محمد أبوغدير :

الخطأ : ضد الصواب ، وهو : ما لم يتعمد من الأفعال ، عكس الخِطْء : وهو الذي يتعمد .
المُخْطِئُ : من أراد الصواب فصار إلى غيره ، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي عمله .

لذلك كان كل بني آدم خطاء ، وقد قع من أصحاب النبي كثيرا من الزلات والأخطاء ، ومن ثم كان الإحسان والرفق واللين مع المخطئين - الذين يقعون في الخطأ ولا يتعمدونه - قيمة إنسانية راقية نحتاج أن نتقن فنها اليوم في مجتمعاتنا ، وذلك لا يتعارض مع مجاهدة الخاطئين وإنكار خطاياهم .

ولقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في تعامله مع المخطئين بأساليب مختلفة استطاع في كل مرة أن يكسب المخطئ في صفه ويقنعه بأنه مخطئ دون المساس بكرامته أو تحميله ما لا يطيق .

وفيما يلي ثلاثة أمثلة لحالات مختلفة من خطأ الصحابة رضوان الله عليهم ، نبين خلالها كيف كان هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع معهم  .

 

.
أولا : تعامله صلى الله عليه وسلم باللطف والتعليم مع من بال في المسجد :

 

روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَجُلا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ فِيهِ ، فَقَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعُوهُ لا تُزْرِمُوهُ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاةِ ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ شَنًّا وَتَرَكُوهُ " .

وفي هذه القصة بال الأعرابي في بيت من بيوت الله تعالى وهي محل الصلاة والذكر والدعاة ، وهي لاشك واقعة خطيرة ، فكيف تعامل رسول الله وصحبه الصحابة الكرامة مع فعل المخطئ :

 

أ - رأفته ولطفه صلى الله عليه وسلم بالمخطئ :

تعامل صلى الله عليه وسلم بالرفق الأعرابي المخطئ ، وهذه شيمته الدائمة ، روى الإمام مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " إنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ " .

ب - أمر صلى الله عليه وسلم بالكفِّ عن أذى المخطئ :

رغم أن رسول الله صلى الله لم يعب على أصحابه إنكارهم على الأعرابي فعلته ، إلا أنه أمر بأن لا تقطع بولته ، وبذلك دفع صلى الله عليه وسلم أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وهيَّ النَّجاسة التي وقعت بالفعل ، ﻷن إيقاف البول فيه مفسدة على البائل .

ج - تعليم المخطئ وتوجيهه لتعظيم المساجد :

لم يكتف صلى الله عليه وسلم بالرفق بالأعرابي وكف الأذى عنه وإنما وجهه إلى وجوب احترام المساجد وتنزيهها عن الأقذار ، بقوله صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا البول ولا القذر .

د - الرسول قدوة للمعلمين والمربين :

وهكذا ينبغي أن يقتدي كل معلم ومرب ومسئول في كل عصر ومصر، برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، وبالآداب الكريمة مع الناس، حتى ولو وقع منهم سلوك مشين، كما وقع من هذا الأعرابي.

.
ثانيا : تعامله صلى الله عليه وسلم بأسلوب العفو والصفح مع حاطب :

روى الإمام البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال بشأن مواجه الرسول صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بأمر كتابه إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ،

فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ، ما هذا ؟ ،

قال: يا رسول الله لا تعجل عليَّ ، إني كنت امرءاً ملصقا في قريش (كنت حليفا) ، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين، من لهم قربات يحمون أهليهم وأموالهم ،

أحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم ، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ،

فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقكم .

فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ،

فقال صلى الله عليه وسلم : إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم   . (

فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، إنه حاول أن يكشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها ، فكيف تعامل رسول الله مع فعل المخطئ .

أ - عدم التسرع في إصدار الأحكام :

فحينما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن حاطباً خان الله ورسوله ) ، أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحاطب وسأله، ليتثبت منه ويستمع له، ويعرف عذره، في مصارحة ووضوح، ويعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا حاطب ، ما هذا؟

ب - الاستماع إلى رأي المخالف ، ومحاولة إقناعه :

وذلك في مراجعة عمر ـ رضي الله عنه ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: ( إنه خان الله ورسوله والمؤمنين )، واستماع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له، ورده عليه بقوله عن حاطب : ( صدق ، لا تقولوا له إلا خيرا )،ومرة أخرى: ( لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم )، ولم يعنف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمر لأنه خالفه ، مع أنه رسول مؤيد بالوحي .

