أكتب هذه السطور، بعد أربع ساعات من انتهاء المهلة، التي حددتها مبادرة عبد الفتاح السيسي، لوقف إطلاق النار (السادسة صباح الاثنين 8 حزيران/ يونيو)، مع الإعلان عن انتشار القوات المصرية على الحدود مع ليبيا، على نحو فسره كثيرون بأنه استعداد لمشاركة مصرية كبيرة في الحرب، وملاقاة "العدو" التركي على الأراضي الليبية، فهل يتورط السيسي في هذه الحرب فعلا؟!

لا يغيب عن مراقب أن هناك عملية تحريض للسيسي للمشاركة بالقوات المسلحة المصرية في الحاصل في ليبيا، بعد الانتصارات الكبرى لقوات الوفاق التي يرجع الفضل بلا شك فيها للجيش التركي. ويقف على رأس المحرضين بخوض الحرب ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وما المنشور الذي كتبه الدكتور عبد الخالق عبد الله بهذا الخصوص إلا كاشف عن حجم الطلب والإلحاح الإماراتي على السيسي، إذ طلب "عبد الله" من الجيش المصري التدخل، وباعتباره قادراً على ردع العدوان التركي، وقد اعتبره احتلالاً لأرض عربية، ولم ينس أن يذكر بأن الجيش المصري هو من أقوى عشرة جيوش في العالم!

اتفاقية الدفاع المشترك:

كلام من هذا القبيل قاله حفتر، الذي قال إنه قد يطلب تدخلاً من الجيش المصري، وقد ذكر باتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، ولا نعرف عن أي اتفاقية يتحدث، ومتى وُقعت، ومن وقعها من الجانب الليبي، هل العقيد القذافي؟ وهل يعتقد نفسه الامتداد الطبيعي له؟ مع أنه كان قد دُفع به أمريكيا لليبيا في فترة الثورة للمشاركة في القتال ضد القذافي، حتى يكون للأمريكان موقع من الإعراب في الثورة الليبية من خلاله!

في الواقع، إن اتفاقيات الدفاع المشترك لا تساوي الحبر الذي كتبت به، فيما يخص عالمنا العربي، وقد كانت مصر تربطها اتفاقية للدفاع المشترك مع العراق عندما شاركت بجيشها ضمن الجيوش الغربية في حرب تحرير الكويت ضد الجيش العراقي، وليس هذا هو الموضوع!

فعقلية صالح، رئيس برلمان طبرق، أعلن من القاهرة: "قد نضطر لطلب تدخل الجيش المصري".

وليس واضحاً تماماً إن كانت هذه مناورات تم الاتفاق عليها، أم أنها دعاية للتخويف وتحذير الطرف الآخر في ليبيا وربما تخويف حلفائه الأتراك أيضاً، أم أنها محاولة من حفتر وحليفه صالح ومعهما محمد بن زايد لدفع السيسي لخوض هذه الحرب، فلما فشل التحريض سراً، لم يكن أمامهم إلا "الغواية" المباشرة، لعله يندفع في هذا الاتجاه!

القاهرة حاضرة في الحرب الليبية، وإن كان من الواضح أنه حضور رمزي، لم يمكن القوات هناك من الانتصار لفرقة منها، لتعثر عليها القوات السودانية في عهد البشير. وقد قالت مصادر من الخرطوم، إن الجيش السوداني قام بتحريرها من الأسر، في حين أن المعلن في مصر أنها كانت تائهة في الصحراء الليبية وعَثر عليها الجيش السوداني مشكوراً!

وهو الخبر الذي سعت السلطات المصرية لعدم إذاعته، وسعت لدى الحليف السوداني ألا يتم الإعلان عنه، حرجاً أن يكون المنقذ للفرقة المصرية (التي هي من خير أجناد الأرض) هو الجيش السوداني. وقد رفض أهل الحكم في السودان طلبين مصريين: الأول، يتعلق بعدم إذاعة الخبر، والثاني هو السماح بوصول المجموعة للقاهرة مباشرة بدون المرور على الخرطوم، لكن السودان وجد نفسه أمام عملية تستحق الفخر، وبالتالي استغلها وإن ساير رواية أنها كانت تائهة في الصحراء، من خلال عدم تمسكه بروايته من أن الفرقة كانت واقعة في الأسر وقام الجيش السوداني بتحريرها!

وقد تبين أن الموجود في ليبيا ليس هو الجيش السوداني، ولكن عناصر من المليشيات التي تنتمي للجنجويد، تم الدفع بها في عملية أقرب إلى الاتجار بالبشر، من قبل زعيم قوات الدعم السريع، وبهذا العلم عن قوة التحرير أو العثور (أياً كان نصيب الصحة في أي من الروايتين)، يكشف عن أن وجود القوات المصرية هناك ليس كبيراً، وربما مجرد توسيع محدود للوجود القديم في ليبيا. إذ كانت الأجهزة الأمنية في مصر في عهد مبارك تقول مزهوة في الجلسات الخاصة، إنها تعلم عن ليبيا ما لا يعلمه نظام القذافي عنها، وذلك لكي تحرض السياسيين الذين كانت تربطهم علاقة موالاة بالقذافي، على عدم التستر على المعلومات المطلوبة، عن ما دار بينهم وبين العقيد الليبي في جلسات خاصة مثلا.

