خمس سنوات مرت على أبشع وأكبر مذبحة بشرية شهدتها مصر عبر تاريخها كله، إنها "رابعة" التي جرت مذابحها أمام أعين الجميع، سواء حضورا في المكان أو مشاهدة عبر الشاشات يوم 14 أغسطس من العام 2013. ورغم مرور خمس سنوات على تلك المجزرة التي شاهد الجميع فيها الجناة متلبسين بجريمتهم، إلا أن تحقيقا محليا أو دوليا لم يفتح، ولم يقدم جان واحد للعدالة، وعلى العكس من ذلك، تم تقديم مئات الضحايا المعتصمين السلميين لمحاكمات صورية حكمت على بعضهم بالإعدام وعلى بعضهم بالسجن.


أمام التفاوت الكبير في روايات أعداد ضحايا المجزرة بسبب غياب الشفافية، ورغبة السلطات في طمس الجريمة، حيث وضعها البعض في خانة الآلاف بينما حرصت السلطات الرسمية على تنزيلها إلى خانة المئات، دعونا نبتعد عن مشكلة الأرقام، فحتى لو كان القتلى مئة أو حتى عشرة فقط، فهذه جريمة ضد الإنسانية. لقد كان القتل عمدا مع سبق الإصرار ضد مدنيين عزل مسالمين، لم يتجمعوا لسرقة بنك أو اغتصاب أرض، بل تجمعوا للدفاع عن إرادتهم وحريتهم ووطنهم، ولذا كان من الضروري التحرك دوليا - بعد العجز عن ذلك محليا - لمحاكمة النظام الانقلابي عن هذه الجريمة التي لا تسقط بالتقادم. فالفقرة الأولى من المادة 7 من نظام روما المؤسس للمحاكمة الجنائية تصنف ما حدث باعتباره" جريمة ضد الإنسانية"، والمادة 15 من الاتفاقية ذاتها توجب على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مباشرة التحقيق في هكذا جرائم.
 
وحسنا تفعل بعض المنظمات الحقوقية المحترمة بإعادة فتح الملف وتحريكه دوليا، بدعوة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بضرورة تبني فتح تحقيق دولي جاد ومحايد بشأن تلك المجزرة والوقوف على الجناة الحقيقيين، ومنع إفلاتهم من العقاب، واعتبار يوم 14 أغسطس من كل عام يوما عالميا لضحايا اعتصام رابعة وكل ضحايا الاعتصامات السلمية في العالم.
 
وفقا لرواية هيومن رايتس ووتش (التي قدرت أعداد القتلى بـ817 كحد أدنى، مشيرة إلى تجاوز هذا العدد بعد ضم العديد من الجثث غير المسجلة في البيانات الرسمية للمستشفيات)، "فإن هذا الاستخدام المتعمد، عديم التمييز للقوة المميتة، يشير إلى واحدة من كبرى وقائع قتل المتظاهرين في العالم في يوم واحد، في التاريخ الحديث". وعلى سبيل المقارنة، تشير المنظمة إلى (أن القوات الحكومية الصينية قتلت ما بين 400 و800 من المتظاهرين على مدار فترة 24 ساعة في مذبحة ميدان "تيانانمين" يومي 3 و4  يونيو 1989، وقتلت القوات الأوزبكية أعداداً مماثلة تقريبا في يوم واحد أثناء مذبحة "أنديجان" عام 2005")، ما يعني أن أعداد قتلى مذبحة رابعة فاقت مذبحتي تيانانمين وأنديجان، وبالتالي كان واجبا على العالم الحر أن يتحرك من أجل ضحايا رابعة كما تحرك في هاتين المذبحتين، وهو ما لم يتم.
 
