قلوبنا جميعًا تتوق إلى بيت المقدس".. "يا أهل غزة أنتم منا ونحن منكم".. كلماتٌ كانت تمثل موقفًا خلّده التاريخ للرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، دفع في سبيله ثمنا باهظا من سنيّ عمره حتى انتهت به رحلته شهيدًا صامدًا، بعد أن عاش بكيانه كله مدافعا عن فلسطين وقضيتها، وداعما لمقاومة الاحتلال.

الجامع لمآثر الرئيس الشهيد محمد مرسي بشأن القضية الفلسطينية، يجد أن نقطة بدايتها كانت في قلبه، وأن نهايتها كانت في آخر لحظات حياته؛ حيث قضى شهيدا في قاعة المحكمة مدافعًا عن موقفه من المقاومة الفلسطينية، التي كان يُحاكم متهمًا بالتخابر معها!.

نظرته لقضية فلسطين

كان الرئيس الشهيد محمد مرسي يعدُّ القضية الفلسطينية هي أمّ القضايا العربية والإسلامية، وأنها محور الارتكاز في الصراع الحضاري، خاصة مع الكيان الصهيوني؛ ففي حوار مع وفد فلسطيني في مارس عام 2012 قال مرسي: "القضية الفلسطينية تستقر في عقل كل مصري ووجدانه، وإن فلسطين ليست فقط تاريخًا وعقيدةً وجزءًا أصيلاً من تكويننا، ولكنها تعد حجر الزاوية للأمن القومي المصري، وإن الوقت قد حان لتقديم دعم أكبر ومساندة حقيقية يشعر بها الفلسطينيون".

وبالرغم مما كانت تشهده الساحة المصرية من صراع سياسي شديد الوطأة في العشرية التي سبقت ثورة الخامس والعشرين من يناير، إلا أن القضية الفلسطينية كانت مستولية على قلب مرسي، وماثلة في أعماله ونشاطاته السياسية، وقد وقع عليه الاختيار كعضو في لجنة مقاومة الصهيونية بمحافظة الشرقية، وكان عضوًا مؤسسًا باللجنة المصرية لمقاومة المشروع الصهيوني.

وحين كان عضوا في البرلمان المصري، ورئيسا للكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين 2000 - 2005، سجلت المضابط مواقفه في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وكان من بينها عدّه أن "الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية حق لكل الفلسطينيين طالما أنهم يدافعون عن أرضهم وعن أعراضهم طبقاً لكل المواثيق والشرائع السماوية والأرضية والمنظمات العالمية وحقوق الإنسان.. هم يدافعون عن أنفسهم وعن أرضهم والمعركة تقوم على الأرض الفلسطينية حتى طبقاً للقرار 181 فهي خارج الخط الأخضر".

"والله لو تحرَّكت الحكومات العربية مع شعوبها لرحل الكيان الصهيوني من الوجود".. هذا ما كان يؤكده مرسي دومًا، مشددًا على أهمية أن "تنصاع الأنظمة والحكومات العربية لرغبات شعوبها، واتخاذ موقف موحَّد تجاه الكيان الصهيوني الغاصب".

تعاقبت الأحداث في فلسطين خلال اشتغال مرسي بالعمل السياسي، فلم يقعد منها موقع المتفرج أو المنهزم، بل شهدت الأحداث كلها حضورًا لافتًا له، وجرأة في الصدع بالحق أمام الأنظمة المتخاذلة عن نصرة فلسطين وقضيتها؛ ففي العدوان الصهيوني على قطاع غزة عام 2008/2009 كان مرسي في طليعة من يقودون الاحتجاجات في ميادين مصر؛ حيث أعلن غضبته آنذاك من موقف النظام المصري لإغلاقه معبر رفح في وجوه الفلسطينيين، معلنًا أن "فعاليات الإخوان متواصلةٌ وعلى كل الأصعدة، فكما نظمنا وسننظِّم المظاهرات والمؤتمرات، بدأنا في عمل مذكرات وشكاوى لتقديمها للمحاكم الدولية لإدانة الكيان في جرائمه بحق الفلسطينيين".

مواقف لا تُنسى

في أعقاب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 وتشكيلها للحكومة، فرض الكيان الصهيوني حصارًا على قطاع غزة بدعم أمريكي كامل، وبتواطؤ من بعض دول الجوار في الوطن العربي، ما استنفر حفيظة الأحرار في العالم والذين سعوا جاهدين إلى اختراق هذا الحصار من خلال فعاليات عملية كان أهمها تسيير القوافل الإغاثية إلى القطاع المحاصَر؛ وحيث كان الدكتور محمد مرسي آنذاك رئيس القسم السياسي بجماعة الإخوان المسلمين، اتخذ قرارا بمشاركة برلمانيين تابعين لكتلة الإخوان (هما الدكتور حازم فاروق والدكتور محمد البلتاجي) في سفينة مرمرة التركية المتجهة إلى قطاع غزة، والتي استهدفها الكيان الصهيوني قبل وصولها، وتم احتجاز النائبين من قبل الاحتلال، حتى أفرج عنهما لاحقًا بعد تدخل الخارجية المصرية.

