بأمره، والله لا يهدي القومَ الفاسقين} التوبة: 24.
ومن المآثر الكريمة التي تناقلتها الألسن عن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ورضي عنه، كان من عادته أن يتفقد شباب الدعوة إلى الله في الأقضية والنواحي في كل عيد من الأعياد.. ففي مرة من المرات التي كان يخرج فيها، مرض ولده سيف الإسلام مرضاً شديداً أشرف فيه على الموت، فقالت له زوجته: لو بقيت معنا في هذا العيد نستأنس بك، وتكون بجانب ولدك المريض فأجابها وبيده حقيبة السفر: إن منّ الله على ولدي بالشفاء فلله الحمد والمنّة، وإن قدّر الله عليه الموت فجده أعرف بطريق المقابر، ثم خرج وهو يتلو قوله تبارك وتعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم...} إلى آخر الآية .... التوبة: 24.
الله أكبر! هكذا فليكن التفاني في إعلاء كلمة الله... الله أكبر! هكذا فليكن الدعاة إلى الله... لو لم يكن لسلفنا ورجال الدعوة فينا إلا هذه المواقف لكفتهم على مدى الأيام فخراً وشرفاً وخلوداً!!..
أيها الأب المؤمن! يجب أن يكون حب الإسلام والجهاد والدعوة إلى الله مسيطراً على قلبك وجوارحك، ومقدّماً على حب أهلك وولدك وعشيرتك، حتى تندفع بكليتك إلى تبليغ الدعوة وحمل راية الجهاد، عسى أن تكون في عداد الرجال الذين يبنون بسواعدهم المتينة مجد الإسلام، ويقيمون بعزائمهم القوية دولة القرآن، ويعيدون للأمة المحمدية عزتها المنيعة، وكرامتها المجيدة، وكيانها العظيم، وما ذلك على الله بعزيز.
اسمع إلى ما يقوله عليه الصلاة والسلام في الذين يريدون أن يكمل إيمانهم، ويذوقوا في أعماق قلوبهم حلاوته، ويجدوا في قرارة وجداناتهم لذته!!..
- روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث مَنْ كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
- وروى البخاري كذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبيْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبيّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر!!.. أي الآن كمل إيمانك.
- وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". وروى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين".
عقوبة الولد وهجره لمصلحة تربوية
مادام الولد صغيراً يعيش في كنف أبويه، ومادام في سن التعليم والتربية: فيجدر بالأبوين والمربين ألاّ يتركوا وسيلة من وسائل الإصلاح إلا سلوكها، ولا طريقة في تقويم اعوجاجه وتهذيب وجدانه وأخلاقه إلا نهجوها، حتى ينشأ الولد على الخلق الإسلامي الكامل، والأدب الاجتماعي الرفيع.
وللإسلام طريقته الخاصة في إصلاح الولد وتربيته، فإن كان ينفع مع الولد الملاطفة بالوعظ. فلا يجوز للمربي أن يلجأ إلى الهجر، وإن كان ينفع الهجر أو الزجر فلا يجوز له أن يلجأ إلى الضرب، وإذا عجز عن جميع الوسائل الإصلاحية ملاطفة ووعظاً، فلا بأس بعد هذا أن يلجأ إلى الضرب غير المبرح، عسى أن يجد المربي في هذه الوسيلة إصلاحاً لنفسه، وتقويماً لسلوكه واعوجاجه!!.
وإليكم هذه المراحل في الإصلاح مستقاة من السنة النبوية، وعمل الصحابة، لتعرفوا – أيها المربون – طريقة الإسلام في الإصلاح، ومنهجه في التربية.
أما فيما يتعلق بتوجيه الولد ووعظه وملاطفته، فقد روى البخاري ومسلم عن عمر ابن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلاماً في حِجر[1] رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش[2] في الصّحْفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سَمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك".
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للغلام: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء" – وهذه هي الملاطفة – فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده (أي وضعه في يده).. وهذا الغلام هو عبد الله بن عباس.
أما فيما يتعلق في هجر الولد: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخَذْف[3]، وقال: "إنه لا يقتل الصيد، ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين، ويكسر السنّ"، وفي رواية: أن قريباً لابن مغفل – وكان دون الحُلُم – خذف، فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: "إنها لا تصيد صيداً..." ثم عاد فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ثم عدت تخذف؟ لا أكلمك أبداً!!.
أما فيما يتعلق بضرب الولد فقد روى أبو داود والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
وهذه المراحل في التأديب إذا كان الولد في سن الطفولة والمراهقة.