خلال السنوات الخمس الماضية كانت ذكرى رابعة حاضرة عبر العديد من الوقفات والمؤتمرات في العديد من العواصم، وستظل حاضرة لعقود مقبلة عن طريق من شاركوا فيها، ولا يمكنهم نسيان أحداثها، فقد كانوا جميعا مشاريع شهادة تحت وابل الرصاص الحي من كل مكان، ولكن الخشية أن تدخل الذكرى حيز النسيان بعد وفاة من عاصروها، ولذا فمن الضروري تخليدها بما يبقيها حاضرة دوما في الذاكرة المصرية والعالمية. وقد كانت هناك محاولة لبعض النشطاء السياسيين والإعلاميين ممن شهدوا رابعة لإطلاق جوائز سنوية تخلد هذه الذكرى. ولكن الفكرة لم تكتمل بسبب القصور المالي، إذ كان المقترح هو تأسيس وقف خاص ينفق من ريعه على تلك الجوائز في الفروع المختلفة، سواء الفنية أو الإعلامية أو الأدبية.. إلخ. ولا تزال الفكرة قائمة، تنتظر من يحركها مجددا، ويوفر لها احتياجاتها المالية.
 
لا تسقط الجرائم ضد الانسانية بالتقادم، فمهما طال الزمن ستأتي حتما ساعة حساب، ومهما بذلت السلطة من جهد في طمس الجريمة، فإن الجناة معروفون بالاسم والرسم (وهم وفقا لتقرير هيومان رايتس ووتش)  عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع حينئذ والقائد العام للقوات المسلحة؛ التي فتح ضباط وجنود منها نيرانهم على المعتصمين وأردوهم قتلى، كما أن السيسي أقر بقضاء "أيام طويلة للتناقش في كافة تفاصيل فض رابعة".. ومحمد إبراهيم وزير الداخلية الأسبق، الذي صاغ خطة الفض وأشرف على تنفيذها، وأقر بأنه "أمر القوات الخاصة بالتقدم وتطهير" مبان محورية في قلب منطقة رابعة.. ومدحت المنشاوي، رئيس وقائد القوات الخاصة في عملية رابعة؛ الذي تباهى بإبلاغ الوزير إبراهيم من منطقة رابعة في صباح 14 أغسطس "سنهجم مهما كلفنا الأمر".. ورئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق، محمد فريد التهامي، وثمانية من كبار مساعدي وزير الداخلية، وثلاثة من كبار قادة الجيش، والعديد من القادة المدنيين رفيعي المستوى، الذين قالت "هيومان رايتس ووتش" إن أدوارهم في القتل الجماعي للمتظاهرين في  يوليو وأغسطس تستحق المزيد من التحقيق. وإذا ثبت تواطؤهم في تخطيط عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين أو تنفيذها أو الإخفاق في منع الجرائم التي ارتكبها مرؤوسوهم، وكانوا يعلمون أو ينبغي لهم العلم بأمرها، فإن محاسبتهم واجبة كذلك.
 
بعد مرور خمس سنوات على تلك المجزرة الكبرى، لم يتم تقديم أي متهم عنها للعدالة، بينما تستكمل السلطة عقابها للمعتصمين المدافعين عن الحرية. فمن لم تطله الرصاصات الحية، يتم تقديمه لمحاكمات هزلية تقضي بإعدامه ليلحق من سبقوه، أو تحكم بحبسه ليقضي ما تبقى من عمره في السجون. فبالإضافة لبعض القضايا السابقة الخاصة برابعة والنهضة، ها هي محكمة جنايات القاهرة تحيل أوراق 75 معارضا إلى المفتي لإبداء رأيه الشرعي في إعدامهم، مع تحديد موعد يوم 8 سبتمبر المقبل للحكم النهائي في القضية برمتها، والتي تضم 739 متهما. والغريب أن السلطة التي قتلت وحرقت الجثث، كما حرقت المسجد والمركز الطبي، تتهم المعتصمين أنفسهم بذلك بكل بجاحة، متوهمة أنها قادرة على طي صفحة رابعة بهذا المشهد العبثي، ومتجاهلة أن الأرض لن تشرب الدماء، وأن الدماء لن تستحيل ماء، وأن شعب مصر لن ينسى المأساة، وأن محاكمة الضحايا لن تنجي الجناة.