«م.ج» شاب ثري لم يتجاوز 24 سنة من عمره، أراد أن يتزوج من زميلته المتفوقة دراسيًا، إلا أن والد الفتاة طلب من الشاب أن يتقدم لنيل الدراسات العليا، لم يرفض الشاب الأمر، لكنه قرر ببساطة شراء الرسالة التي ستؤهله للحصول على الدرجة العلمية الأعلى من مؤهله الحالي، هو لديه المال لكنه ليس لديه الصبر والجهد اللازمين للدراسة.

 

الرسالة العلمية لا تقل عن 15 ألف جنيه

هنا إحدى المكتبات الصغيرة بالقرب من واحدة من الجامعات بالعاصمة المصرية القاهرة، يُمكنك أن تأتي إلى هنا لتصوير أوراق، أو لترجمة بعض المواد الأجنبية، أو لتنفيذ عرض علمي ببرنامج «باور بوينت»، أو لإنجاز جزء أو كل رسالتك العلمية للحصول على درجة الماجيستير والدكتوراة، وفقًا لمقدرتك المادية.

«ك.ع» أحد المتعاملين مع هذه المكتبة، لا يحتاج أيًا من خدماتها السابق ذكرها، لكنه هو من يُقدم خدماته للمكتبة سابقة الذكر، فهو يُنجز الرسائل العلمية، للحصول على مقابل مادي، شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، حاصل على درجة الماجيستير في إدارة الأعمال، وقد حاول مرارًا وتكرارًا الحصول على فرصة عمل مُناسبة لمهاراته وإمكانياته العلمية لكن بلا جدوى.

الدراسات العُليا

المصدر - جيتي

لذا قرر «ك.ع» أن يجد فرصة عمل بأي شكل، وأصبح بالفعل منذ سنوات يعمل على إنجاز الرسائل العلمية للطلبة، يحصل من المكتبة على مواصفات الرسالة المطلوبة، ثم يُحدد الوقت الكافي الذي يمكنه إنجازها خلاله، ويُحدد أيضًا المقابل المادي والذي لا يقل بأي حال عن 15 ألف جنيه، لأنه قد يعمل برسالة واحدة لمدة ثلاثة أشهر، وربما يزيد المُقابل المادي وفقًا لدرجة صعوبة الرسالة وإمكانيات الطالب المادية، فيتعمد «ك.ع» أن يجلس مع الطالب ولو لمرة قبل بدء العمل في الرسالة، وغالبًا ما يكون الطالب الذي يرغب في هذه الخدمة هو طالب مُقتدر ماديًا.

«ك.ع» هو أحد المُستفيدين من «بيزنس» الدراسات العُليا والدرجات العلمية في مصر، الأمر الذي تحول من اجتهاد ومُثابرة لتقديم رسائل علمية تُساهم في تطوير البحث العلمي إلى مجرد ألقاب ومعلومات جافة يُمكن الحصول عليها من خلال عملية بحث بدائي بشبكة الإنترنت، وهي العملية التي يمكن أن لشخص آخر أن يُنجزها بالنيابة عن الطالب الذي يمتلك المال ويُمكنه بذله مُقابل توفير الوقت والجهد، فنشأت تجارة كاملة تقوم بها مراكز ومكاتب مُختلفة الحجم والإمكانات.

«في مصر ننجح دومًا في وضع المعادلات، أنا أحتاج العمل والمال، وهناك من يملك المال ويرغب في شيء آخر يُمكنني مساعدته للحصول عليه بلا تعب مُقابل المال، هكذا تسير الأمور دومًا». بحسب«ك.ع» الذي يُضيف  لـ«ساسة بوست»:«أنا لدي مهارات تُمكنني من إنجاز هذا الأمر، لأنني حاصل بالفعل على درجة علمية كما أنني أُجيد الإنجليزية، حلمت أن تُمكنني هذه المؤهلات من الحصول على فرصة عمل بمُقابل مادي جيد، ولكنني اصطدمت كثيرًا بسوق العمل، أحيانًا يكون الاصطدام بالمرتب القليل، وأحيانًا بشكل التعامل والصراعات في مكان العمل وغيرها، وكل هذا دفعني للحصول على فرصة عمل أكون فيها رئيس نفسي ولا أحتك بكل هذه الأزمات».

سعي وراء اللقب

«لم تحظ أمي بأي قدر من التعليم، تعبت كثيرًا بعدما توفي والدي لكي تنجح في تربيتي وتعليمي أنا وإخوتي، كنت أريد أن أعوضها» هذا كان المنطق الذي يُحرك «نجلاء.س» الفتاة العشرينية حينما أقدمت على خطوة التقدم لنيل الدراسات العليا بإحدى الجامعات المصرية، لم تكن تعلم أنها مُقدمة على معاناة حقيقية من صراعات ومشاكل، ربما هي أشدّ مما نالها من مُعاناة خلال سنوات التعليم السابقة.

