"قاعدين انتوا تركبوا العربيات، وكيكي وكيكي، هههههههههه، يااا مهندس طارق، زوّد البنزين ما تقلقش"

كانت هذه إحدى جمل قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، والتي امتلأت القاعة معها بالضحكات في إطار فعاليات المؤتمر الوطني السادس للشباب. ضحكات لم تظل حبيسة القاعة، بل امتدت لتمثل مادة دسمة للتندر عليها من قبل المتابعين على مواقع التواصل.
 


وبمشهد آخر، مليء بالضحكات أيضا، كان المنقلب العسكري عبد الفتاح السيسي يعترض على من يسألونه عن برنامجه الانتخابي، لرؤيته أن مصر تمر بمرحلة طارئة، ومضطربة، تحيطها تهديدات تتربص بها، لذلك، فإن حمايتها أولى من الحديث عن مشاريع انتخابية. هذا الخطاب، يماثل في أسلوبه الخطاب الثاني للرئيس مبارك أثناء ثورة يناير، حين هدد الشعب بأن فكرة رحيله، ستؤدي بالبلاد إلى الفوضى.
 


خطابات المنقلب تلك، والتي تحمل في صيغتها الظاهرية بعدا فكاهيا ومادة للتندّرـ تحمل في مضمونها معنى يكاد يتكرر باستمرار: عوز الدولة. إلا أن تمرير تلك الرسالة بصيغ مختلفة، وتحول العوز لأمر واقع على الشعب أن يتكيف معه، بل وأن يحمدوا الله عليه لأنهم ليسوا "كسوريا والعراق" تحمل أبعادا عدة، وتطرح عديد التساؤلات عما تؤسسه تلك "التفاهات" لترسيخ "حالة الاستثناء".

هذه الحالة، هي تلك التي عرضها كارل شميت في كتابه "اللاهوت السياسي"، حيث تقوم السُّلطة هنا، بوضع الشعب في حالة طوارئ، ليُجبر حينها بقبول الأمر الواقع، فتنزاح إرادته وتتلاشى داخل ثقب تعطيل القوانين والدستور(1).

وبعيدا عن التحليل الرغائبي الذي يسعى لقراءة المشهد باعتبار وجود محرك وراءه وباعتبار ما نريد، لا كما هو الواقع، فإننا نسعى لقراءة وتحليل تأثير هذا الخطاب الفكاهي والساخر على الشعب، على واقع الدولة المصرية ومستقبلها.

تُشكل حالة الاستثناء حين تطبيقها، نقطة اختلال في علاقة التوازن بين السياسي والقانوني، أي بين التنفيذي والتشريعي، ليُصبح فيها صاحب السلطة سيدا على الجميع، داخل القانون وخارجه في آن واحد، حيث تمكنه هذه الحالة من تفعيل القانون وتعليقه، مما يمنحه حقا دستوريا في استئثار السلطة المطلقة، بحيث يتاح للسلطة التنفيذية حق إصدار مراسيم استثنائية لها "قوة القانون"(2).
 

مناقشة دكتورة "هبة رؤوف عزت" لكتاب "حالة الاستثناء"


وبالنظر للشأن المصري الذي لم يخرج من حالة الاستثناء منذ الاحتلال البريطاني، والتي جسّدها الاحتلال بفرضه لحالة الحصار/الحرب، مما اقتضى أن تعمل السلطة المدنية في خدمة الاحتلال العسكري، وتؤول كل المهام المخولة للسلطة المدنية، والتي تتصل بالأمن والنظام الداخلي إلى الحاكم العسكري، ليمارس وفقا لهذه التغيرات، تلك المهام على مسؤوليته الحصرية. حالة الاستثناء تلك، هي ذات الأداة التي يستخدمها العسكر بدعوى مكافحة الإرهاب، وعليه ينسحب ذلك لترويجه لخطاب يعتبر الحديث عن حقوق الإنسان قضية ثانوية، باعتبار أن المصلحة الوطنية تقتضي التركيز تجاه الأخطار الناتجة عن الإرهاب، وهو الخطر الداهم الذي ما انفك المنقلب بالتحذير منه، ومن مغبة تحول مصر لقاعدة تصدّر الأفكار الجهادية وحامليها وفق ما وضحه المنقلب عبر لقاء صحفي مع الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون".
 

 

لم يستفد السيسي من انعكاسات حالة الاستثناء باستخدامها لترويض جموح الجماهير فقط، ووضعهم تحت مقصلة الأمر الواقع، وإنما استغلها كذلك في مخالفة الدستور لتمرير قضية التنازل عن "تيران وصنافير" لصالح المملكة العربية السعودية، ليخرج السيسي بعدها مخاطبا الشعب المصري قائلا "الموضوع خلص".

نستشهد هنا ب"جورجو أغامبين" وهو الذي تحدث حول الآلية التي تخلق بها حالة الطوارئ والدور الذي تلعبه، باعتبارها لم تكن يوما حالة مؤقتة، بل أصبحت استثناءً دائما، يعتاد فيها الشعب على حالة الفزع الشديد من عدم الاستقرار الذي يحيط بمستقبله ويستعصي تفسيره، ليتحول بذلك المواطن لأن يعيش عاريا تحت سلطة الدولة، عارٍ من حقوق المواطنة والحقوق السياسية عندما يتم إقرار حالة الطوارئ، حينها، لا تختلف حالته عن الإنسان الذي يعيش في مخيم أو معسكر اعتقال(3) .

إلا أن ما يثير استغراب المتابع، أن العسكري الذي قام بانقلاب دموي،  يشاع عنه سخفه، فلا آكد على ذلك من الاطلاع على خطابات المجرم الذي يروج لنفسه باعتباره كان يبكي في صلاة الظهر، وأن ثلاجته لم تكن تحوي غير زجاجات المياه، ولا أشد سخرية من حلوله الاقتصادية التي يستعرضها وفق رؤيته لانتشال مصر من ضيقها المالي، فالرجل يحفز الشعب ب"أن كل مواطن يصبح على الدولة بجنيه"، "أها صحيح".

عسكري تبدو إيقاعاته عاطفية على نغمة "هو انتو مش نور عينينا ولا إيه " و"مصر أم الدنيا وهتبقى أد الدنيا" ويفسر ما ارتكبه من مجازر وجرائم بأنهم "أخدوا السلم معاهم فوق" وأن "أهل الشر هم اللي بدؤوا"، ليتحول الحال نحو حالة استثناء ساخرة، فهل هذا الذي يسجن ويقتل ويخطف كل من يعارضونه تافه حقا أم أن خطاباته تلك تحمل وراءها الكثير من الدلالات؟

عنف الانقلاب الرمزي

تعد خطابات المنقلب، الممتلئة بالأقوال الساخرة، والضحكات التي تتجاوز أطر الرزانة الرسمية متجاوزة لعشوائية الخطابات، إذ يمكن قراءة الكثير من الرمزيات في خطاباته، فوفق "بيير بورديو" في كتاب "العنف الرمزي"، فإن "العنف الرمزي هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، غير محسوس، وغير مرئي لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات"(4).

وفي حالتنا هذه، يكون للخطاب تأثير ناجع على وعي الشعب لقدراته وممكناته، والتي دائمًا ما يصورها المنقلب عاجزة عن تغيير الوضع الحالي لما تواجهه مصر من أزمات أمنية تتسبب في أزمات اقتصادية وسياسية، وفيما يحمله هذا الخطاب أثر بالغ يتجاوز الآثار المادية المحسوسة، باعتباره عنفا لا شعوريا، وغير معترف به - مجتمعيا- على أنه عنف، لما يحمله من صيغ ساخرة(5).

وعلى ذلك، فإن الأحداث التي تشهدها مصر في عهد الانقلاب على الصعيد الاقتصادي، وما يشهده السوق من غلاء مطّرد، وانهيار المستوى المعيشي للفرد حين مقارنتها بمقاربات المنقلب حولها والتي يخاطب فيها الشعب بقوله "انا نفسي أديك بس مش قادر"، وبقوله مخاطبا الفقراء "انت غلبان مش قادر.. وانا كمان غلبان مش قادر"، تلك العبارات تخلق حاجزا أمام المواطن أن يتحدث عن أي حقوق له، ما دام زعيم العصابة نفسه "غلبان"، ليؤسس بذلك حالة من تطبيع الفقر، يصور فيها تساوي الجميع على شظف العيش.
 

 

ذات الأمر ينسحب على المشهد الأمني، فالعسكر يصر على ترويج خطابات إحكام السيطرة، باعتبار الظرف العصيب الذي تشهده مصر، وعليه تتقاطع خطابات التدجين في ترويض الشعب تجاه أي إجراءات استثنائية في قابل الأيام، وأنه لا سبيل للهرب، فالأزمة كما يروج لها تعم الجميع.

ومع غياب الرؤية الاقتصادية، يحل البيع والشراء، وبحث لا ينتهي عن مال سريع بدءًا من جيوب الحلفاء الأثرياء إلى برنامج اقتصادي عنوانه "صبح على مصر بجنيه" لكي يتم استهداف آخر جنيه في جيب المواطنين المُعدمين، وليس من الضروري هنا أن يروج سبب دفع المال ولا العائد الذي سينالوه منه؟، ليوفر المجرم عنهم عناء التفكير ويستجلب صيغة يقول فيها "والله العظيم أنا لو ينفع أتباع لأتباع" و" مش هناكل يعني مناكلش إيه يعني" عبارات كهذه، يعد التندر بها دون معرفة ما تؤسس له من مفاهيم، حالة من تطبيع الفشل ومأسسته في الفضاء العام.
 
 

  

فلنأخذ كلمات المجرم على محمل الجد

"إن الحاوي شخصية فعالة ومنتجة بطبعها، حتى ولو لم تتقصد ذلك. الحاوي يضحكنا ويرهبنا في آن".

لا يبتعد السيسي كثيرا عن شخصية توفيق عكاشة في الفضاء العام، حيث استطاعت شخصية مثل "توفيق عكاشة" بسخريته أن يفرض سلطة معرفية على طبقات البسطاء من الشعب، واستطاع أن يُمرر شعبيته بقوة من خلال شباب الثورة الذين يتعاملون معه بسخرية ويطلقون عليه النكات على مواقع التواصل الاجتماعي، فتلك السخرية زادت من اقترابه إلى الشعب. حيث يحكي "والتر أرمبرست" عالم الأنثروبولوجيا " طرحا جديرا بالنظر. في دراسة بعنوان "حاوي الثورة المصرية" حيث يقول إنه سمع سائق تاكسي يُردد عبارة كان يقولها عكاشة دائمًا "الثورة خربت الأمة"، ويقول أرمبرست "اعتدلت في جلستي وانتبهت لأن "تخريب" هذه واحدة من التهم الفارغة التي يكثر عكاشة من رمي الثوار بها"(6).

ويذهب "والتر أرمبرست" إلى أن "الراجح أننا في بداية القرن الحادي والعشرين نعيش في عالم تصبح فيه الممارسة الناجحة للسلطة هي الشعبوية*، الشعبوية التي تدعي أنها تسعى لتحقيق الخير للأمة ويجري التعبير عنها في صورة مبالغ فيها من الوطنية، وتُصدر الخوف في التقارير الإعلامية المروعة المفرطة والصحف المثيرة ونظريات المؤامرة، إنه الخوف من الإسلاميين، والخوف من المهاجرين، والخوف من المؤامرات العالمية الأمريكية اليهودية. ذلك الخوف المُضحك الحنون الوطني، الذي يسلبنا القدرة على الكراهية، الكراهية المُنظمة والفعّالة التي ترى بشكل واعٍ أنها تكره النظام ليس بالقلب فقط، بل بالألسن والأيدي.

ويوضح أن "هؤلاء الحُواةُ المثيرين للضحك هم من يغيرون العالم ويكتبون التاريخ، والتغير الاجتماعي الذي كان يحلم به الثوار، يحدث من تلك التفاهة التي لا يتم التعامل معها على محمل الجد، وهي تعني ما تقوله ولا تُردد كلمات فارغة بل كلمات لها ظلها المنعكس على الواقع عبر قرارات سياسية واقتصادية تؤثر على مستقبل المواطن، كما ينعكس ظلها على وعي الشعب بقدراته وتعريفه لنفسه ونزع قدرته على التفكير في التطلع لمستقبل أفضل، بالإضافة لتعطيلها الذاكرة الجمعية وهي ذاكرة انتقائية يكون فيها الساسة قادة عملية الانتقاء".
 

    
التطبيع مع الشيطان


تختفي التفاعلات السياسية، وينسحب الفرد عن الحديث والانخراط في القضايا العامة، لينحسر الفعل المؤثر. هذه الحالة فسرها عالم الاجتماع "وليونيداس دونسكيس"* في كتاب "الشر السائل" حيث يقول إن "حالة العجز التي يعانيها المواطن في المجتمع والتي يسببها ضحالة الفكر والإحساس والمعرفة، تجعله ينحصر في حياته الفردية، فلا يوجد مساحة للحديث عن المجتمع العادل والصالح، بل تنحصر مخاوف الفرد على حياته فقط"، وتلك المخاوف ما يسميها "زيجمونت باومان" بأسلوب الإدارة الجديد في مجتمع "الحداثة السائلة"، "تلك الإدارة الجديدة التي تستثمر في فزع المواطنين من عدم الاستقرار الذي يحيط بمستقبلهم ويستعصي تفسيره، يقول باومان "إنه فزع شديد من الضباب العولمي الذي يخفي آفاق مستقبلهم عن الأنظار"(7)

في تلك الحالة يفقد الناس إحساسهم، ويتعطل لديهم الشعور بالآخرين، ويستأصلون ببساطة العلاقة الأخلاقية مع غيرهم، ولا يتحول غيرهم إلا باعتبارهم ظروفا وعوائق وتفاصيل مزعجة، يقول جورج أورويل في مذكرات بوقت الحرب:

"الكل غير أمين، والكل لا يشعر بأية رحمة تجاه من هم خارج النطاق المباشر لمصالحه، والأدهى هو إمكانية فتح الرحمة وغلقها مثل الصنبور وفق المصلحة السياسية"(8).

وعندما يتحدث المنقلب عن محاربة "أهل الشر" فلا يمكن للمواطن البسيط أن يقوم بالإشارة تجاه أُناس محددين، ولا يمكن أن يتفاعل مع من تنالهم وصمة "أهل الشر" ويتم البطش بهم عن طريق النظام. وبهذا يقوم العسكر بتقسيم وتفتيت الكوكب إلى عشرات الآلاف من الذرات المنفصلة المبعثرة التي تعرض بصورة خاطفة يعجز المرء عن استيعابها، ليصل غسيل الأدمغة إلى تطهير البشر من المعنى والمنطق، وتبقى بذلك الأدمغة فارغة قاحلة على الدوام، مما يخلق حالة من تسكين الشر في التفاصيل اليومية حتى تتشربه النفوس ولا يُدان بذلك الشيطان/السلطة فقط بأفعاله بل المجتمع بأكمله وفق ما أوردته الدكتورة هبة رؤوف عزت.

هكذا يظهر الحاوي بثوب عسكري، يتحدث بلغة "مضحكة" ويسلك طريق حكام العصور المظلمة، فيبطش، ويقتل، ويسجن، دون أن يحاسبه أحد، ويكتفي الجميع بالمشاهدة والسخرية.

__________________________________________________________

الهوامش

*وليونيداس دونسكيس: سياسي، وفيلسوف، وأستاذ جامعي، ومُنظر سياسي من الاتحاد السوفيتي.

المصادر

    1    Political Theology:The Myth of Closure of any Political Theology
    2    المصدر نفسه
    3    كتاب حالة الاستثناء- جورجو أغامبين
    4    العنف الرمزي- بيير بورديو
    5    المصدر نفسه
    6    حاوي الثورة المصرية: دراسة انثروبولوجية لظاهرة توفيق عكاشة
    7    كتاب الشر السائل -زيجمونت باومان ووليونيداس دونسكيس
    8    George Orwell: Ethnographer of Modernity