•  حفظ القرآن صغيرًا وتزوج وقاد الجيوش في العشرينيات من عمره

•  بدأ حكمه بإعادة تنظيم الجيش واختار أهل الصلاح لقيادته

•  أتم الله على يديه بعد القسطنطينية فتح بلاد الصرب ورومانيا وألبانيا والبوسنة

•  قال لابنه عند موته: "اعمل على نشر دين الله حيثما استطعت"


 - توطئة.

- الميلاد والنشأة.

- توليه الحكم وإصلاحاته في سبيل النهوض بالأمة.

- التنظيمات القضائية والإدارية.

- تعليمه.

- الإنشاء والعمران.

- الجيش والبحرية.

- الإصلاح طريق التقدم.

- فتح القسطنطينية.

- وفاته ووصيته.

توطئة

"لتُفتحنَّ (القسطنطينية)، فلنعم الأمير أميرُها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".. هكذا بشَّر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بفتح تلك المدينة، التي لم يكن أي عربي يحلم بأن تطأ قدمه إياها، وهكذا وصف النبي- صلى الله عليه وسلم- الأمير الذي سوف يتم الله على يديه فتح هذه المدينة، وبالفعل صدق النبي- صلى الله عليه وسلم- في بشارته، فقد أتمَّ الله على المسلمين فتح القسطنطينية، وكان القائد المسلم "محمد الفاتح"- فعلاً- "نعم الأمير أميرها".

بدايةً.. القسطنطينية التي ورد ذكرها في حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- هي مدينة ذات حضارة تقع في المدخل الشرقي لأوروبا على خليج (الدردنيل)، وكانت بمثابة البوابة الشرقية للنفاد إلى أوروبا.

وقد تكررت محاولات المسلمين لفتح هذه المدينة؛ من أجل نيل شرف تحقيق نبوءة النبي- صلى الله عليه وسلم- فمنذ عهد "عثمان بن عفان"- رضي الله عنه- والمحاولات مستمرة لفتح تلك البلاد؛ لكنَّ الله تعالى لم يُتمَّ فتحَها لا على يد "عثمان"- رضي الله عنه- ولا على يد الصحابي الجليل "معاوية بن أبى سفيان"، على مدار سبع سنوات كاملة، ذلك أنَّ بسالة جيش هذه المدينة في الدفاع عن أسوارها حالَ دون تحقيق هذا الحلم.

ومن بعد "معاوية" تسلم "سليمان بن عبد الملك" الراية، وبذل محاولات عدة لفتح هذه المدينة إلا أنَّ استبسال أهلها، وبُعد المسافة بين الجيش المسلم وقيادته في الشام، وقلة الإمدادات للجيش الإسلامي مع تدفُّق الإمدادات على أهالي مدينة القسطنطينية قد ساعدهم على الصمود في وجه الموجات المتكررة من هجمات المسلمين.

وفي العهد العثماني تكررت المحاولات وكانت أكثر شراسةً وقوةً، وقاد هذه المحاولات السلطان "بايزيد" الأول و"مراد" الثاني؛ مما مهد الطريق أمام مَنْ بعدهم لإتمام فتح المدينة، على يد القائد "محمد الفاتح"، الذي إذا ما تتبعنا سيرته نجد أن ما فيها من أحداث وعوامل قد أسهم في تشكيل شخصيته الفذَّة، وهو ما نحاول تتبعُه في السطور المقبلة.

الميلاد والنشأة

وُلد السلطان "محمد الفاتح" في 26 من رجب سنة 833هـ= الموافق20 من إبريل 1429م، في مدينة (أدرنه) إحدى المدن التركية عريقة الحضارة، وهو ابن السلطان "مراد الثاني ابن السلطان محمد جلبي ابن السلطان بايزيد الأول" أحد سلاطين الخلافة العثمانية، وقد نال الرعاية والاهتمام منذ الصغر فأحضر له والده المربِّين والمعلِّمين، الذين أحسنوا تنشئته وتعليمه، فكانت هذه التربية متعددةَ الجوانب متزنةً في أركانها.

وهكذا نشأ السلطان "محمد الفاتح" بجوار والده وتحت رعايته؛ إذ اهتم بتنشئته وتربيته جسميًّا وعقليًّا ودينيًّا؛ ومرَّنه على ركوب الخيل والرمي بالقوس والضرب بالسيف، وفي الوقت نفسه أقام عليه معلِّمًا من خيرة أساتذة عصره هو المُلاَّ "أحمد بن إسماعيل الكوراني"، الذي كان له الفضل في جعل السلطان "محمد" يختم القرآن الكريم وهو صغير السنِّ.

ومن علماء السلطان "محمد الفاتح" الشيخ "ابن التمجيد" الذي كان تقيًّا وشاعرًا يُحسن النظم بالعربية والفارسية، وكذلك الشيخ "خير الدين" والشيخ "سراج الدين الحلبي"، وكذلك دَرَس السلطان "محمد الفاتح" على يد معلمين آخرين في الرياضيات والجغرافية والفلك والتاريخ واللغات المختلفة، فأصبح مُجيدًا للغة العربية والفارسية واللاتينية والإغريقية إضافةً إلى لغته التركية الأصلية.

