يعتبر فن كتابة المقامات التي ابتدعه الهمذاني من المحطات المهمة في الأدب العربي، والتي أسست لفن مترسخ يتجاوز حدود الزمن والمكان.
 

كتب الهمذاني مقاماته على شكل مزيج من الشعر والنثر مستخدما كافة أشكال البلاغة الكتابية من سجع وبديع، وتتناول أكثرها حال الحياة في ذلك الزمان في بغداد، بينما البعض يصف الحياة في أزمنة سبقت وقت بديع الزمان.
 

وتهدف المقامات إلى إعطاء دروس في الدنيا والدين بقالب فكاهي سهل الاستيعاب ولا يسبب الملل للقارئ، وهذا أحد أسباب خلود تلك المقامات، فحتى القارئ في يومنا هذا يمكن أن يستمتع بها ويستفيد منها.
كتب الهمذاني مقاماته بأسلوب الراوي، الذي يروي قصة للجمهور، وكان الراوي في مقاماته شخصية خيالية اسمها عيسى بن هشام، ويقص هو بدوره قصصا عن بطل المقامات أبو الفتح الإسكندري، الذي يصول ويجول ويقوم بكل ما هو غير عادي من أعمال الحيلة لكسب المال.
 

وتتضمن المقامات مناظرات في الدين ومواعظ وأحاجي شعرية، كما تقدم دروسا توعوية للناس لتحميهم من حيل اللصوص والشحاذين المكرة في ذلك الزمان.
 

ويرى أبو إسحاق الحصري بكتابه "زهر الآداب" أن الهمذاني قد أخذ فكرة مقاماته عن الأربعين حديثا لابن دريد. وكانت المقامة قبل الهمذاني تعني العظة كما ورد بكتاب "مروج الذهب" للمؤرخ العلامة المسعودي، بينما ذهب الجاحظ بمؤلفه "كتاب البلغاء" إلى وصف المقامة بأنها "الخطبة". إلا أن استخدام الهمذاني للفظ "المقامة" على ما أنشأه أصبحت الكلمة مرادفة للرواية والحوار الممتع. 
 

أنشأ الهمذاني حوالي أربعمائة مقامة لم يصل إلينا منها سوى 52 وما زالت تقرأ إلى يومنا هذا.
 

أما رسائل بديع الزمان، فهي صورة بلاغية اجتهد في تزويقها وتنميقها بأرقى الأساليب الكتابية البلاغية، وعددها 233 رسالة ووجه معظمها لشخصيات من ذوي الشأن. وتتراوح موضوعات رسائل الهمذاني بين مطالب شخصية، وأخرى عامة كالرسالة رقم 167 التي حدث فيها انتشار المذاهب الهدامة للدين الإسلامي ومحذرا من خطرها على الأمة، واصفا تلك المذاهب الخارجة عن الملة -وفق رأيه- بأنها "زندقة".
 

ونظرا للجهد الفائق الذي بذل في كتابة تلك الرسائل، فيمكن أن تعتبر أحد تحف الأدب العربي، واستشهد بها كبار الكتاب مثل الثعالبي وياقوت الحموي. أما ابن خلكان، فقد ذكره بكتابه "وفيات الأعيان"
وطبعت رسائل الهمذاني مرات عدة، بإسطنبول عام 1298 للهجرة (1881 للميلاد)، وبالقاهرة عام 1304 للهجرة (1887 للميلاد) على هامش خزانة الأدب لابن حجة، وعام 1328 للهجرة (1910 للميلاد) مرفقة بشروح للشاعر والأديب اللبناني محمد محمود الرافعي. وفي بيروت طبعت عام 1307 للهجرة (1890 للميلاد) مرفقة بشرح لإبراهيم أحدب الطرابلسي، وعام 1367 للهجرة (1948 للميلاد) وهي طبعة منقحة تضمنت شروحا للشيخ محمد عبده.
 

وقد تنبه المستشرقون الأوروبيون لأهمية ومكانة مؤلفات الهمزاني في الأدب العربي، وترجموها إلى اللغات الأوروبية، مثل سلفيستغ دو ساسي الذي ترجمها إلى الفرنسية وأي فون كريمير إلى الألمانية.
 

جدير بالذكر، أن مقامات الهمذاني أصبحت مدرسة أدبية تبعها العديد من الأدباء الكبار مثل الحريري البصري الذي توسع في بوصارت شهرته تضاهي تلك التي يتمتع بها مبتكر هذا السلوب الهمذاني.
 

كما استخدمها الأديب والشاعر اليهودي الأندلسي يهوذا الحريزي بكتابه "تحكموني" الذي يعتبر وكاتبه من أهم عناصر الأدب العبري الذي ازدهر بعهد الحكم الإسلامي وامتد إلى العصور الوسطى.
 

وفي العصر الحديث، أعاد الأديب اللبناني ناصيف اليازجي منتصف القرن الـ19 الميلادي إحياء أسلوب الكتابة بالمقامات، حيث استخدمها في تأليف كتابه مجمع البحرين.
 

حياته ونسبه


هو أبو الفضل أحمد بن سعيد بن يحيى بن بشر. ولد في همذان ببلاد فارس عام 358 للهجرة (969 للميلاد). ينتمي إلى أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت همذان، وكان بديع الزمان يفتخر بأصله العربي إذ كتب بأحد رسائله إلى أبي الفضل الأسفرائيني "أني عبد الشيخ، واسمي أحمد، وهمذان المولد وتغلب المورد، ومضر المحتد".
 

ويعتبر العرب المضريون من الأنساب العربية الأصيلة، ويرجعون إلى مضر الجد السابع للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
 

وقد تمكن بديع الزمان بفضل أصله العربي وموطنه الفارسي من امتلاك الثقافتين العربية والفارسية وتضلعه في آدابهما.
 

تتلمذ في همذان على يد عدد من النحاة وعلماء الدين أبرزهم أحمد بن فارس. تنقل في حياته بين عدد من المدن في بلاد فارس وما حولها. استقر فترة من الوقت في الري وكانت له منزلة خاصة عن صاحبها ابن عباد، ثم توجه إلى جرجان وحظي برعاية أبي سعيد محمد بن المنصور.
 

وفي عام 382 للهجرة (992 للميلاد) سافر إلى نيسابور، وهي الرحلة التي حققت له الشهرة والمجد، فرغم أنه دخل المدينة مفلسا خالي الوفاض لتعرضه للسلب على يد قطاع الطرق، فإنه حظي بمناظرة مع أبو بكر الخوارزمي أشهر أدباء وشعراء ذلك العصر، واستطاع بفضل فطنته وبلاغته وحسن عبارته التغلب والفوز في تلك المناظرة وهو ما حقق له المجد والشهرة.
 

وبعد وفاة الخوارزمي تبوأ الهمزاني مكان الرياسة وصار له حماة ومريدون في أنحاء عديدة من بلاد فارس مثل حاضرة خراسان وسجستان وغيرهما.
 

انتقل بعد ذلك إلى هيرات بأفغانستان، وتزوج من ابنة الحسين بن محمد الخشنامي، ولكنه لم يلبث أن مات بالسم عام 398 للهجرة (1007 للميلاد).