وقال مرسي في اليوم ذاته: "إنهم يعوِّلون على الشعوب العربية والإسلامية الكثير في رفع معاناة الشعب الفلسطيني؛ لتدفع النظم العربية والإسلامية تجاه مواقف جادَّة ضد الكيان، خاصةً بعد عملية القرصنة الصهيونية التي قام بها الكيان اليوم"، واصفًا ما حدث بـ"الجريمة الإرهابية الدولية المتكاملة، بعدما أكد الصهاينة أنهم لا يصونون عهدًا ولا اتفاقًا، ولا يعرفون كيف يعيشون في سلام، أو يعيشون مع غيرهم"، مشيرًا إلى أنهم كانوا دائمًا مصدرًا للفتن، ومؤكدًا أن "الصهاينة فعلوا بنا ما أرادوا بعدما أغرتهم مواقف النظم العربية الضعيفة".

وعقب صدور "تقرير جولدستون" الذي أدان الكيان الصهيوني في جرائمه خلال العدوان على غزة عام 2008، طالبت السلطة الفلسطينية بتأجيل القرار، وهو ما أدانه الدكتور محمد مرسي -عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين- آنذاك، مؤكدًا أن "التقرير يُثبت بالدليل القاطع إجرام الصهاينة، وتأجيله يُثبت أيضًا "مدى ما وصلت إليه الأوضاع في السلطة الفلسطينية من عمالةٍ وخيانةٍ، واستسلامٍ للقرار الأمريكي والأوامر الصهيونية".

مرسي والمقاومة

حظيت المقاومة الفلسطينية بدعمٍ وحفاوة من الرئيس الشهيد محمد مرسي، كما لم تحظ به من قبل؛ حيث كان دائم التأييد لها والدفاع عنها حتى آخر حياته؛ ففي أعقاب العدوان الصهيوني 2008/2009 دعا الإرهابي الصهيوني أفيجدور ليبرمان إلى خنق حركة حماس، وهو ما رفضه مرسي وطالب القيادة المصرية برد فعلٍ إزاء هذه التصريحات "التي تتسق في مجملها مع سعي الصهاينة الدائم والحثيث لإحراج مصر، وفصلها عن دورها وموقعها من أمتها العربية والإسلامية، التي ترى في المقاومة درعًا تحمي الأمة، وراية عزٍ ترتفع في زمان تعالت فيه دعوات الخنوع والذل والانكسار".

كما أنه انتقد التصريحات الصهيونية، وخاصةً التي خرجت من القاهرة ضد الفلسطينيين والمقاومين -وعلى رأسهم حركة المقاومة الإسلامية حماس- أمام المسئولين المصريين الذين وقفوا متفرجين بل ومؤيدين لهذه التصريحات المتطرفة الشاذة"!.

ويُحسبُ للرئيس الشهيد محمد مرسي أنه كان أول رئيس مصري يستقبل وفدًا للمقاومة الفلسطينية في قصر الرئاسة إبان توليه منصب الرئاسة؛ فضلاً عن تقديم الدعم اللوجستي للمقاومة خلال العام الذي تولى فيه حكم بلاده.

وفي أعقاب الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي في يوليو 2013 واجه عددًا من الاتهامات من بينها "التخابر مع حماس"، إلا أنه كان يقف يؤكد من داخل قفص الاتهام أن دعمه للمقاومة حق وواجب يفخر به، وأن هذا الدعم لا يصح أن يتحول لتهمة يحاكَم عليها.

كيف ينظر إلى "إسرائيل"؟

عُرف عن الرئيس الشهيد محمد مرسي بغضه الشديد للكيان الصهيوني واستعلاؤه عليه؛ فقد تناولت كل مواقفه وتصريحاته التي سبقت ثورة يناير تحريض الأمة وحكامها على مقاومة هذا الكيان الغاصب ومقاومته؛ وبعد توليه منصب رئيس حزب الحرية والعدالة ثم توليه رئاسة مصر، كان يتعمد ألا يذكر اسم الكيان الصهيوني في كلامه، وكان يكتفي بالحديث عنهم بصيغة المجهول، وكان من أشهر تصريحاته في ذلك عندما سأله إعلامي مصري عن موقفه من معاهدة السلام مع "إسرائيل" فقال بلهجة واثقة يتجاهل فيها ذكر "إسرائيل": "نحن 90 مليون.. فلا يمكن لخمسة مليون في أي مكان أن يخوفوا التسعين مليون"!.

وحين تولى مرسي رئاسة بلاده لم يُشر من قريب أو بعيد إلى أي تعاون محتمل بين مصر و"إسرائيل"، حتى إن ما أُخذ عليه من توجيه خطاب لشمعون بيريز يصفه فيه بقوله "عزيزي بيريز"، قد تبرأ منه بعدها، وقال: "إن مواقفنا تجاه الجميع واضحة بشكل عملي، ولا نلتفت إلى ورقة خرجت من هنا أو هناك".

فتح المعبر ووقف العدوان

ولعل أبرز ما قدمه الرئيس الشهيد محمد مرسي للفسطينيين هو أنه خلال العام الذي حكم فيه مصر، شهد قطاع غزة انفراجة غير مسبوقة خلال سنوات الحصار؛ حيث إن معبر رفح كان مفتوحًا أمام عبور الفلسطينيين من وإلى غزة بشكل كبير، وعُدَّ هذا العام، بأنه عام الغوث والنصرة؛ فلم تتوقف قوافل الإغاثة ولا رحلات السياحة إلى غزة خلال هذه الفترة، فضلا عما تم تداوله بعد ذلك من دعم مباشر للمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوان الصهيوني.

وفي نوفمبر 2012 كان الاختبار الأول لمصر بعد أن أصبح مرسي رئيسا لها؛ حيث ارتكب الكبان الصهيوني جريمة جديدة باغتيال القيادي الكبير في كتائب القسام أحمد الجعبري، وشن عدوان جديد على قطاع غزة. وهنا وقف الرئيس مرسي وقفة بطولية أذهلت العالم، وأرعبت العدو الصهيوني؛ حيث بادر بسحب السفير المصري لدى "إسرائيل"، وطرد السفير الإسرائيلي من مصر.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل وقف الشهيد مهددا ومتوعدا الكيان الصهيوني بقوله: "إن مصر اليوم غير مصر الأمس، وإن العرب اليوم غير عرب الأمس"، مؤكدًا أنه لن يقف صامتا أمام هذا العدوان وهذه المهزلة وأن "الثمن سيكون باهظا"، وصاح مرسي قائلا: "إن قلوبنا جميعا تتوق إلى بيت المقدس".

وكانت لكلماته التي ألقاها من المسجد عقب صلاة الجمعة أبلغ الأثر محليا وعالميا؛ وقد بعث رسالة أثلجت صدور أهل غزة جميعا بقوله: "يا أهل غزة أنتم منا ونحن منكم، ولن نتخلى عنكم.. من يعتدي على غزة كأنما يعتدي على القاهرة".

نالت كلمات الرئيس الشهيد محمد مرسي من العدو الصهيوني ما لم يتوقعه؛ ورسائله التي فتحت الأبواب أمام كل الاحتمالات للتصعيد ضد الاحتلال، أربكت حساباته، ما دفع كيان الاحتلال إلى الوقف الفوري للعدوان على غزة، بعد 7 أيام فقط، وإعلان التهدئة برعاية مصرية، والذي تضمن خطوات ملموسة لكسر حصار غزة، وإلغاء ما كانت تسمى المنطقة العازلة في حينه".

وكان هذا إيذانا بفتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة، والسماح بعبور المساعدات الغذائية والطبية للقطاع، وفتح مستشفيات مدينة العريش المصرية لعلاج الجرحى الفلسطينيين.

وتفعيلاً لموقفه الحاسم تجاه هذا العدوان، أرسل مرسي رئيس وزرائه إلى قطاع غزة في زيارة هي الأولى من نوعها، تضامنا وتأييدا للمقاومة ولأهل غزة في مواجهة الإجرام الصهيوني.

حنين الأقصى

بعد الانقلاب العسكري على الرئيس الشهيد محمد مرسي ، شهدت أروقة وجدران المسجد الأقصى مشاعر الغضب والأسى لفقدان رئيسٍ لطالما عمل لنصرة القدس، فخرجت جموع المصلين تعبر عن أسفها لفقدانه رئيسا، وعُلقت صورته على جدران المسجد الأقصى حبا له واعترافا بجميله.

وعقب استشهاده في السابع عشر من يونيو 2019 اجتمع المقدسيون لتأدية صلاة الغائب على البطل الذي نصرهم، والصامد الذي دفع ثمن دعمهم، والرئيس الذي صدقهم ما وعد من الثبات حتى لقي ربه.