بعد مرور عامين على قرار تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 هلل إعلام الصوت الواحد بمصر، بالمزايا المتعددة التي حققها تعويم الجنيه والمتضمنة زيادة حصيلة الصادرات والسياحة وتحويلات العاملين بالخارج، وتحقيق الميزان الكلى للمدفوعات فائضا كبيرا. والقضاء على السوق السوداء للتعامل في الدولار، واستعادة البنوك سيطرتها على سوق العملة الأجنبية، وزيادة أرصدة الاحتياطيات من العملات الأجنبية لتغطى واردات سلعية لثمانية أشهر، وزيادة مشتريات الأجانب من أدوات الدين المصري

أما عن السلبيات التي نجمت عن التعويم والمتمثلة في الارتفاع الشديد في أسعار السلع والخدمات وزيادة معدلات الفقر، وزيادة الجمارك والضرائب وارتفع عجز الموازنة وتكلفة الدين بها، وارتفاع أسعار الفائدة المصرية بما حد من اقتراض الشركات، ومزاحمة الحكومة للشركات على أموال البنوك، وزيادة الدين الخارجي لمعدلات غير مسبوقة، فقد مروا عليها سريعا باعتبارها في رأيهم ضريبة مطلوب تحملها.

ولأن الأضرار للتعويم لا يمكن إنكارها فسنركز على بعض الإيجابيات المزعومة لتبين مدى صحتها، وفى البداية فإن الزعم بتحقق تحرير سعر الصرف هو أمر مشكوك فيه، فهذا الزعم موجود منذ يناير/كانون الثاني 2003، لكن الموجود من وقتها وما زال هو تعويم مدار، أي يمسك بحركته البنك المركزي.
ولعل أكبر شاهد على ذلك عندما تحول مركز العملات الأجنبية بالبنوك المصرية مؤخرا، لتحقيق عجز بلغ 4 مليارات دولار في الشهور الأخيرة مع مبيعات الأجانب لأذون الخزانة المصرية، ولا يترتب على ذلك سوى انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار بنسبة 1 % فقط، فهذا يؤكد ما يذكره المصرفيون من أن هناك تعليمات مشددة من البنك المركزي بعدم تجاوز سعر الصرف 18 جنيها للدولار.

وهو ما دفع العديد من المؤسسات البحثية الدولية لتوقع انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار بمجرد خفض سعر الفائدة على الجنيه المصري، وتوقع بعضهم بلوغ السعر 19 جنيها للدولار في العام القادم و20 جنيها في العام 2020.

الزعم الثاني بتحقيق الميزان الكلى للمدفوعات فائضا كبيرا بلغ حوالي 13 مليار دولار، بالعام المالي الأخير 2017/2018 والمنتهى آخر يونيو/حزيران الماضي، مقابل فائض حوالي 14 مليار دولار بالعام المالي السابق، لأنه ببساطه قد اشتملت الموارد الدولارية بالعام المالي الأخير على 15.5 مليار دولار من الاقتراض، و12 مليار دولار لمشتريات الأجانب من أذون وسندات الخزانة المصرية وهى عبارة عن قروض.

أي بإجمالي قروض يقترب من 28 مليار دولار، بينما الفائض المزعوم حوالي 13 مليار دولار وبما يعنى وجود عجز حقيقي بالميزان الكلى للمدفوعات بلغ حوالي 15 مليار دولار، ونفس الأمر تكرر بالعام المالي السابق بوجود عجز حقيقي.
أما التهليل للقضاء على السوق السوداء وامتلاك البنوك زمام قيادة سوق الصرف الجنيه، فيدعونا إلى التساؤل: ألم يكن سعر الصرف بالسوق السوداء قبيل قرار التعويم يدور حول 18 جنيها؟ أليس هذا هو السعر بالبنوك حاليا ومنذ عدة أشهر، وأين هى الوعود بخفض القيمة إلى 14 جنيها مع الزعم بأن القيمة الحقيقية لسعر الصرف هى أقل من 14 جنيها، بل لقد ورد ذكر الوصول الى سبعة جنيهات للدولار من قبل محافظ البنك المركزي؟

الأمر الأهم اقتصاديا للبلاد هو التصريحات التي صاحبت قرار التعويم بأنه سيجعل السلع المصرية أرخص بالخارج، ما يزيد من تنافسيتها وبالتالي تزيد قيمة الصادرات المصرية، وعلى الجانب الآخر ستؤدى زيادة تكلفة الواردات إلى اللجوء لشراء المنتجات المحلية، والعزوف عن المنتجات الأجنبية وبالتالي انخفاض قيمة الواردات، ما سيرتب عليه تراجع العجز بالميزان التجاري.