«في كل لحظة كنت ألوم نفسي قائلة أنني أنا من فعلت بنفسي هذا، لم أكن مُجبرة ولا مُضطرة ودخلت هذه المُعاناة بكامل إرادتي وحريتي! ربما كنت مُخطئة لأن كل هدفي كان أن تحصل أمي على لقب «والدة الدكتورة» وربما لم يكن هذا سببًا كافيًا يجعلني أحتمل كل ما لاقيته»، هكذا كانت تعبر نجلاء لـ«ساسة بوست» عن إحساسها تجاه خطوة الدراسات العُليا التي قررت اتخاذها في حياتها.

الدراسات العُليا

المصدر - جيتي

حظ نجلاء أوقعها في أستاذ شاب يكون مُشرفًا على رسالتها في مرحلة الماجستير بإحدى كليات العلوم، كان الأستاذ الشاب يرى أنه بإمكان نجلاء وزميلاتها أن ينجزوا رسائلهم العلمية خلال عام واحد فقط، وبعدها يكونوا مؤهلين للمناقشة، لم يدر الأستاذ الشاب الذي تلقى تعليمه خارج مصر أنه يفتح على نفسه وطلابه أحد أبواب الجحيم.

وبحسب نجلاء، لم يقتنع الأساتذة المُخضرمون بالكلية أنه بإمكان هؤلاء الصغار أن يحصلوا على الدرجة العلمية بدون كثير من التعب والوقت وبذل السنوات من أعمارهم، لم يُلاق جهد الأستاذ الشاب وتلاميذه أيضًا غير الغيرة والكراهية من المُعيدين بالكلية لأنهم مكثوا سنوات في الدراسة وخدمة الأساتذة دون أن يحصلوا على درجاتهم العلمية بعد، فكيف لهؤلاء من غير المُعينين بالجامعة والذين سيحصلون على درجاتهم العلمية لكي يُعلقونها على حوائط بيوتهم ويتباهون بها خلال عام واحد؟ كانوا يرون أنهم الأجدر والأحق أن ينجزوا رسائلهم في وقت أقل، فُتح كل هذا باب المكائد والصراعات على الأستاذ الشاب، حتى جرى نقله وطلابه من الجامعة تمامًا.

الهدف الذي كان يُحرك نجلاء للتقدم لنيل الدراسات العُليا هو الهدف نفسه الذي يُحرك مئات وربما آلاف غيرها من طلبة الدراسات العُليا، الذين لا يُقدمون على هذه الخطوة ويتحملون كُلفتها المادية والمعنوية إلا من أجل الحصول على اللقب الذي سيسبق أسماءهم.

 

دكتور «يضرب» رسائل علمية

«كنت بهرب من البطالة والفراغ، أردت أن أظل طالبًا للأبد، وبالفعل تمكنت من تحقيق هذا حتى حصلت على الدكتوراة». هكذا يبدأ «محمود.ع» الرجل الأربعيني، قصته مع الدراسات العُليا بالجامعات المصرية، و بمجرد بدء الدراسة تفنن الأساتذة من تلقاء أنفسهم في إضاعة سنوات عمره التي لم يكن يدري ماذا يفعل فيها من الأساس، كانت رحلة شاقة وقاسية ولكنه أكملها حتى النهاية، ليحصل بعد 12 عامًا على درجتي الماجستير والدكتوراة من إحدى كليات الآداب.

«لقد مرّ عليّ الكثير والكثير من الأساتذة، منهم المُخلص المُتفاني الذي يريد إفادتك فعلًا، ومنهم من يعتبر أن تفوقك العلمي إهانة شخصية له؛ لأنه لم يُحقق هذه النتيجة ، فيتولى مُهمة إحباطك طوال الوقت بسبب وبلا سبب، ومنهم من يريد الخدمات والهدايا، لكي يُشرف على رسالتك كما يجب ولا يعتذر كثيرًا عن لقائك فيُطيل من مدة بقائك بالخدمة! خدمة الأستاذ أعني» هكذا يقول محمود مُعبرًا لـ«ساسة بوست» عن الاثنى عشر عامًا الذين مرّوا عليه حتى نال الدكتوراة.

وأغرب ما مرّ بمحمود هو الأستاذ الذي يمتلك مركز ترجمة وإعداد رسائل علمية من الباطن، ويوجه طلابه إلى المركز لكي يساعدهم في إنجاز رسائلهم العلمية بُمقابل مادي، وحينما انتهى محمود من الحصول على درجته العلمية لم يجد بالطبع فرصة عمل مُناسبة لدرجته العلمية الجديدة سوى الانضمام إلى فريق عمل مركز إعداد الرسائل العلمية الذي يمتلكه الأستاذ السابق ذكره.