وإما إن بلغ سن الشباب، وتدرج نحو الكبر، فإن الطريقة في الإصلاح والتأديب تختلف. فعندما لا ينفع مع الولد الإقناع والوعظ والإرشاد، فعلى المربي أن يلجأ إلى الهجر الدائم ما دام مصرّاً على فسقه وفجوره، وسادراً في غيه وضلاله.
وإليكم النصوص التي تثبت ذلك:
- روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوثق عُرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله".
- وروى البخاري – في باب ما يجوز من الهجران لمن عصى - : ... وقال كعب حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة)، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ولم يكن أحد من الناس يكلمهم أو يحيّيهم أو يجالسهم، حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم.
- وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه شهراً زجراً لهن وتأديباً.
- وروى السيوطي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هجر ابناً له إلى أن مات، لأنه لم ينْقَدْ لحديث ذكره له أبوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى فيه الرجال أن يمنعوا النساء من الذهاب إلى المساجد[4].
هذا إذا انحرف وفسق وهو على الإيمان والإسلام، وأما إذا ألحد وكفر وخرج عن الملة الإسلامية فالتبرؤ منه، والإعراض عنه، والهجران له من أبسط مقتضيات الإيمان، ومن أظهر توجيهات القرآن الكريم.
وإليكم النصوص التي تثبت ذلك:
قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} المجادلة: 22.
وقال الله سبحانه على لسان نوح عليه السلام:
{ونادى نوح ربه فقال: ربّ إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عملٌ غيرُ صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين} هود: 45-46.
وقال الله سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلام:
{وإذ ابتلى إبراهيمَ ربٌّه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماماً، قال: ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين} البقرة: 124.
وقال سبحانه عن موقف إبراهيم من أبيه:
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه، إن إبراهيم لأوّاه حليم} التوبة: 114.
من هذه النصوص وغيرها يتبيَّن أن هجر الولد والقرابة.. إن كانوا مصرين على الكفر فإن هجرهم من مستلزمات العقيدة والإيمان، ذلك لأن الإسلام يعتبر رابطة الأخوة الإسلامية فوق رابطة النسب ورابطة الأرض ورابطة اللغة ورابطة الجنس ورابطة المصالح الاقتصادية.. وشعاره في ذلك قوله تعالى:
{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة: 24.
ومن المعلوم أن مبدأ الإسلام الذي لا يتبدل:
{إنما المؤمنون إخوة} الحجرات: 10.
وشعاره الذي لا يتغير:
{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات: 13.
فبأي حديث بعده يؤمنون؟
وبعد: فهذا الذي بيناه في هذا الفصل هو أهم المشاعر النفسية، والعواطف القلبية التي يجب أن تعتلج في نفوس المربين، ولقد رأيتَ أن من هذه المشاعر ما هو فطري متأصل في قلبي الأبوين، وفي نفسيهما، كمشاعر الحب والحنان والعطف والرحمة، ولولاها لما انتظمت سنة الكون في المحافظة على النوع الإنساني، ولولاها لما اندفع الأبوان إلى الاهتمام بأولادهما، والعناية بهم، والإنفاق عليهم، والقيام بتعليمهم وتربيتهم.. ولولاها لما رأيت الأسرة مجتمعة الشمل، متماسكة الكيان، راسخة البنيان.
ولقد رأيت أن من هذه المشاعر ما هو جاهليّ ككراهية البنات.. وقد مر معك أن الإسلام عالج هذه العادة الجاهلية البغيضة بالإيمان الصحيح، والعقيدة الربانية الراسخة، والتربية الإسلامية الفاضلة، لتكون نظرة الأبوين إلى الإناث والذكور على حد سواء، ودون أن يكون بينهما أي تمييز أو تفريق، تحقيقاً لمبدأ العدل والمساواة.
ولقد رأيت أن من هذه المشاعر ما هو مصلحي كتغليب حب الجهاد والدعوة إلى الله، على حب الأهل والولد.. ولقد مر معك أن مصلحة الإسلام هي فوق المصالح الذاتية، والاعتبارات الشخصية فلا يمكن لأمة الإسلام أن تصل إلى علياء النصر والمجد والقوة، إلا بعد أن يكون حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فوق حب الأهل والمال والولد والعشيرة والمسكن.
ولقد رأيت أن من هذه المشاعر ما هو تأديبي تربوي كمناصحة الولد وزجره وهجره وعقوبته.. وقد مر معك أن الإسلام تدرج في التأديب من الوعظ إلى الهجر إلى الضرب غير المبرح، فلا يجوز للمربي أن يلجأ إلى الأشد إذا كان ينفع الأخف. وهذا غاية ما يسعى إليه الإسلام في تأديب الأولاد، وتربيتهم، إصلاح نفوسهم.