وبالرغم من أن "محمد الفاتح" وُلِد في قصر السلطان، وبيئة القصور ليست بالبيئة التي تساعد على تكوين شخصية متزنة، إلا أن الفاتح لم يتأثر بتلك العوامل، وساعده على ذلك والده الذي أحسن تربيته، وعهد في ذلك إلى الثِّقات من العلماء وإلى من اشتهروا في ذلك الوقت بالصلاح والتقوى.

ولقد تأثر "الفاتح" بمعلميه تأثرًا شديدًا، وكان لتنوع المصادر التي تلقَّى منها تعليمه وتربيته أن جعلت من شخصيته شخصيةً نموذجيةً، فكان شديد الذكاء ممتلئًا بالثقة بالنفس، يقظًا ولمَّاحًا، وبسيطًا في أموره، واستقباله للحياة، كما كان يترفَّع عن سفاسف الأمور، مهتمًا بأمور قلما تجد الشباب في سنِّه يهتمون بها، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة أو التمارين.

توليه الحكم وإصلاحاته في سبيل النهوض بالأمة

تزوَّج وهو في سن الواحدة والعشرين، وانتقل للعيش في ولاية (مغنيسيا) في سنة 854م وأصبح حاكمًا عليها، وفي شهر محرم من سنة 855 هجرية توفي والده فتولَّى الحكم وهو شاب في العشرينيات من عمره، وكان على قدر المسئولية، فبدأ حكمه بإصلاح الدولة وأركانها، وقام السلطان "محمد الفاتح" بأعمال جليلة لتنهض الدولة وتكون قادرةً على مواجهة التحديات المستقبلية، وهذه الإصلاحات كانت متعددة الجوانب، وشملت الجوانب التالية:

التنظيمات القضائية والإدارية

أنشأ الديوان، وهو الذي كان يجتمع فيه رجال الدولة كل يوم عدا أيام العطلات الرسمية، وكان يتألف من: الوزير الأعظم، ووزراء القبة، وقضاة العسكر، وقاضي "إستانبول" وقائد الجيش وبعض كبار رجال الدولة بحكم مناصبهم، وكان من مهامه الأساسية وضع القوانين المسيِّرة لشئون الدولة وفقًا لما يقرُّه الإسلام، كما كان- أيضًا- يهتم بوضع قوانين تنظيم العلاقات بين سكان الدولة من المسلمين وغير المسلمين كما يعدُّ قانون (نامة) من أشهر القوانين التي وضعت من خلال هذه الإصلاحات، ونصَّ صراحةً على جعلِ الدولة حكوميةً إسلاميةً.

تعليمه

اهتم "محمد الفاتح" بالتعليم اهتمامًا خاصًا، فحرص على إنشاء ما يشبه المؤسسات التعليمية المختلفة، التي تهتم بتخريج أجيال متعلمة تعليمًا جيدًا، وفي جميع المجالات الدينية والدنيوية، كما قسم التعليم إلى مراحل مختلفة على حسب السن واجتياز المرحلة، واهتم بطلاب العلم من حيث مجانية التعليم، كما كان يلحق بكل مدرسة أو مؤسسة تعليمية مطعمًا لإعداد الوجبات للطلاب ومستشفى للعناية بهم صحيًّا.

الإنشاء والعمران

شهد عهد "محمد الفاتح" نهضةً تنموية وعمرانية عظيمة، فقد أنشأ في عهده الكثير من المشاريع العمرانية التي تعد من أسبق المشروعات التي أنشأت في العالم، مثل مشاريع تنقية المياه، فأنشأ محطة لتحليه المياه كانت الأولى من نوعها في أوروبا وكانت تتميز بالطابع الإسلامي، مثل المستشفيات والقصور والمساجد والمكتبات العامة، التي يستشعر الناظر إلى تلك المشاريع الروح الإسلامية والذوق الرفيع.

الجيش والبحرية

بدأ "محمد الفاتح" حكمه بإعادة تنظيم الجيش واختيار قيادات جديدة ممن توسَّم فيهم الصلاح والعفَّة، وبدأ في عهده إنشاء مؤسسات للتصنيع الحربي لتزويد الجيش بما يحتاجه من مهام وعتاد وذخيرة، وأقام القلاع والحصون في المناطق ذات البعد الإستراتيجي، كما قسم الجيش إلى فرق محددة المهام والوظائف، كما أنشأ مؤسسةً للتعليم العسكري لتخريج التخصصات التي يحتاج إليها الجيش، مثل المهندسين والأطباء البيطريين والجغرافيين.

الإصلاح طريق التقدم

كانت هذه الإصلاحات تمهيدًا للفتح الكبير، فالتقدم والرقي نتيجة للإصلاح الذاتي ومراجعة النفس بهذه الإصلاحات التي قام بعملها "محمد الفاتح" وفقًا لتعاليم الإسلام، ورغبةً في إعلاء كلمة الله في أرضه، والعجب أن كل هذه الإنجازات العظيمة أتمها الله عليه، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره يضرب مثلاً للمتكاسلين الذين يتعللون بصغر السن أو قلة الخبرة.