يُساعد محمود في إعداد الرسائل العلمية، ويحصل على مرتب شهري من المركز «المرتب قليل لكنني على الأقل الآن أعمل ولي دخل بعد كل سنوات الدراسة هذه».

 

«ضرب» الرسائل العلمية.. مهنة جديدة تحتاج إمكانات يُمكنك إجادتها

يختلف «هاني.خ» الشاب الثلاثيني عن حالة محمود كثيرًا، فهو حاصل على بكالوريوس آداب قسم اجتماع بتقدير مقبول، وقد حصل على مؤهله الجامعي بعد ست سنوات لأنه قد رسب عامين، ومع ذلك فقد تيسر له العمل، منذ أربعة أعوام، في أحد مراكز إعداد الرسائل العلمية لطلبة الدراسات العُليا، ويحكي لـ«ساسة بوست»: «يُمكننا أن نعتبرها فرصة عمل كأي فرصة عمل أخرى، بها بعض المُتطلبات التي عليك أن تجيدها، الأساتذة أصبحوا لا يُدققون في محتوى الرسائل العلمية، فقليلًا ما يقرأون أو يُناقشون، تركيز أغلبهم في تعقيد الطلبة أو الاستفادة منهم».

من وجهة نظر هاني فإن الحالة السابقة تُساعده كثيرًا في عمله، موضحًا: «يُمكنك أن تأخذ المعلومات التي ترغب فيها قص ولزق من أي المواقع الإلكترونية شئت، ويُمكنك أيضًا أن تضع قائمة طويلة من الكتب في نهاية مادتك العلمية مصدرًا لهذه المادة».

ويرى أنه في كافة الأحوال سيتولى الأساتذة مُهمة إرسال الطالب لهم مرات عديدة لتنفيذ تعديلات ما، أو إنجاز طلبات جديدة على مادته العلمية، يرى هاني أنه لا تعليم حقيقي بالأمر، الأساتذة يُفرغون طاقتهم بالطلبة، والطلبة يرغبون في الحصول على اللقب، ونحن نرغب في إيجاد فرصة عمل والحصول على مُقابل مادي، بحسب هاني، فلا يوجد تعليم ولا تطوير مهارات ولا مادة علمية حقيقية، الجميع يتحرك وفقًا لدوافع وأهداف واضحة مُسبقًا ليس من بينها العلم ولا المادة العلمية.

وهو ما يتفق معه الدكتور شريف اللبان، الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، في تصريحات صحفية؛ إذ يرى  أن الطريقة الوحيدة التي يمكن التفريق بها بين الرسالة التي كتبها الطالب بنفسه والمضروبة، هي خبرة الدكتور الذي يناقش معه الرسالة، قائلاً: «هناك الكثير من الدكاترة الجامعيين لا يُناقشون الطالب في رسالته لذلك يستغل هذا الأمر تجار العلم والطلبة الفاشلون  الذين يزورون الرسائل والأبحاث العلمية».

وطالب اللبان الأساتذة الجامعيين بالإشراف والرقابة على الرسائل العلمية بشكل أكثر جدية، ومناقشة الطالب في كل المراجع التي استعان بها حتى يجري التأكد أنه كتبها بنفسه، كما طالب أيضًا رئيس الجامعة بفصل أي طالب ثبت عدم كتابته لرسالته العلمية

 

كما المُسلسلات والأفلام

«الأمر كما ترونه في الأفلام والمُسلسلات المعروضة بالسينما والتليفزيون تمامًا» هكذا تقول نجوان (اسم مستعار) لـ«ساسة بوست»، وتحكي الفتاة العشرينية التي بدأت منذ سنوات خمس رحلتها للحصول على درجة الماجيستير من إحدى الكليات الأدبية، مرّت خلالهم على ثلاث أساتذة مُشرفين أحدهم اعتذر لظروف السفر والآخر اعتذر بلا تقديم عذر واضح، والثالث ما زالت تحت إشرافه، تشرح نجوان جملتها السابقة، بأنه يُمكن للطلبة مُنافقة الأساتذة، يُمكنهم أيضًا أن يذهبون لإحضار أبناء الأساتذة من مدارسهم، باعتبارها خدمة ينتظر الطالب ردها من الأستاذ في سرعة إنجاز رسالته العلمية، وأحيانًا يقبل الأساتذة الهدايا من الطلبة القادرين ماديًّا، والمستعدين لتقديم الهدايا.

لا تعمم نجوان كلامها، لكن ما رصدته من خلال تجربتها وما رأته من تجارب زُملائها أن الدراسات العُليا هي مجرد «بيزنس» يستفيد منه الجميع ماديًا إلا الطالب الذي تصبح أقصى استفادته معنوية بالحصول على اللقب الذي سيسبق اسمه، والذي سيبذل مُقابله الكثير من الجهد وسنوات العمر بالإضافة إلى الكلفة المادية بالطبع.