ألا فليعلم المربون ودعاة الإصلاح منهج الإسلام في التربية، وطريقته في الإصلاح، لينهجوا في تربية الجيل نهجاً سليماً، ويسيروا في طريق الإصلاح الاجتماعي سيراً سوياً.. وفي ذلك نُقْلَة للجيل من بيئة الفساد والانحراف، إلى حياة الطهر والكرامة والأخلاق.. ألا بمثل ذلك فليعمل العاملون!!.
[1] في حِجر رسول الله: أي تحت نظره ورعايته.
[2] تطيش: أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الطعام الموجود في القصعة.
[3] الخذف: رمي الحصى بالسبابة والإبهام.
[4] ألّف السيوطي رسالة سماها "الزجر بالهجر" أي التأديب بالمقاطعة، استدل فيها على ذلك بنصوص وآثار كثيرة فارجع إليها.
الفصل الثالث - أحكامُ عامَّة تتعَلّق بالمَولُود
المبحث الأول - ما يفعله المربي عند الولادة
من فضل هذه الشريعة الإسلامية على أمة الإسلام، أنها بينت كل ما يتصل بالمولود من أحكام، وما يرتبط به من مبادئ تربوية هامة، حتى يكون المربي على بيّنة من الأمر في كل واجب يقوم به تجاه طفله الوليد.. فما أجدر بكل من كان في عنقه حق التربية أن يقوم بواجبه الأكمل تطبيقاً وتنفيذاً على الأسس التي وضعها الإسلام، والمبادئ التي رسم معالمها المربي الأول عليه الصلاة والسلام!!.
وإليكم أهم هذه الأحكام التي يجب أن يفعلها المربون عند الولادة:
1- استحباب البشارة والتهنئة عند الولادة:
يستحب للمسلم أن يبادر إلى مسرة أخيه المسلم إذا ولد له مولود، وذلك ببشارته وإدخال السرور عليه، وفي ذلك تقوية للأواصر، وتمتين للروابط، ونشر لأجنحة المحبة والألفة بين العوائل المسلمة، فإن فاتته البشارة استُحب له تهنئته بالدعاء له ولطفله الوليد، عسى الله أن يتقبل ويرعى ويستجيب.
والقرآن الكريم ذكر البشارة بالولد في مناسبات عدة إرشاداً وتعليماً للأمة الإسلامية، لما لهذه البشارة – كما ألمحنا – من أثر كبير في تنمية الروابط الاجتماعية، وتقويمها بين المسلمين.
قال الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام:
{ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا: سلاماً، قال سلام، فما لبث أن جاء بعجل حنيذ[1]، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب...} هود: 69-71.
وقال تعالى في قصة زكريا عليه السلام:
{فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: أن الله يبشرك بيحيى} آل عمران: 39.
وفي آية أخرى:
{يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى، لم نجعل له من قبل سميّاً} مريم: 07.
ومما ذكرته كتب السيرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وُلد، بشرت به ثُويْبَةُ عمِّه أبا لهب وكان مولاها، وقالت: قد ولد الليلة لعبد الله ابنٌ، فأعتقها أبو لهب سروراً بولادته، فلم يضيع الله ذلك له، وسقاه بعد موته في النُقْرَةِ[2] التي في أصل إبهامه) كما روى البخاري.
وذكر السهيلي أن العباس قال: (لما مات أبو لهب رأيتُه في منامي بعد حولٍ في شر حال، فقال: ما لقيتُ بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين)، وهو اليوم الذي ولد فيه عليه الصلاة والسلام، وبشرت به ثُوَيْبَة، وفرح بولادته أبو لهب.
أما فيما يتعلق بالتهنئة بالمولود: فقد روى الإمام ابن قيِّم الجوزيَّة في كتابه (تحفة المودود) عن أبي بكر بن المنذر أنه قال: روينا عن الحسن البصري: أن رجلاً جاء إليه، وعنده رجل قد وُلد له غلام، فقال له: يَهْنِك الفارس، فقال الحسن: ما يدريك أفارس هم أم حمار؟ قال الرجل: فكيف نقول؟ قال: قل: (بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، ورُزقت برّه، وبلغ أشدّه).
وهذه البشارة والتهنئة ينبغي أن تشمل كل مولود، وسواء أكان ذكراً أم أنثى دون تفريق.. فما أحرى المسلمين أن يطبقوا في مجتمعهم هذه السنة الكريمة، لكي تقوى روابطهم، وتتعمق على مدى الأيام أواصرهم، وتخيِّم عرائش الإنس والمحبة على بيوتاتهم وأسرهم، وما أجدرهم أن يسيروا في الطريق الموصل إلى تآلفهم ووحدتهم، حتى يكونوا دائماً عباد الله إخواناً، وحتى تكون وحدتهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً[3].
