كانت هبّة صادمة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم يكن يتوقع أن يتصدى جنرالات، ولو متقاعدين، لقراره بإنزال الجيش إلى الشارع. اعتراضهم شديد اللهجة الذي جاء بلغة التوبيخ، فرمل اندفاعه في هذا الاتجاه، ونقض تعامله مع تداعيات مقتل المواطن الأميركي الأعزل، من أصول أفريقية، جورج فلويد، خنقاً تحت ركبة شرطي، الاثنين الماضي.

وزاد من الصدمة أنه إثر ذلك، تراجع وزير الدفاع، مارك إسبر، ومعه رئيس هيئة الأركان الجنرال مارك ميلي، عن دعم فكرة الاستعانة بالقوات المسلحة لوقف التظاهرات في المدن الأميركية التي دخلت يومها التاسع. فالعسكريون تهيّبوا، على ما بدا، تسييس الجيش وعسكرة أزمة "ليست معالجتها من اختصاصهم"، وقد تؤدي إلى منزلقات خطيرة ومجهولة النتائج. رد فعل رادع ومفاجئ أربك البيت الأبيض، وقد يسبب له خسائر سياسية – انتخابية، نظراً لما يتمتع به أصحاب البذلة العسكرية من هالة لدى الرأي العام الأميركي، وقد يؤدي أيضاً إلى إطاحة وزير الدفاع.

من الأساس دعا الرئيس ترامب حكام الولايات إلى التشدد مع المتظاهرين، خاصة بعدما وقعت عمليات نهب وتخريب. ولوّح باستخدام القوات المسلحة لو تردد الحكام، وعندما اقتربت نار الحرائق من البيت الأبيض قبل يومين، أوعز على يبدو باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، بإرسال المزيد من قوات الحرس الوطني والشرطة العسكرية وعناصر من الفرقة 82، إلى مواقع وثكنات مجاورة لواشنطن بحيث تكون جاهزة للانتشار السريع عند الحاجة. القانون الذي يعطيه صلاحية التصرف بالجيش في الداخل غامض ويعود لسنة 1807، فهو يجيز له ذلك بناءً على طلب حاكم الولاية، لكنه في الوقت ذاته يفوض إليه التصرف إذا اقتضت ظروف معينة. أما في واشنطن العاصمة، فلا شروط على هذه الصلاحية، لأن المدينة غير تابعة لأي ولاية، وبالتالي بإمكانه استدعاء قوات عسكرية إلى شوارعها.

وقد ظهرت العربات المصفحة منذ أمس الأربعاء في نقاط معينة في محيط البيت الأبيض. وهناك سوابق، ولو قليلة، لهذا التدبير الاستثنائي، حيث استُعين بالقوات العسكرية لمواجهة الاضطرابات التي شهدتها مدن مثل لوس أنجلوس سنة 1965 و1992 ومعظم المدن عام 1968، إثر اغتيال الزعيم مارتن لوثر كينغ، وفي سنة 1970 لمواجهة التظاهرات المضادة لحرب فيتنام في جامعة كنت.

الآن يختلف الوضع. التظاهرات جاءت رداً على جريمة فاقعة في عنصريتها، وأتت على خلفية ممارسة مجحفة ومزمنة اتسم بها تعامل الشرطة مع أصحاب البشرة الداكنة إجمالاً. تضافر الاحتقان الدفين مع ضغوط اللحظة الكورونية الراهنة وتداعياتها، فجّر نقمة واسعة لم تهدأ حتى الآن.

الرئيس ترامب شدد على الحل الأمني بدلاً من الاحتواء. خيار يرضي قاعدته الانتخابية المناوئة لحراك الشارع. في حسابه، أن الطريق الأقصر إلى هذا الهدف تكون باستحضار القوة العسكرية، وقد مهّد لذلك باستقدام قوة أخلت الساحة المجاورة ليقوم بزيارة للكنيسة المقابلة للبيت الأبيض لأخذ صورة أمام مدخلها، وبصحبته وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، مرتدياً البذلة الميدانية. الرسالة من هذا الاستعراض، أن البنتاغون يسانده في اللجوء إلى العسكر.

لكن الزيارة ورمزيتها انقلبتا إلى نقيض غايتها. رجال الدين، ومنهم أسقف واشنطن للكاثوليك، حملوا على خطوة ترامب لتوظيف الكنيسة لغاية سياسية. وعلى الفور تلاحقت الانتقادات القارصة لجنرالات متقاعدين، منهم رئيس هيئة الأركان السابق مايك مولن، والجنرال ورئيس "السي أي إيه" السابق، مايكل هايدن، ثم وزير الدفاع السابق في إدارة ترامب الجنرال جيمس ماتيس، الذي كتب مقالاً شديد اللهجة بدا أقرب إلى محاكمة ترامب، قال فيه إنه "يهدد الدستور ويعمل على تقسيمنا"، كلام لم ينطق بمثله حتى يوم أقاله ترامب من منصبه.

وعلى أثر هذه الردود، سارع وزير الدفاع إلى عقد مؤتمر صحافي انقلب فيه على موقفه، مؤكداً أن "القوات المسلحة لا ينبغي تكليفها للسيطرة على المتظاهرين"، ثم لحق به رئيس هيئة الأركان، ببيان شدد فيه على أهمية "الدفاع عن الدستور الذي يكفل للأميركيين حق التعبير والتظاهر".

حتى الآن، لا ردّ من البيت الأبيض، لكن مهما كان جوابه، فقد خسر جولة العسكرة، ولو أصرّ على خيارها الموسع أو الضيق.