وسوف ترد على ذلك أرقام جهاز الإحصاء الرسمي الخاصة بأداء التجارة الخارجية المصرية خلال الشهور السبعة الأولى من العام الحالي، حين ذكرت أن قيمة الصادرات السلعية قد بلغت 17 مليار دولار بزيادة  ملياري دولار عن نفس الشهور السبعة من العام الماضي.

بينما بلغت الواردات44.7 مليار دولار بزيادة حوالي 7 مليارات دولار عن الشهور نفسها من العام الماضي، وهكذا زادت قيمة العجز بالميزان التجارة بنحو 5 مليار دولار خلال تلك الشهور السبعة لتصل إلى 28 مليار دولار.
والمعروف أنه طالما استمر العجز الكبير بالميزان التجاري فسيضغط ذلك على سعر الصرف للجنيه، ويكون أكثر عرضة للتراجع أمام الدولار، رغم العديد من الإجراءات التي اتخذتها البنوك ومصلحة الجمارك ووزارة التجارة الخارجية وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات من إجراءات لتقليل الواردات.

ولطالما سمع المصريون مع صدور قرار التعويم أنه سيجعل الأصول المصرية أكثر رخصا للأجانب، ما سيزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر الذى يساهم في زيادة السلع والخدمات وفرص العمل، لكن بيانات البنك المركزي الخاصة بأداء العام المالي 2017/2018 تشير الى حدوث نقص في صافى الاستثمار الأجنبي المباشر، بمصر بنحو 661 مليون دولار عن العام المالي السابق.

ولا يمل مسؤولو الحكومة المصرية وقيادات البنوك من الإشارة الى زيادة الاحتياطي من العملات الأجنبية، كنتيجة مباشرة لقرار التعويم وبلوغه 44.5 مليار دولار بنهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقابل 19 مليار دولار بالشهر السابق لقرار التعويم بزيادة 25.5 مليار دولار خلال عامين.

ويتناسى هؤلاء التوسع في الاقتراض الخارجي والذي زاد الى 92.6 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران الماضي ويتوقع زيادة عن ذلك بالوقت الحالي، حيث جاءت زيادة الاحتياطي من زيادة الاقتراض وليس من الموارد المعتادة، حيث زادت قيمة الدين الخارجي ما بين نهاية سبتمبر 2016 وحتى يونيو/حزيران الماضي 32.5 مليار دولار أي أكثر من زيادة الاحتياطي.

ولأن حصيلة الموارد المعتادة من صادرات وسياحة وتحويلات عاملين وقناة السويس واستثمار أجنبي مباشر، لا تغطى الاحتياجات المعتادة من الواردات السلعية والخدمية، وأقساط وفوائد الدين الخارجي وعوائد مشتريات الأجانب لأدوات الدين المصري والأسهم ومدفوعات الخدمات المختلفة المالية والتعليمية والسياحية والنقل وغيرها.
وستزيد تلك الاحتياجات من النقد الأجنبي في ظل زيادة أسعار العديد من السلع المستوردة حاليا بالأسواق الدولية، ومنها النفط والقمح والذرة والأخشاب والتبغ والقطن والدواجن والنحاس والنيكل، والاتجاه لاستيراد الأرز الذي زادت قيمته دوليا.

وأصبح الاقتراض هو السبيل ليس فقط بالنسبة لوزارة المالية التي تستعد لطرح سندات جديدة بالأسواق الآسيوية مع بدايات العام المقبل، أو للبنك المركزي كي يزيد من الاحتياطيات لديه بل للعديد من الوزارات كالكهرباء والبترول والنقل والتضامن الاجتماعي والتعليم وغيرها، كما توسعت البنوك في الاقتراض الخارجي.

ومن الآثار المباشرة لقرار التعويم أن مصر أصبحت أكثر عرضة للتأثر بالمتغيرات الخارجية، فزيادة سعر الفائدة بالولايات المتحدة أدى لمبيعات الأجانب جانبا كبيرا من مشترياتهم من أذون الخزانة المصرية، وزيادة قيمة الدولار أمام العملات الأخرى دوليا يؤدى لزيادة قيمة الديون الخارجية المقومة معظمها بالدولار الأمريكي.

بل إن انخفاض سعر صرف الليرة التركية كانت له آثار سلبية على الصادرات المصرية، سواء لتركيا أو لغيرها من الدول التي تصدر لها تركيا سلع مشابهة.

وكذلك صعوبة طرح سندات للدول الناشئة بالأسواق الدولية حاليا، بل وزيادة سعر الفائدة على السندات المصرية التي تم طرحها بالعام الماضيين بنسبة 1.5% عن سعر الطرح.

وبلوغ مبيعات الأجانب 9 مليارات دولار من أدوات الدين المصري خلال نصف عام من أبريل/نيسان الى سبتمبر/أيلول الماضي من إجمالي 23 مليار دولار، وتوقع معهد التمويل الدولي استمرار خروج الأجانب من أدوات الدين المصري للوصول الى 6.2 مليار دولار عام 2020.

 

رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر