على العكس من رؤساء أميركيين سابقين ديمقراطيين أو حتى جمهوريين لا يعرف عن الرئيس الحالي دونالد ترامب أنه يرتاد كنيسة معينة في العاصمة واشنطن أو مدينة نيويورك التي نشأ فيها، وليس هناك ما يشير إلى انخراطه في أي ممارسة دينية مسيحية بانتظام، فقلما يحضر صلاة، لكن ترامب يعتبر نفسه منتميا لـ "الكنيسة المشيخية". ومن ثم كان لافتا زيارته مساء الاثنين كنيسة "سانت جون" القريبة من البيت الأبيض سيرا على قدميه وسط حراسة أمنية رئاسية مشددة.

وقف ترامب أمام الكنيسة لالتقاط الصور رافعا نسخة من الكتاب المقدس عند باب الكنيسة، قائلا "لدينا دولة عظيمة" قبل أن يعود أدراجه إلى المجمع الرئاسي وسط حراسته المشددة التي أخلت له الطريق من جموع المتظاهرين السلميين الذين احتشدوا أمام البيت الأبيض منددين بالعنصرية التي تجلت في جريمة قتل المواطن من أصل أفريقي جورج فلويد الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بعدما جثم شرطي بركبته على عنقه لمدة تسع دقائق في مدينة مينيابوليس.

الدوافع وراء هذه الزيارة سياسية فقد أراد توجيه رسالة للرأي العام الداخلي بأن الأمور ستعود لوضعها الطبيعي، كما أراد تعزيز موقفه من "أنتيفا" اليسارية التي تعادي الأفكار الفاشية والنازية واليمين المتطرف والتي يتهمها بالوقوف وراء الاحتجاجات ومن ثم طالب بتصنيفها جماعة إرهابية.

أراد ترامب أيضا التعبير عن غضبه بعد أن طال العنف -الذي شاب بعض الاحتجاجات- جانبا من تلك الكنيسة التاريخية، لكن الزيارة لم تكن موضع ترحيب القائمين عليها والذين تجاهلهم الرئيس. وقالت الأسقف ماريان إدغار بودي، من أبرشية واشنطن الأسقفية، إنها "غاضبة" بعد أن زار ترامب كنيستها دون إشعار مسبق لتبادل "رسالة معادية لتعاليم يسوع". وأضافت بغضب متسائلة "هل اعترف بألم بلدنا الآن؟!".

وغير بعيد عن الموقف السابق، انتقد مايكل كاري كبير أساقفة كنيسة سانت جون استخدام ترامب الكنيسة التاريخية لالتقاط الصور. وغرد على تويتر قائلا "لقد استخدم مبنى كنسياً والإنجيل المقدس لأغراض سياسية حزبية.. لقد ارتكب ذلك في وقت ألم وأذى عميق في بلادنا، وفعله لم يساعدنا".

الموقف الكنسي من مقتل فلويد عبر عنه مؤتمر أساقفة الولايات المتحدة عقب وقوع الجريمة مباشرة، وأصدر بيانا شديد اللهجة جاء فيه "نحن مكسورون ومشمئزون وغاضبون لرؤية فيديو آخر لأميركي من أصول أفريقية يموت أمام أعيننا" وندد الأساقفة بتكرار الجرائم المماثلة خلال الأسابيع الماضية، مشددين على أن "التعصب في الولايات المتحدة ليس أمرا من الماضي أو مسألة سياسية بحتة بل هو خطر حقيقي وحالي من الواجب التصدي له لا من خلال عدم المبالاة أو وسائل التواصل الاجتماعي بل من خلال الانفتاح التام والمحبة".

لكن صوت هؤلاء لم يجد صدى لدى ترامب الذي يفضل نوعا آخر من القساوسة، يعتمدون لغة أخرى تكيل له المديح دوما بل تعتبره مبعوثا للعناية الإلهية، مثل قول "حين تقول لا للرئيس ترامب، كأنك تقول لا للرب" على حد تعبير القسيسة باولا وايت، أبرز وجوه التبشير التلفزيوني الإنجيلي بالولايات المتحدة وهي المستشارة الروحية الخاصة لترامب الذي عينها على رأس " مبادرة البيت الأبيض للإيمان والفرص" رغم ما أثاره هذا التعيين من جدل يتعلق بتعارضه مع مبدأ فصل الدين عن الدولة.

وبدلا من إنشاء ترامب مجلسا استشاريا دينيا يضم مختلف المعتقدات، اختار إنشاء مجلس استشاري إنجيلي يضم 30 عضوا ليس بينهم عضو واحد من الكاثوليك أو البروتستانت أو اليهود أو المسلمين أو الديانات الأخرى.

الإنجيليون
ترامب يحيط نفسه على الدوام بمجموعة ضيقة من رجال الدين الإنجيليين الذين يمتدحون دعمه إسرائيل ومواقفه المحافظة اجتماعيا ولتعييناته القضائية حيث يرون أنه كانت هناك حملة ضد القيم المسيحية في البلاد بقيادة المحاكم اليسارية. ويرجح تقرير نشرته صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانية أن معظم علاقات ترامب الحالية مع القساوسة الإنجيليين قد تطورت فقط عندما فكر في الترشح للرئاسة.