ج - إقالة ذوي العثرات :

فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاطب من زاوية خطأه السالف بيانه فحسب ـ وإن كان جريمة كبرى ـ وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزازه لدينه ، فوجد أنه قد شهد بدراً ،
فعامل صلى الله عليه وسلم المخطئ معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل من ماضي حاطب سببًا في الصفح عنه ، ليس إقرارا لخطئه ولا تهوينا من زلته ، ولكنها مع الإنكار عليه ونصحه ، يتضمن إنقاذا له بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله .

ء - أدب الصحابة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم :

طلب عمر رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم قتل حاطب ، ولهذا الطلب ما يبرر ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم رفضه معللا رفضه بأن المخطئ من أهل بدر ، وفي هذا الرد ما فيه من معان يعرفها عمر ، فسكت عمر دون أن أن يجادل في رأيه ويصر عليه .

ه - النظرة المتكاملة ﻷصحاب الأخطاء :

وهكذا كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوبا تربويا بليغا - يتضمن توجيها للمسلمين أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم ، في مجال الدعوة والجهاد والعلم والتربية .

.
ثالثا : تعامله صلى الله عليه وسلم مع خطأ أبي ذر بأسلوبي العتاب والتأنيب :

روى البخاري عن أبي ذر قال : "سببت رجلاً فعيّـرته بأمه قال له : يا ابن السوداء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا ذر، أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية .
فبكى أبو ذر .. وأتى الرسول عليه السلام وجلس ، وقال يا رسول الله استغفر لي ، سل الله لي المغفرة ، ثم خرج باكيا من المسجد ، وأقبل بلال ماشيا ، فطرح أبو ذر رأسه في طريق بلال ووضع خده على التراب ،

وقال : والله يا بلال لا ارفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك ، فأخذ بلال يبكي .. وأقترب وقبل ذلك الخد ثم قاما وتعانقا وتباكيا.

وكذلك كان الخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، فكيف تعامل مع رسول الله مع فعل المخطئ .

أ – أسلوب العتاب والتوبيخ هو المناسب لهذا الخطأ :

الخطأ الذي ارتكبه أبو ذر لا شك جسيم إذ تمثل في تعييَّر الرجل بسواد أمه ، مخالف بذلك قيم المساواة بين الناس دون النظر إلى الجنس أو العرق أو اللون أو الثروة ، ومن ثم كان عقاب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بالتوبيخ والتأنيب هو الأسلوب الأمثل على الفعل كعقاب توجيهي ، دون إسفافٍ ولا إسراف .

ب - الرسول القائد صلى الله عليه وسلم يرتقي بأصحابه :

قرب النبي صلى الله عليه وسلم كل أصحابه إليه ، ورفع قدرهم جميعا بحسن تربيته لهم على عزة المؤمن وكرامته التي لا تهان ولا تنتهك ، فلم يرتض بلال بأن يعيره أبا ذر بسواد أمه ، فاستعمل حق الشكوى ووجد في قائده وزعيمه صلى الله عليه وسلم ملاذاً قريباً يشكو إليه ، ووجد - كذلك - اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشاكيته ، وأقنعه بالعقوبة التوجيهية التي نالت المشكو في حقه .

ج - الرسول صلى الله عليه وسلم ينتصر لحقوق الإنسان وكرامته :

حيث أن الإسلام أقر حق المساواة ونبذ العنصرية والطبقية ، وألغى الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو العرق أو اللون أو الثروة ، فقال صلى الله عليه وسلم في بيان هذه الحقوق : يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى" رواه أحمد .

.
وهكذا كان الحكمة البالغة التي تعامل بها الرسول صلى الله عليه وسلم مع المخطئين ، وأثرها البالغ في تربية النفوس وإصلاحها بموجب مناهج تربوية راقية ، وحري بنا أن نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- ونقتفي أثره مصداقا لقوله سبحانه وتعالى﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ سورة الأحزاب الآية 21 .