السيسي والهروب:

وها هي حرب تحرير المدن والمطارات في ليبيا، ومن الوطية إلى ترهونة إلى مطار بني وليد، ولم نسمع عن مواجهة تُذكر وتليق بوجود كبير للجيشين المصري والسوداني، والهروب الكبير، وترك الآليات العسكرية والأسلحة، والكتالوج الخاص باستخدامها، كاشف عن أنها مليشيات لا جيوشا، فهل يدخل السيسي بكل ثقله في الحرب الليبية؟!

إذا كان السيسي هو الطبعة الأكثر رداءة من الحكام العسكريين، فإنه مع هذا لا يتسم بواحدة من الصفات التي تميزهم عن غيرهم، وهي الحماس لخوض المعارك والتهور في الاندفاع إليها، والهروب من الفشل إلى المعارك الحربية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وحيث يستوجب وطنياً الالتفاف حول القائد!

ولأننا في ذكرى هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، فقد أعاد البعض نشر الصفحات الأولى للصحف في هذه الأيام، حيث يتضح من العناوين البارزة الهدف الأسمى من هذه الحروب وهو ضرورة الالتفاف حول القائد. هكذا تدعو العناوين، ثم عندما هُزم القائد، كان الانتصار في أن يندفع الشعب لتأييده وحمله على العدول عن قراره بالتنحي، ففي استمراره رسالة للعدو بأننا انتصرنا!

فالحروب بالنصر أو الهزيمة تمنح الحاكم العسكري شرعية من نوع خاص، بيد أن السيسي يخاف من فكرة التورط في الحروب، ربما لأنه ليس جنرالاً مقاتلاً، فلم يخض حروباً أبداً، فقد تخرج في الكلية الحربية بعد أن ألقت الحرب أوزارها، ولم يذهب أبداً إلى ميادين القتال التي شاركت فيها مصر باستدعاءات دولية، كحرب تحرير الكويت مثلاً، فتمكنه مشاهدة الحروب عن قرب! فضلاً عن أنه إنسان يحتاط دائما في خطواته، ويشغله حد الإرهاق سد الثغرات.

وهو يدرك أنه بدون مشروعية في الحكم، ويخشى من أن الحرب قد تقود إلى هزيمة وليس في كل مرة تسلم الجرة. فعبد الناصر كان يملك قبولا شعبياً واسعاً قبل الهزيمة، خلافاً لوضعه هو، وإذا وقعت الهزيمة، ومع عودة الجثامين لن يكون في قوته، وبالتالي فهو لا يضمن رد فعل الناس، وعليه فهو يأخذ بالأحوط، وبالنصيحة الغالية التي تلتزم بسد الباب الذي يأتي منه الريح!

ورغم الغواية، فلم يتورط في إرسال قوات إلى سوريا، أو إلى اليمن وفاء لوعد قطعه وهو يقول إن الجيش المصري لن يفصل بينه وبين الخليج سوى مسافة السكة، إذا تعرض أمنه للخطر، وكان بذلك يستبعد خيار الحروب، فلم يجد مانعاً من أن يقبض ثمن إحساس القوم بأن الجيش المصري تحت الأمر ورهن الإشارة، لكن عندما وقعت الواقعة تبين أن "السكة بعيدة" بعد المشارق عن المغارب!

ولولا الملامة، لنفض حليفاه السعودي والإماراتي أيديهما منه، لكنهما استثمرا فيه كثيراً، ولا يوجد لديهما بديل مضمون يمكنه تحقيق الحد الأدنى الذي يحققه لهما السيسي، حتى بدون التورط في الحروب!

إن الأزمة التي تواجه السيسي الآن، أنه مع الوجود التركي في ليبيا، لا يستطيع أن يخوض حرباً تلفزيونية بقوات محدودة، فإما أن يدخل الحرب بكل ما في الجيش المصري من قوة، وإلا يكون قد دفع بقواته لحتفها المؤكد إذا كانت المشاركة محدودة. ثم بالدخول الكبير هو لا يضمن انتصاراً، والهزيمة كما قلنا ستنال من فكرة وجوده على رأس السلطة، مما يحول دون تورطه في الحرب، حتى إن كان خوضها هي رغبة محمد بن زايد الملحة، فالشعار هنا: "يا روح ما بعدك روح"! اللهم إلا إذا كنا أمام لحظة من عدم التوفيق الإلهي، تدفعه للخروج عن السياق العام والتورط في الحرب، تعجيلاً لطوي صفحته، وإنهاء حكمه، إذا بدأت عملية دفع فاتورة الحرب من لحم الحي!

فسياق السيسي العام هو عدم التورط في الحروب، وإن كان سيستغل قصة الحفاظ على الحدود لأعمال الاستعراض، تماما كما تم الاستعراض العسكري لمواجهة فيروس كورونا في البداية!

فالمهم، اللقطة، بمعنى الصورة!