قطب العربي

مع الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة 1919، ها نحن نعيد اكتشاف تلك الثورة، وقوتها وانتشارها وتأثيرها سواء في مصر أو المنطقة العربية باعتبارها أول ثورة شعبية عربية في العصر الحديث، ورغم عظمة تلك الثورة وتأثيراتها إلا أنها لم تأخذ حقها المناسب في الثقافة المصرية والوعي الشعبي العام، ويرجع البعض السبب في ذلك إلى قوتين متضادتين اجتمعتا على التهوين من شأن تلك الثورة لحسابات خاصة بكل طرف.

الطرف الأول المتهم بتقزيم ثورة 1919 هو ضباط يوليو 1952 الذين حرصوا على تقزيم تلك الثورة وإبرازها بمظهر الثورة الفاشلة التي لم تحقق هدفها الرئيسي الذي رفعته وهو الاستقلال، وفي المقابل حرص أولئك الضباط على تضخيم حركة أحمد عرابي التي وصفت في الكتب الدراسية بثورة عرابي، رغم أنها كانت مجرد حركة عسكرية محدودة المكان والزمان، وبالطبع يرجع هذا التضخيم من قبل ضباط يوليو لحركة عرابي على حساب ثورة 1919 باعتبار الأولى حركة عسكرية مثلهم بينما كانت ثورة 1919 ثورة شعبية مدنية لا مكان فيها للعسكر.

الطرف الثاني المتهم بظلم ثورة 1919 هم الإسلاميون، الذين لا يبدون اهتماما يذكر بتلك الثورة، وربما لا يعرفون عنها الكثير، ولم يجهدوا أنفسهم بدراستها والبناء عليها، لكن البعض يبالغ في تحميل التيار الإسلامي المسؤولية عن تقزيم تلك الثورة بحجة عدم مشاركته فيها، وهذا كلام يبدو سطحيا إلى أبعد الحدود ذلك أن التيار الإسلامي الحركي لم يكن قد نشأ بعد، وكان أول ظهوره عام 1928 بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، أي بعد الثورة بتسع سنوات، ومع ذلك فإن الصور الموثقة لتلك الثورة تظهر أصحاب لحى قد يكونون منتمين للتيار السلفي أو التيار الصوفي اللذيْن كانا قائمين في ذلك الوقت، كما أن النساء اللائي شاركن في الثورة وكن أحد أبرز مظاهرها شاركن بحجابهن ونقابهن، ولم يثبت من أي صور أنهن خلعن ذاك الحجاب.

يدعي البعض أيضا أن التيار الإسلامي يعادي ثورة 1919 لأنها كانت ضد فكرة الجامعة الإسلامية التي أطلقها جمال الدين الأفغاني وتلقفها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، والحقيقة أن صراع الهوية بين الجامعة الإسلامية والجامعة الوطنية لم يكن على رأس أولويات ثورة 1919 ولا ضمن شعاراتها التي تركزت على قضيتين أساسيتين هما الاستقلال والدستور، وقد نجحت الثورة جزئيا في تحقيق الاستقلال حيث اضطرت بريطانيا تحت ضغط الشعب الثائر لمنح مصر استقلالها وإن احتفظت لنفسها ببعض الأمور مثل حماية المصالح الأجنبية والأقليات، وتأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر، والحق في الدفاع عن مصر ضد أي اعتداءات أو تدخلات خارجية، ولذلك وصف ذلك الاستقلال بالمنقوص، لكنه على كل حال كان نقلة كبرى من الاحتلال إلى الاستقلال حيث أصبحت مصر مملكة لها علمها ونشيدها وتمثيلها في المحافل الدولية لأول مرة، كما أن الثورة نجحت في تحقيق هدفها أو شعارها الثاني وهو كتابة دستور مدني عصري مستقى من الدستور البلجيكي، وهو دستور 1923 الذي يعد أحد المفاخر الدستورية المصرية حتى اليوم، والذي يصلح أساسا لحوار وطني بين القوى الوطنية المصرية للخروج من صراعاتها الحالية.

من الأسباب التي تساق أيضا لاتهام التيار الإسلامي بتجاهل ثورة 1919 أنها مثلت ميلاد الوطنية العلمانية، ومجددا لم تكن قضية العلمانية ضمن أجندة الثورة، بل الصحيح أنها أنتجت تيارا ليبراليا متصالحا مع الدين، فقد كان زعيمها سعد زغلول -رغم كل ما نقل عن بعض سلوكياته الشخصية– أزهريا وكان تلميذا للشيخ محمد عبده، وكان حزب الوفد الذي ولد من رحم تلك الثورة حزبا ليبراليا شعبيا متصالحا مع قيم المجتمع المصري الدينية، على عكس حزب الأمة الذي أسسه قبل تلك الثورة أحمد لطفي السيد عام 1907 وكان واضحا في علمانيته ووطنيته المتطرفة، والذي انتهى بالمناسبة مع ثورة 1919 وظهور دستورها عام 1923.

على عكس الاتهامات السابقة يمكن القول إن التيار الإسلامي الحديث هو نتاج طبيعي لأجواء الحرية والانفتاح الذي أوجدته ثورة 1919، حيث نشأت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 أي بعد الثورة بتسع سنوات، وبعد كتابة دستورها بخمس سنوات فقط، وهو الدستور الذي سمح بتأسيس الجمعيات الأهلية ومنحها حرية الحركة وحق التعاطي مع الشأن العام، وهذا لا يتنافى مع السبب المعروف لتأسيس جماعة الإخوان كرد فعل على إلغاء الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، فلو لم يكن المناخ السياسي المصري مهيأ لتأسيس الجماعة وغيرها لما تأسست، وأما ما حدث من تذبذب في علاقة الإخوان بحزب الوفد الذي هو الابن الشرعي البكر لتلك الثورة فقد كان تنافسا طبيعيا في ظل مناخ حر، ولم يكن صداميا على طول الخط بل كانت هناك لحظات ود وتقارب، وتفاهمات مشتركة كما حدث حين أراد الإمام حسن البنا الترشح للانتخابات عام 1942، ولكن مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد ورئيس الحكومة طلب منه سحب ترشحه حتى لا يصطدم بالإنجليز، وفي المقابل منحه عدة مكاسب منها إلغاء دور البغاء، ومنع الخمور، والسماح له بافتتاح شعب ومقرات للجماعة في كل محافظات مصر، وبعض الأمور الأخرى، كما أن الإخوان تحالفوا مع حزب الوفد في انتخابات البرلمان المصري عام 1984، وكان هذا التحالف سببا في فوزهما معا وتخطي الحاجز القانوني الذي لم يستطع غيرهما من الأحزاب المعارضة في ذلك الوقت تخطيه.

في ذكراها المئوية حري بالتيار الإسلامي إعادة قراءة ثورة 1919، واستلهام خبراتها، ودروسها، فقد كانت بحق هي الثورة الأم التي كانت ثورة يناير ابنها البار، ورغم أن قضية الاستقلال طغت على ثورة 1919 وميزتها عن ثورة يناير إلا أن الثورتين اجتمعتا على مطالب الحرية والكرامة والعدالة ومواجهة الفقر وتردي الحالة المعيشية، وكان الدستوران اللذان أنتجتهما الثورتان من مفاخر الدساتير المصرية والعربية، كما أن أجواء الحرية التي وفرتها الثورتان كانت هي التربة الخصبة لنمو الأفكار وتنوع الاجتهادات، وتعدد الخيارات أمام الشعب بما فيها الخيار الإسلامي.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "نافذة مصر"