تطورت تلك العلاقة رغم أن ترامب غير متدين واشتهر عنه أنه لا يعرف أي آية من الإنجيل، ولا يتمتع بالقيم الأخلاقية أو الدينية التي يدافع عنها المسيحيون المحافظون، وتناقض شخصيته الكثير من القيم المسيحية، فقد تزوج ثلاث مرات، وكان يمتلك نوادي ليلية، وارتبط اسمه بفضائح واتهامات بالتحرش والإساءات الجنسية، وتوالت عليه الاتهامات والدعاوى القضائية التي تصوره بأن له علاقات خارج نطاق الزواج، وأنه متهم بالتحرش والإساءات الجنسية.

سعى ترامب لاستمالة الإنجيليين بتعيين وايت مستشارة روحية له فأصبحت أول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تتلو الصلاة خلال مراسم تنصيب رئيس أميركي عند أداء ترامب اليمين عام 2017، تقول وايت "إن ترامب لديه علاقة شخصية مع الرب يسوع، إنه مفكر عميق". كما تقول في إحدى عظاتها على الإنترنت "حين أطأ أرض البيت الأبيض، فإن الرب يطأ أرض البيت الأبيض، ولدي كامل الحق والسلطة لأعلن البيت الأبيض أرضاً مقدسة، لأنني كنت أقف هناك، وكل مكان أقف فيه هو مكان مقدس".

مثل هذه التصريحات جعلت لها مكانة خاصة لدى ترامب ومن ثم اختارها لترأس فريقا من 35 قسيسا إنجيليا يعطي المشورة للرئيس الجمهوري الذي سبق ونال أصوات أغلب الانجيليين (81%) في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2016، وهي نسبة تفوق ما سبق وحصل عليه الجمهوري السابق جورج بوش الابن الذي عرف بتدينه وسلوكه المحافظ.

ترامب معتمرا القلنسوة اليهودية عند حائط البراق خلال زيارته للقدس (رويترز-أرشيف)
وحسب تقديرات "موقع أكسيوس" الأميركي يشكل الإنجيليون نحو 25% من الناخبين الأميركيين، ويقدر عددهم بنحو 64 مليون نسمة. وتشمل تسمية الإنجيليين الطوائف المسيحية البروتستانتية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، أبرزها إيمانها بمفهوم "الولادة الثانية" أو ولادة الروح.

كما يؤمن الإنجيليون بعودة اليهود إلى فلسطين وإقامتهم لدولة هناك، ويضعون نصب أعينهم دعم إسرائيل وتقويض أي حراك داخل المجتمعات العربية والإسلامية قد يمثل تهديدا لها بشكل أو بآخر، ومن ثم زارت وفود منهم السعودية ومصر خلال العامين الماضيين.

عام 2016 وعدهم ترامب في حملاته الانتخابية بأنه سيعترف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وسينقل سفارة بلاده اليها، وأوفى بعهده للإنجيليين، مما يدفع البعض للقول إن ترامب "غير المتدين هو حصان طروادة لليمين المسيحي" الذي يريد السيطرة على السياسة الأميركية.

ترامب خلال زيارته للفاتيكان ولقائه البابا فرانشيسكو (رويترز-أرشيف)
رأي البابا
مع بداية حملة ترامب الانتخابية الأولى عام 2016 وفي أوج تصريحاته اليمينية، قال بابا الفاتيكان فرانشيسكو -عقب زيارته للمكسيك في فبراير/شباط من نفس العام- إن ترامب "ليس مسيحيا" إذ كان يدعو إلى ترحيل المهاجرين وتعهد ببناء جدار بين مع المكسيك، معتبرا أن "الشخص الذي يفكر في بناء أسوار، في أي مكان، وليس في بناء جسور، ليس مسيحيا، فهذا ليس من الإنجيل" داعيا الولايات المتحدة إلى حل الأزمة الإنسانية على حدودها الجنوبية.

هذه التصريحات وصفها ترامب وقتها بـ "المخزية"، وقال "يجب على أي قائد، خاصة القائد الديني، ألا يشكك في دين وإيمان رجل آخر".  لكن البابا لم يتأخر عن تهنئة ترامب عقب توليه مهام منصبه ووجه إليه كلمات تحثه على "توسيع نظرته للقيم الإنسانية". وبعد أكثر من عام ونصف العام رد ترامب الزيارة وقابل بابا الفاتيكان للمرة الأولى في مايو/أيار2017.

وكان لافتا خلال الزيارة مشاغبة ترامب البابا بطريقة أثارت غضب الأخير حيث طرق بإصبعه على يد "الحبر الأعظم" خلال وقوفهما لالتقاط الصور التذكارية بالمقر البابوي، فقام الأخير بالرد عليه بضرب يديه بطريقة لافتة عكست استياءه. وقد سجلتها عدسات المصورين، وكذلك تجهم فرانشيسكو في اجتماعه مع الرئيس الملياردير، مقارنة مع تعبيرات وجهه خلال اجتماعات سابقة بالرؤساء الآخرين مثل باراك أوباما، حيث كان هناك اختلاف بالصورة لا يقل عن الاختلاف بين ترامب وأوباما في تقدير القيم الدينية.