الشيخ عبد الأحد التركستاني والموت تحت السياط

في السابع والعشرين من مايو الحالي أعلنت السلطات الصينية خبر وفاة علّامة أتراك الأويغور وعظيمهم الشيخ عبد الأحد بن براءة المخدوم في السجون الصينية النازية عن عمر ناهز السبعة والثمانين عاما، بعد أن ظلت تتكتم على خبر وفاته ستة أشهر داخل سجونها المظلمة التي أدمنت العنف بحق أبناء الأويغور المسالمين. لقد اعتقلت السلطات الصينية الشيخ عبد الأحد أكثر من خمس مرات قضى في السجن ما يزيد على الثلاثين عاما خلال فترات متقطعة كان آخرها اعتقاله قبل سبعة أشهر قضى منها شهرا تحت التعذيب الوحشي وسامته فيه سوء العذاب حتى لقي ربه راضيا مرضيا قبل ستة أشهر من الآن.

إن قتل العلماء والدعاة والناشطين واغتيالهم هي ظاهرة تحدث كثيرا بتدبير من الدول الاستعمارية التي لا تريد لأهل الأرض المحتلة التقدّم والازدهار أو الإصلاح علميا أو فكريا، فمثلا اهتزت وسائل الإعلام قبل أسبوعين باغتيال الأكاديمي الفلسطيني الدكتور فادي البطش، وقبل سنة تم اغتيال مهندس الطيران التونسي محمد الزواري كذلك، أحدهما باحث علمي والآخر مهندس طيران، ولقد ضج العالم لهذا الخبر وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي فهل تعلمون أن ما حدث ويحدث في تركستان الشرقية أكبر وأخوف وأشد وأنكى من كل ذلك؟ تركستان الشرقية وما هي تركستان الشرقية؛ إنها بلاد من بلاد الإسلام المسلوبة من قبل الأيادي السوداء عند أشرس الأعداء، وإنها من أهم ثغور الجهاد والدفاع عن المسلمين، وأهلها مسلمون منسيون قد نسوا منذ قرابة قرن وهم أتراك الأويغور.
 
تــركــستـان دولة في ذاكرة النسيان

هل تعلم أن تركستان الشرقية دولة إسلامية كبرى مساحة وسكانا، دخلها الإسلام في عهد الدولة الأموية على يد القائد قتيبة بن مسلم الباهلي وظلت بلدا إسلاميا يزخر بالعلم والإيمان حتى احتلتها الصين الشيوعية منذ عام 1949، وتقع في قلب آسيا وتعرف في المصادر الإسلامية ببلاد "ما وراء النهر" نسبة إلى نهري سيحون وجيحون، وهذه المناطق تأسست فيها بعد قبول الإسلام عدة دول إسلامية، منها دولة القاراخانية والسعيدية والغزنوية والخوارزمية، وقدمت للأمة الإسلامية رجالا عظماء من أمثال سيد العارفين أحمد يُكنَكِي ومبدع علم الرياضيات والفيزياء البيروني ومؤسس علم الجغرافيا والخرائط صاحب كتاب "ديوان اللغة الترك" محمود الكاشغري والفارابي ويوسف الخاص حاجب، وفي الفقه صاحب الهداية المرغيناني، وفي البلاغة يوسف السكاكي.. إلخ، اللذين يطول ذكرهم.
 
قتلت الصين من مسلمي تركستان الشرقية منذ احتلالها حتى اليوم 60 مليون، أي عشرة أضعاف شهداء البوسنة والعراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين. ففي عام 1952 فقط أعدمت الصين 120 ألف شخص في تركستان الشرقية، معظمهم من علماء الشريعة، ذكر ذلك برهان شهيدي والي تركستان الشرقية ذلك الوقت. وفي الفترة من 1949م وحتى 1979م هدم الاحتلال الصيني حوالي 13 ألف مسجد في تركستان الشرقية. من عام 1997م حتى الآن أغلقت سلطات الصين ثلث عدد المساجد بزعم أنها قريبة إلى المدارس الحكومية أو إدارة الحكومة أو أنها تقع في موقع مظهر ومرأى أمام الناس، من زار تركستان الشرقية يرى أن المساجد مهدومة منارتها وطاقاتها. وغيرتها إلى ملاهي وأندية للرقص ومراكز للتغيير الثقافي في تركستان الشرقية والتي تهدف من خلالها إلى تغيير هوية المجتمع المسلمة إلى الإلحاد، وحولت بعضها إلى مقرات للحزب الشيوعي أو معتقلات لأهل البلاد، كما أضرمت الصين النيران في 370 ألف مركز لتعليم القرآن الكريم والمدارس المحلية للعلوم الشرعية حتى أنهتها بكاملها في مختلف المدن في البلاد.
  
ومنذ ثلاث سنوات اشتدت وطأة النظام الصيني الفاشي حيث قام باعتقال عدد من أئمة المساجد وخطبائها والشباب والشابات من تركستان الشرقية وزج بهم في معسكرات غسل الأدمغة والتي سمتها بـ "مراكز التربية السياسية وتغيير الأيدولوجية" والتي يُراد من خلالها محو الإسلام من المنطقة، والمدهش في ذلك أن سلطات السجن تجبر المعتقلين يوميا على كلمات الكفر والإلحاد والتصريح بإن الله غير موجود وأن الإسلام دين خرافي، ويعذبونهم بأشنع أنواع التعذيب حتى يتنازلوا عن دينهم وإيمانهم، ووصل الأمر إلى حبس وقتل العلماء وأصحاب النشاطات التجارية والمصانع وأصحاب الكفاءات والأكاديميين والفنانين وكل صوت مسموع داخل المنطقة في محاولة منهم لإسكات هؤلاء عن المطالبة بحقوقهم وإسماع العالم مظلمتهم. (والتي سأكتب عنها لاحقا بإذن الله تعالى).

