إن من سنن الله تعالى التدافع بين الحق والباطل، قال الله تعالى: { فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (البقرة: 251)، بما شرع لهم من أساليب الدفع، ومنها فريضة الجهاد في سبيل الله، فإن قوام الدين بالكتاب الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، وبالجهاد الذي ينصر الكتاب ويحمي الشريعة، وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى: {لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ}[الحديد: 25]

وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} [الأنفال60].

وكثير ممن عرفوا حق الله سبحانه وحقيقة الشهادة في سبيل الله فقدموا أنفسهم بل وذويهم فداء لهذا الدين، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}  [آل عمران: 169-170].

وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

وهذه قصة عائلة الشهيد محمد عبدالخالق يوسف والذي ولد في قرية عرب الرمل مركز قويسنا محافظة المنوفية لأب كان يعشق فلسطين وترابها، ولذا وجد وأبناؤه بغيتهم في دعوة الإخوان المسلمين التي أعلت في همة الجهاد وحببت إليهم الشهادة في سبيل الله سبحانه.

وجاء عام 1948م بأحداث متلاحقة يرويها الشيخ بنفسه يقول: «طلب إلينا فضيلة المرشد أن نُعدَّ أربعة رجال إعدادًا كاملًا من كل مركز جهاد من مراكز الإخوان، فعزمْت أمري أن أكون من بينهم، وفاتحت ابني محمَّدًا في الأمر، فلما طلبت منه أن يخلفني في أهلي قال: لي ولمَ لا أذهب أنا وتبقى أنت؟! ثم أردف قائلًا: هل تمنعني من الجهاد في سبيل الله؟ فقلتُ له: أمَّا هذه فلا؛ فالجهاد فريضة من الله، وتدخَّلت أمُّه بعاطفة الأمومة لتحول بينه وبين السفر فقال لها: يا أمي: أحب الأمور إلى نفسي أن ألقى ربي والدماء تنزف من وجهي.. لونها لون الدم وريحها ريح المسك، فسكتت الأم الصابرة، وشدَّ الشيخ الرحال إلى القاهرة بصحبة ابنه، وكان نصيبهما الكتيبة الأولى بقيادة الشهيدين محمد فرغلي ويوسف طلعت.

وجاء شهر إبريل من عام 1948م؛ لتبدأ الكتيبة المجاهدة أولى معاركها ضد اليهود، وكان معركة كفار ديروم الأولى، ويروي لنا والده الشيخ مشاهد هذا الصباح فيقول:

«أعددنا سلاحنا وأنفسنا للمعركة، وتقدم مني ابني محمد وقبَّل يدَي، وقال: ادع لي بالشهادة يا أبتِ، ثم أوصاني بما له وما عليه للناس، فقلت له- وهو يوصيني-: ولِمَ لا أكون أنا الشهيد وتبقى أنت من بعدي، فقال- وهو يشخص ببصره إلى السماء-: إنني رأيت نفسي في نومي وكأني طائر يحلق في السماء ثم ينزل بين أشجار كثيفة ويعشِّش فيها، وهنا وجدتني أقف أمامه في خشوع وإجلال، وارتويت من روحه وبسطتُ إليه يديَّ وأنا أدعو: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، أستودعك عند الله يا بني يا محمد، ومضت عليَّ ساعة ما أثقل وزنها في حياتي.. ابني محمد سوف يختفي من دنياي ولن أراه.. لن أسمعه.. لن أشمَّ أنفاسه وأتعطَّر بها.. لن أسمع كلمة (يا أبي) منه.. سوف أعيش وحدي ولن أجد من يقاسمني الجهاد، فإخوانه أطفال لا يصلحون لصحبتي في الميدان، واستسلمت لقضاء الله، وأسلمت أمري إليه، وضغطت على عواطفي بكل ما أوتيت من قوة الإرادة، فالموقف أكبر وأجل من أن أستسلم للحزن والبكاء، ووجدت آيات القرآن تنساب في أعماقي، وتمسح برفقٍ كلَّ آلامي، وتضع الطمأنينة والسكينة والرضا، ويكمل الشيخ عبدالخالق القصة بقوله: صدرت إلينا الأوامر بالتقدم، فوثب الرجال في سرعة مذهلة إلى المستعمرة الراقدة في بطن الوادي، وكأنها شيطان أسود ركبت له عينان متوقدتان لا تغفلان؛ ولكن كانت هناك ظروفٌ كثيرةٌ لم تمكننا من دخول المستعمرة، فغمَرنا العدو بوابل من نيران مدافعه الرشاشة، وأصابت رصاصة غادرة قلب ابني محمد، واستقرت أخرى في ذراع ابن أخي، وانسحبت مع زملائي، وكان لقاء وداع لمحمد لا أنساه».

يقول أحد المجاهدين المشاركين في المعركة: «وتصاعدت الأصوات، تبحث عن الحاج عبدالخالق الذي كان يحارب في المعركة ومعه ابنه محمد عبدالخالق، وسقط ابنه قتيلًا إلى جانبه، فلم يبكِ عليه؛ بل حمل بندقيته وراح يقتل بها الذين قتلوا ولده، ثم انتهت المعركة ولم ينتظر الحاج عبدالخالق ليشيِّع جنازة ولده مع المشيِّعين؛ بل ذهب مع ابن أخيه الجريح أحمد يوسف إلى مستشفى غزَّة، وقال له إخوانه إننا نعزِّيك، قال: كلا.. بل هنِّئوني.. إنني سأبقى هنا لأنال بعض الشرف الذي ناله ابني، قلت فمَن عبدالخالق؟ فإذا به عبدالخالق يوسف حسن يوسف من بلدة قويسنا منوفية»

ويقول الدكتور صفوت حسين في كتابه [الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية (1936- 1949م]: «ومن الشهداء محمد عبد الخالق الذي تطوع في كتيبة القراء التي رأسها الشيخ عبد الخالق يوسف والتي تتألف كلها من عائلة عبد الخالق يوسف وكلهم من حفظة القرآن، ولذلك سميت (كتيبة القراء)».

وقد أرسل الشيخ عبد الخالق والد الشهيد إلى أهله برقية جاء فيها: «مات محمد في أرض القدس ابعثوا بمن يحل محله»، وفي اليوم التالي سافر ابن أخت الشيخ وابن أخيه ليحل محل الشهيد، لقد سقط محمد شهيدا بجوار والده فلم يبك عليه بل حمل بندقيته وراح يقتل بها الذين قتلوا ولده، وعندما انتهت المعركة لم ينتظر الحاج عبد الخالق ليشيع جنازة ولده مع المشيعين، بل ذهب مع ابن أخيه الجريح محمد يوسف إلى مستشفى غزة.