2- استحباب التأذين والإقامة عند الولادة:
ومن الأحكام التي شرعها الإسلام للمولود: التأذين في أذنه اليمنى، والإقامة في أذنه اليسرى، وذلك حين الولادة مباشرة، لما روى أبو داود والترمذي عن أبي رافع أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّنَ في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة).
وروى البيهقي وابن السني عن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وُلِد له مولود فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، لم تضرّه أم الصبيان"[4].
وروي كذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذّن في أذُن الحسن ابن علي يوم وُلد، وأقام في أذُنه اليسرى).
وسر التأذين والإقامة – كما ذكر ابن قيِّم الجوزية في كتابه تحفة المودود - : ( أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلمات النداء العلوي المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه، وتأثره به وإن لم يشعر.
ومع ما في ذلك من فائدة أخرى: وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد. فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به.
وفيه معنى آخر: وهوأن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه – الإسلام – وإلى عبادته، سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها، سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها، إلى غير ذلك من الحِكَم..) 1هـ.
وهذه المعاني التي أفاض فيها ابن القيم رحمه الله، أكبر دليل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بعقيدة التوحيد والإيمان، ومطاردة الشيطان والهوى، من حين أن يشم الولد رائحة الدنيا، ويتنسم نسائم الوجود.
3- استحباب تحنيكه عندما يولد:
ومن الأحكام التي شرعها الإسلام للمولود استحباب تحنيكه عقب الولادة. ولكن ما التحنيك، وما الحكمة منه؟
التحنيك معناه: مضغ التمرة، ودَلْكُ حنك المولود بها، وذلك بوضع جزء من الممضوغ على الأصبع، وإدخال الأصبع في فم المولود، ثم تحريكه يميناً وشمالاً بحركة لطيفة، حتى يتبلغ الفم كله بالمادة الممضوغة، وإن لم يتيسر التمر فليكن التحنيك بأية مادة حلوة كالمعقود، أو رائب السكر الممزوج بماء الزهر، تطبيقاً للسنة، واقتداءاً بفعله عليه الصلاة والسلام.
ولعل الحكمة في ذلك تقوية عضلات الفم بحركة اللسان مع الحنك مع الفكين بالتلميظ، حتى يتهيأ المولود للقم الثدي، وامتصاص اللبن بشكل قوي، وحالة طبيعية... ومن الأفضل أن يقوم بعملية التحنيك من يتصف بالتقوى والصلاح تبركاً، وتيمناً بصلاح المولود وتقواه.
ومن الأحاديث التي استدل بها الفقهاء على استحباب التحنيك ما يلي:
- جاء في الصحيحين من حديث أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ولد لي غلام فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، وحنكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفعه إليَّ.
- وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: كان ابنٌ لأبي طلحة يشتكي فخرج أبو طلحة فقُبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل الصبي؟ قالت أم سليم: هو أسكن ما كان، فقرّبت إليه العشاء فتعشَّى، ثم أصاب (أي جامع)، فلما فرغ قالت: وارِ الصبيّ (أي قم على دفنه)، فلما أصبح أبو طلحة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره: قال: أعرستم الليلة؟ (كناية عن الجماع) قال: نعم، قال: اللهم بارك لهما، فولدت غلاماً، فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معه بتمرات، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعه شيء، قالوا: نعم، تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذها من فِيه فجعلها في فِيّ الصبي (أي في فمه) ثم حنَّكه، وسماه عبد الله.
وقال الخلال: أخبرني محمد بن علي قال: سمعت أم ولد أحمد بن حنبل تقول: لما أخذني الطّلقُ كان مولاي نائماً، فقلت له: يا مولاي ها هو ذا أموت، فقال: يفرج الله، فما هو إلا أن قال: يفرج الله، فولدت سعيداً، قال: هاتوا ذلك التمر – لتمر كان عندنا من مكة – فقال لأم علي: امضغي هذه التمر وحنّكيه، ففعلت.
4- استحباب حلق رأس المولود:
ومن الأحكام التي شرعها الإسلام للمولود استحباب حلق رأسه يوم سابعه، والتصدق بوزن شعره فضة، على الفقراء والمستحقين.
والحكمة في ذلك تتعلق بشيئين:
الأول: حكمة صحية:
لأن في إزالة شعر رأس المولود تقوية له، وفتحاً لمسام الرأس، وتقوية كذلك لحاسة البصر والشم والسمع[5].