وتشير الإحصاءات الجديدة للنظام الصيني نفسه إلى اعتقال عدد من المواطنين فمن محافظة خوتان تم اعتقال 40 في المائة ومن محافظة كاشغر 30 في المائة ومن بقية المدن 10 في المائة في السجون ومعسكرات المراكز التعليمية أو التغييرية من الرجال والنساء، وفي تركستان الشرقية 17 محافظة كبيرة كأمثال خوتان وكاشغر و84 مدينة، وهذه الإحصائيات ليست افتراضية بل هي معلومات رسمية من الموظفين الرسميين والمواقع الإلكترونية لحكومة الصين الغاشمة، وتعلنها على الملأ من أجل إرهاب المواطنين المسالمين.
 
وفي كل يوم لهم سياسات جديدة لطمس الهوية الإسلامية والثقافة الخاصة بالأويغور وحملة التصيين بهم، ومن ضمنها: سياسة تزويج التركستانيات مع الصينيين وسياسة الأخوة بين الشعب أتراك الأويغور والموظفين الصينين، والتعيين في كل الأسرة المسلمة أحدا من الموظفين الصينيين حتى يشاركوهم في الأكل الشرب يوميا، وقاموا بجمع الأئمة والشعب الذين لم يعتقلوا في المراكز الثقافية وإجبارهم على الرقص أمام الجماهر.
 
حملات تصفية العلماء لقد أقدم النظام الصيني على تصفية عدد من العلماء والدعاة كان آخرهم الشيخ عبد الأحد المخدوم وهو عالم جليل عاش في السجن حوالي ثلاثين سنة، وعندما بلغ سبع وثمانين من عمره قتل بطريقة التعذيب في سجون الصين ولا يعلم أهله أنه قتل إلا بعد ستة أشهر، لقد أفنى الشيخ حياته في سبيل الله قضى منها سنين كثيرة في السجن الذي لا يخرج من دخله إلا جثة هامدة أو مجنونا أو معطل الأعضاء أو يُغيب.
 
لقد عاش الشيخ سبعة وثمانين عاما لم يذق خلالها إلا مرارة العذاب من شرطة السجن، أو تعب الجهد في ريادة قومه إلى الإصلاح والدفاع عن الوطن الإسلامي، وتعرفه الأمة الإسلامية بشعاره المشهور "لا وجه لقوم بفخر شهدائهم حتى ينتصروا على أعدائهم"، وهو العلامة إمام الموحدين في ديار تركستان الشرقية رائد الإصلاح قامع الجهل والتخلّف عبد الأحد بن براءة المخدوم.
 
ولد عام 1931م في مدينة قاراقاش في محافظة خوتان في جنوب تركستان الشرقية في قرية دار السكال، وكان أبوه الشيخ براءة مشهورا بالعلم والتقوى وأمه كذلك، نشأ الشيخ في أسرة علمية في فترة كانت محافظة خوتان مركز لنشر العلوم الشرعية والحركات الإصلاحية والجهادية آنذاك، وعندما بلغ سن التعليم أرسل إلى أشهر المدارس هناك ودرس فيها من عام 1950-1958م. بعد إتمامه دراسته تصدر للتدريس وجلس ستة أشهر يعلم الناس ويربيهم لكن السلطات الصينية لمم تمهله كثيرا حيث تم اعتقاله في عام 1958م وحكم عليه بالسجن 12 سنة بتهمة من الحكومة الاحتلالية التي أعلنت يومها حملة أطلقت عليها "حركة التطهير لأصحاب المعارف والمدرسين"، وعذب الشيخ في هذه الفترة بأشد أنواع التعذيب، وبعد إكماله المدة لم يتم الإفراج عنه بل أجبر على العمل البدني الشاق، ولم يبق أمامه للنجاة من السجن إلا الفرار منه أثناء تكليفهم بأعمال بدنية فهرب منه بعد سنتين من انتهاء المدة المحكومة لتصبح فترة بقائه في السجن أربعة عشر سنة.
 
اعتقل الشيخ عبد الأحد مرة ثانية في عام 1979م، ثم أطلق سراحه بعد سنتين، ثم اعتقل في عام 2001م مرة ثالثة مع ابنه الشيخ عبد الرؤوف عبد الأحد وأطلق سراحهما بعد مدة وفرضت عليهما الإقامة الجبرية في بيتهما، ثم اعتقل مرة رابعة في عام 2004م أثناء تدريسه لطلابه في بيته وعمره 74عاما وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، وبعد أن أطلق سراحه فرضت عليه إقامة جبرية بحيث منعت علاقته بالمجتمع، وفي المرة الخامسة وهي الأخيرة اعتقل في 2017 حتى استشهد داخل السجن.

في بداية الثمانيات تحسنت الأوضاع السياسية هناك قليلا وظهر الشيخ في المجتمع كأستاذ مربي وعالم رباني للجيل الجديد، بدأ بالتدريس وتربية النُخَب من طلابه بطرق سرية، وسلك طريق التوسط في الأمور واستغل من الفرص المتاحة له أحسن استغلال، ورفع راية الصحوة الجديدة حارب الجهل والتخلف الذي خلفته القوات الاحتلالية ثلاثين سنة، واشتهر في البلد بالعلم والإصلاح مرة أخرى وصار مشعلا في ليلة ظلماء لأهل البلد وقائدا روحيا لهم، وتخرج من عنده مئات العلماء والدعاة من رموز الأعلام العلماء في داخل البلد وخارجها. وللقصة بقية..