فتح القسطنطينية

يُعد فتح القسطنطينية من الملاحم الإسلامية العظيمة التي تحاكَى بها التاريخ؛ ذلك أن هذه الملحمة العظيمة شهدت الكثير من الوقائع والمراحل المختلفة التي تدل على عظم هذا الفتح، فهذه المدينة كان من الصعوبة اقتحامها؛ نظرًا لموقعها الحصين، إذ كانت محاطةً بالمياه من أغلب جوانبها، كما أن السور الذي تحصَّن به حكامُ المدينة كان منيعًا بدرجة كبيرة.

ولقد كانت الإصلاحات المختلفة التي قام بها "محمد الفاتح" نقطة الانطلاق لفتح القسطنطينية هذا الفتح الذي يُعدُّ الحلم الأكبر الذي تمناه، وبذلك أصبحت الدولة قويةً وقادرةً على مواجهة خصومها وأعدائها من موقف القوة، فبدأ "محمد الفاتح" حصار المدينة في 13 من رمضان 805هـ، التي كانت تُمد بالمؤن والعتاد من جيرانها من نصارى أوروبا، ومن الكنيسة البابوية؛ لكن الجيشَ المسلم لم يقنط أو ييأس من فتحها، فثبت الرجال على الحق وقوِيَ عزمهم على اقتحام أسوار المدينة المنيعة.

نوَّع "محمد الفاتح" من خططه للتعجيل بالفتح ولتذليل الصعوبات التي تواجه جيشه، فاستخدم المدافع كبيرة الحجم التي استعان في تصنيعها بمهندسين من خارج دولته، كما تم نقل سفن الجيش المسلم برًّا، للالتفاف حول المتاريس والسلاسل التي وضعها البيزنطيون في مدخل ميناء القرن الذهبي لكي تعوق تقدم السفن المسلمة.

ثم جاء الهجوم الأخير بعد أن ضعفت المدينة من جراء القصف المتواصل من مدافع جيش المسلمين وبسالة جنود "محمد الفاتح" الذي أعدَّ لهذه المعركة الفاصلة عدةً عظيمة، ونظم جيشه تنظيمًا دقيقًا، وفي يوم 20 من جمادى الأولى 857 هـ= الموافق29 من مايو 1453م دخل جيشه مدينة القسطنطينية منتصرًا، فأنار الإسلام هذه المدينة بعد أن كانت متخبطةً في ظلام الشرك والظلم، وبعد الفتح تم بناء مسجد بالمدينة، وسُمِّي على اسم الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري"، الذي كان من الأوائل الذين كانت لهم شرف المحاولة الأولى لفتح هذه المدينة؛ إلا أنه توفِّي قبل أن تصل جيوش المسلمين إليها، وأوصى بدفنه في أقرب مكان يصل إليه الجيش للمدينة، كما تمَّ تغير اسم المدينة وأصبحت (إسلام بول) أي مدينة الإسلام، واتخذها "محمد الفاتح" عاصمةً لدولته، وكفَل لأهلها حرية العبادة وممارسة شعائرهم وعاداتهم دون قيد أو شرط.

وفاته ووصيته

لم يكتف "محمد الفاتح" بما حققه من إنجاز بفتحه للقسطنطينية؛ بل ذهب به طموحه وثقته بالله إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد جهَّز جيوشه لفتوحات أخرى وانطلقت جيوش الإسلام مكتسحة الشرق الأوروبي، فأتم الله على يديه فتوحات وانتصارات أخرى، ففتح بلاد (الصرب) وبلاد (المورة) و(رومانيا) و(ألبانيا) وبلاد (البوسنة والهرسك) ودخل في حرب مع (المجر)، كما اتجهت أنظاره إلى (آسيا الصغرى) ففتح (طرابزون)، وكان على وشك أن يفتح (إيطاليا) وجهَّزَ لها جيشًا كبيرًا إلا أن القدَرَ لم يمهله لكي يتم هذه الفتح، إذ توفي في ليلة الجمعة الخامس من ربيع الأول سنة 886هـ= الموافق 3 مايو 1481م.

وهكذا تُوفي "محمد الفاتح" لكنَّ آثارَه تبقى شاهدةً على ما قام به من خدمات للإسلام والمسلمين، محقِّقًا ما بشَّر به النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديثه: "لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".

وفي سكرات موته أخذ يوصي ابنه "بايزيد" بوصايا توحي في مدلولها بمدى صلاح هذا الرجل، إذ يقول له: "يا بني إن نشر الإسلام في الأرض واجبُ الملوك على الأرض، فاعمل على نشر دين الله حيثما استطعت.. يا بني اجعل كلمة الدين فوق كل كلام، وإياك أن تغفل عن أي أمر من أمور الدين، وأبعد عنك الذين لا يهتمون بأمر الدين، وإياك أن تجري وراء البدع المنكرة.. يا بنيَّ قرب منك العلماء، وارفع من شأنهم؛ فإنهم ذخيرة الأمة في المُلمَّات".