الثاني: حكمة اجتماعية:
لأن التصدق بوزن شعره فضة، ينبوع آخر من ينابيع التكافل الاجتماعي، وفي ذلك قضاء على الفقر، وتحقيق لظاهرة التعاون والتراحم والتكافل في ربوع المجتمع.
ومن الأحاديث التي استدل بها الفقهاء على استحباب الحلق، والتصدق بوزن الشعر فضة هي ما يلي:
- روى الإمام مالك في الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: وزنت فاطمة رضي الله عنها شعر الحسن والحسين، وزينب وأم كلثوم، فتصدقت بزنة ذلك فضة.
- وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم، قال: عقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة، وقال: يا فاطمة، احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة، فوزنته، فكان وزنه درهماً أو بعض درهم.
وروى يحيى بن بكير: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحلق رأس الحسن والحسين يوم سابعهما فحُلقا، وتصدّق بوزنه فضة.
ويتفرع عن الحلق مسألة القَزَع، ومعناه حلق بعض رأس الصبي، وترك بعضه.
وجاء النهي عنه تصريحاً، في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع).
والقَزَع الذي يشمله النهي أربعة أنواع:
أحدهما: أن يحلق من رأسه مواضع من ههنا وههنا.
الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه.
الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه.
الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره.
وهكذا كله – كما يقول ابن القيم رحمه الله – من كمال محبة الله ورسوله للعدل، فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه، لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسياً وبعضه عارياً.. ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل، فإنه ظلم لبعض بدنه... ونظيره أيضاً أنه نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة، بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما" 1. هـ.
وهناك حكمة أخرى: أن رسول الإسلام صلوات الله عليه وسلامه، حريص على أن يظهر المسلم في المجتمع بمظهر لائق في مظهره وهندامه... وحلق بعض الرأس وترك بعضه يتنافى مع وقار المسلم وجماله، ثم بالتالي يتنافى مع الشخصية الإسلامية التي يتميز بها المسلم عن بقية الملل والمعتقدات، وعن سائر أهل الفسوق والميوعة والانحلال.
فمما يؤسف له أن كثيراً من الآباء والمربين يجهلون هذه الأحكام جهلاً تاماً، بل نجد الكثير منهم، حينما نتعرض لها، ونحدثهم بها، تظهر منهم أمارات التعجب والاستغراب، لكونهم ما ألفوها، ولم يروا من يطبقها ويعمل بها، إلا من رحم ربك.
وأريد أن أهمس في أذن هؤلاء: إن الجهل ليس بعذر في شريعة الإسلام، وأن المقصر فيما يجب أن يعرفه عن أمور دينه، وتربية أولاده، لا ينجيه عن تحمل المسؤولية يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وهذه الأحكام التي ذكرناها آنفاً هي وإن كانت من قبيل المستحبات والمندوبات، فيجب العمل بها، وتطبيقها بحذافيرها في أُسرنا.. في أولادنا... في أهلنا وأقربائنا وذوينا... لأننا إذا تساهلنا في المستحب سيؤدي بنا حتماً إلى التساهل في الواجب، ثم التساهل في الفروض، ثم إلى التساهل في الإسلام كله. وفي النهاية يقع المسلم الظاهري في حبائل الكفر الصراح، ويتيه في متاهات الضلال المبين، ويكون قد انسلخ من دينه وإسلامه!.
ألا فليأخذ المربون بهذه الأحكام، وليطبقوا على أولادهم هذه المستحبات واحدة بعد واحدة، ليحظوا برضى الله سبحانه، ويتحققوا بالإسلام قولاً وعملاً عسى الله سبحانه أن ينصرهم على أعدائهم، ويعيد لهم مجدهم الداثر وكرامتهم المهيضة، وما ذلك على الله بعزيز.
[1] حنيذ: مشوي.
[2] النقرة: الشي المتجوف الذي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع، كان أبو لهب يشرب منها بعد موته لفرحه بولادة ابن أخيه عليه الصلاة والسلام.
[3] وما يفعله بعض الأسر بتقديم الزهور والهدايا لأهل المولود، فهو شيء حسن، لكونه يدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "تهادُوا تحابّوا"، وهو مما يزيد الإلفة والمحبة بين المسلمين.
[4] أم الصبيان: هي الريح التي تعرض للولد، فربما يخشى عليه منها، وقيل: هي التابعة من الجن وهي المسماة عند الناس بالقرينة.
[5] قاله ابن القيم في كتاب (تحفة المودود).

 

يــتــبــع