الانتصارات المتتالية التي حققتها حتى الآن قوات حكومة الوفاق الليبية في المنطقة الغربية والجنوبية والتي كان آخرها معارك تحرير قاعدة الوطية العسكرية تفتح شهية تلك القوات للحسم العسكري الكامل؛ بمعنى التقدم شرقا نحو بنغازي وما حولها بعد تطهير المنطقة الغربية ودخول أخر النقاط التابعة لحفتر وهي مدينة ترهونة، لكن هذه الانتصارات أيضا تفتح الباب للسياسيين للتحرك نحو حل سياسي للأزمة التي طالت واستطالت، وتسببت في سقوط مئات الليبيين قتلى ومصابين في المعارك، مع تشرد عشرات الآلاف منهم سواء داخل البلاد أو خارجها، كما حدث في بلدان الربيع العربي الأخرى حيث المعارك المفتوحة مع قوى الثورات المضادة.

 يوقن الفاعلون الرئيسيون في ليبيا أن الحسم العسكري ليس هو الحل للأزمة الليبية بسبب هشاشة توازنات القوى التي تميل لهذا الطرف حينا، ولذاك حينا آخر، والتي ترتبط بالدعم العسكري والسياسي الخارجي لكل طرف، كما ترتبط بتوازنات دولية في ملفات كثيرة متشابكة، تدفع هذا الطرف أو ذاك للتصعيد حينا والتهدئة حينا.

صحيح أن هؤلاء الفاعلين أو المتصارعين يعلنون أحيانا أنه لا حل إلا بالحسم العسكري، لكنهم يقولون ذلك عندما تتعثر جهود التسوية السلمية من ناحية أو عندما يتمكنون من تحسين وضعهم العسكري على الأرض من ناحية ثانية، وحين يفقدون هذه الميزة فإنهم يعودون إلى حديث الحل السياسي، كما فعل اللواء خليفة حفتر مؤخرا..

فبعد أن دعا الشعب للتظاهر لإنهاء الاتفاق السياسي، وتفويضه في إدارة البلاد، وبعد أن أعلن تنصيب نفسه حاكما (بقرار فردي) وبعد أن اعتمد طوال ست سنوات مبدأ الحسم العسكري إذ به يتراجع الآن، ويدفع متحدثه العسكري لإعلان هدنة ووقف العمليات من جانب واحد ( لم ينفذ ذلك عمليا) ..

وإذ بالوجه السياسي البارز في المنطقة الشرقية عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق يعلن عن مبادرة للحل السياسي تقوم على فكرة إعادة هيكلة المجلس الرئاسي ليضم 3 شخصيات يمثلون مناطق ليبيا الثلاث (برقة وطرابلس وفزان) وكتابة دستور جديد تعقبه انتخابات برلمانية الخ ( ورغم أن هذه المبادرة تتضمن بعض الفخاخ ومنها طريقة اختيار ممثل كل إقليم بما يهيئ الأرضية للانفصال لاحقا، وكذا منح حفتر دور الوصاية في تعيين وزير الدفاع)؛ إلا أن أطرافا دولية اعتبرتها مبادرة قابلة للنقاش، بل إن فايز السراج رئيس حكومة الوفاق أعلن قبوله للحلول السياسية، وجاء هذا الإعلان في لحظة انتصار بعد تحرير مدن الساحل الغربي وبعد بدء عملية تحرير قاعدة الوطية العسكرية، وأشار في تصريحاته إلى القبول بفكرة إعادة هيكلة المجلس الرئاسي مع تعيين حكومة (غير المجلس الرئاسي) وهي جزء من مبادرة عقيلة صالح، كما أعلن قبوله إعادة النظر في الاتفاق السياسي (اتفاق الصخيرات بالتعديل أو حتى الاستعاضة عنه باتفاق جديد) أو العودة إلى الشعب في انتخابات جديدة وهي جوهر التحرك الجزائري.

التربة مهيأة:

أعلن السراج إذن قبوله للحل السياسي وهو في لحظة انتصار، وهو ما يفتح الباب لتحركات سياسية إقليمية ودولية مجددا، حيث أصبحت التربة مهيأة للحل السياسي، بعد انكسار خليفة حفتر ومن خلفه كل من الإمارات وفرنسا ونظام السيسي، وبعد انتظام وصول الدعم العسكري التركي الذي تم باتفاق علني مع حكومة الوفاق (على العكس من الدعم العسكري المصري والإماراتي والفرنسي الذي يتم بصورة غير مشروعة لقوات حفتر).

وهنا تثور الأسئلة من هي الجهات التي يمكنها التحرك للتسوية في ليبيا، ومن سيكون الأكثر قبولا بينها لدى الليبيين؟ وما هي ملامح هذا الحل السياسي المقبول؟

في اعتقادي أن الحل لن يكون بعيدا عن تركيا هذه المرة بعد حضورها القوي على الساحة الليبية، وكذا الجزائر التي جدد رئيسها عبد المجيد تبون مؤخرا اهتمام بلاده بالملف الليبي، واستعدادها للوساطة مجددا بعد أن تدخلت أطراف دولية لإفشال وساطتها السابقة، وتبدو الجزائر حاليا وسيطا مقبولا من طرفي الصراع في ليبيا، وقد أوفدت وزير خارجيتها قبل شهرين إلى ليبيا والتقى بالأطياف المختلفة، ولكن خرق حفتر لاتفاق الهدنة الذي أقره مؤتمر برلين، واعتراض الولايات المتحدة على تعيين مبعوث أممي جزائري عطل المهمة، وينطلق اهتمام الجزائر من كونها صاحبة حدود تمتد لحوالي ألف كيلو متر مع ليبيا، وأنها تتأثر بالتطورات في ليبيا إن سلبا او إيجابا، كما أن الجزائر هي الدولة الكبرى في اتحاد المغرب العربي الذي يضم ليبيا أيضا.

الاحتمال الأكبر هو أن يجري عقد مؤتمر دولي بحضور الأطراف ذات الصلة بالشأن الليبي في إحدى تلك الدول (ربما روسيا أو ألمانيا أو الجزائر) وعلى الأرجح سيضم هذا المؤتمر داعمي طرفي النزاع في ليبيا سواء تركيا وقطر وروسيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ومصر والإمارات بالإضافة إلى دولتي الجوار الغربي تونس والجزائر وربما المغرب.

سيناريوهات الحلول المطروحة تتأرجح بين التوافق أو العودة إلى الشعب (انتخابات جديدة) والحقيقة أن الانتخابات تبدو هي الحل المثالي، شريطة أن تتوفر لها البيئة المناسبة، وشريطة وجود حالة استقرار سياسي وأمني وهذا ما تفتقده ليبيا في لحظاتها الحالية حيث أن حروب السنوات الست الماضية تركت ندوبا كثيرة في الجسد الليبي، والحالة الأمنية لا تزال غير مناسبة للانتخابات، كما أن الانتخابات حتى لو جرت في ظل رقابة دولية فإن قبول نتائجها من الأطراف المختلفة يبقى أمرا مشكوكا فيه، وخاصة حين لا يحصل فريق ما على تمثيل نيابي مقبول منه، بينما يمتلك هذا الفريق السلاح الذي يستطيع به أن يحقق ما عجز عن تحقيقه بالانتخابات، وبالتالي فإن التوافق يبقى هو الحل السحري، والتوافق يأتي من خلال جلسات حوار جدي وعقلاني، وعبر قناعة كل الأطراف باستحالة الحسم العسكري، ومن ثم فإن من الضروري التوصل عبر الحوار إلى صيغة مقبولة لاقتسام السلطة والثروة، وخارطة طريق لمرحلة انتقالية يعقبها عملية ديمقراطية تامة عند حدوث الاستقرار السياسي والأمني.

نقلا عن "الجزيرة مباشر"