عامر عبدالمنعم

لم يكن اختيار وزير الإسكان الدكتور مصطفى مدبولي رئيسا للوزراء بحكومة الانقلاب إلا تعبيرا عن التوجه الجديد للحكومة وهو التركيز على بيع الأراضي والمتاجرة في العقارات، واختزال النشاط الحكومي في هذا المجال الاستثماري وترك الواجبات الأساسية ومواجهة التحديات التي تهدد وجود الدولة المصرية مثل نقص المياه والانهيار الاقتصادي والتردي السياسي والأخلاقي.

لا يخلو مؤتمر رسمي عن الإنجازات من الحديث عن المدن المليونية حتى فوجئنا بأن ما يتحدثون عنه مجرد مدن سياحية معروضة للبيع للأجانب والطبقة المترفة التي تمثل نسبة 1% بينما لا يوجد شيء للمواطنين المصريين، وكانت الأسعار المعلنة للوحدات التي تبيعها الحكومة لا تقل عن مليون جنيه!

أسعار الشقق في العاصمة الإدارية التي استنزفت المليارات تؤكد أنها مدينة للأثرياء والمستثمرين الأجانب ولا مكان فيها للبسطاء، ونفس الأمر في مدينة العلمين الجديدة التي قالوا عنها إنها مليونية فوجئنا أنهم بنوا الساحل بالأبراج ويعرضون الوحدات للبيع حيث سعر الشقة التي لا تزيد مساحتها عن 90 مترا بلغ 250 مليون جنيه.


هذه الأسعار التي تبيع بها الحكومة تسببت في رفع أسعار العقارات إلى أرقام فلكية بشكل عام في السوق العقاري، وتؤكد الإعلانات التي نراها للشركات العقارية أن مجتمعا جديدا للقلة يتشكل على حساب أغلبية الشعب المصري، وأصبح حلم حصول أي شاب مصري على شقة من المستحيلات.


لم يتوقف السلوك الحكومي عند بناء المدن السياحية وإنما امتد ليشمل تهجير السكان من المناطق المميزة لصالح الاستثمار العقاري كما حدث في مثلث ماسبيرو الذي تم تهجير سكانه لصالح شركات سعودية وكويتية، وتضييق الخناق على سكان جزيرة الوراق لطردهم لتحويل الجزيرة إلى مارينا للمستثمرين لكن تماسك السكان والارتباط العائلي يعوق التهجير الذي تقف خلفه الحكومة حتى الآن.

وظائف المدن
في كل العالم قديما وحديثا تخضع عملية تخطيط المدن للدراسة؛ فقديما كانت الوظيفة الحربية هي الأبرز في اختيار أماكن المدن، وكانت تبدأ بالقلاع التي سرعان ما تتحول إلى مدن، ولكن مع التطور واتساع الدول أصبح التخطيط العمراني علم؛ فللمدن وظائف أخرى اقتصادية وتجارية وإنتاجية وسياحية وترفيهية وعلاجية ودينية وتاريخية وإدارية.


وتخطيط المدن مرتبط بخطط التنمية، وهو أكبر من أن يحدده وزير واحد أو وزير ورئيس، فالتخطيط لبناء مدينة مليونية في صحراء أو على البحر بدون وجود عوامل إنتاجية حقيقية تساعد على الحياة فإن هذا التفكير لا يكون سوى تبديد للأموال وتضييع فرص وجهود كانت ستفيد في مكان آخر.


التخطيط العمراني يجب أن يستوعب الزيادة السكانية وتوزيعها على مساحة الدولة؛ فالمدن تقام بجوار المناجم وأماكن التعدين، أو على ساحل البحر في نقطة لها أهمية تجارية أو ميزة متعلقة بالنقل البحري أو بالصيد أو بمناطق الصناعة والجامعات، كما أن هناك نظريات هندسية في توزيع المدن، تراعي الكثافة السكانية وطرق المواصلات ومصادر المياة وإمدادات الغذاء.


في مقدمة الاعتبارات عند اختيار أماكن المدن البعد الاستراتيجي، فلا يمكن لدولة أن تتجاهل العدو وهي تضع خطط العمران، فبالنسبة لمصر حيث الخطر التاريخي يأتي من سيناء التي مر منها كل الغزاة لا يمكن للمخطط الاستراتيجي أن تكون كل مشروعاته في الشرق مدن وقرى سياحية، فالتركيز على السياحة في هذا الاتجاه ضد مصالحنا الاستراتيجية، لأنها موسمية ولا يترتب عليها إقامة مجتمعات دائمة.


أي تخطيط لشرق مصر لا يركز على التمدد السكاني الشعبي لتخفيف الضغط على الوادي، ولسد الفراغ الذي يغري العدو فهو يخدم الاستراتيجيات المعادية، ولأسباب أمنية يجب أن يكون التمدد أفقيا، وليس بناء الأبراج والبنايات العالية، وفوق ذلك ينبغي أن تقدم الدولة الإغراءات لجذب المواطنين لزرع الأرض بالبشر حتى سيناء وساحل البحر الأحمر.


ما نقوله يخالف ما نراه من تفريغ سكاني في الشرق والذي يظهر بشكل مفزع في سيناء حيث تدور حرب لا نهاية لها، ولا أحد يبحث عن وقفها مما يمهد لتنفيذ خطة الصهاينة المعروفة بصفقة القرن، بزعم استيعاب سكان غزة بعد طردهم من فلسطين.

لا سياسة سكانية!
إن السياسة السكانية في دولة يزيد عدد مواطنيها عن المئة مليون نسمة لا يمكن التعامل معها باستخفاف كما نرى، ومن الواضح أن هناك فهم خاطيء في التعامل مع السكان يفصل بين العنصر البشري والأرض، لدرجة أن ينظر إلى الملف على أنه يقتصر على تنظيم الأسرة وتحديد النسل ويترك الموضوع لإدارة تابعة لوزارة الصحة.


من الإدارة الخاطئة للملف أن وزارة الإسكان ليس لها صلة باحتياجات السكان، وإنما كل عملها يهدف إلى تحقيق الأرباح من بيع الأراضي وتحويل الحكومة إلى سمسار عقاري وتشجيع المضاربة في أسعار العقارات.


لغياب الرؤية تحول الملف إلى تهديد بالنسبة للحكومة وبدلا من التخطيط لاستيعاب السكان باعتبارهم من عوامل القوة فوجئنا بتبني الحكومة لاستراتيجية معادية تهدف إلى محاربة الخصوبة ووقف النمو السكاني.
العنصر السكاني هو أساس أي تخطيط عمراني، وهو مصدر قوة الدول المركزية الرئيسية، وقامت الحضارات إذ توجد الكثافة السكانية، فالطاقة البشرية إذا أحسن توظيفها واستخدامها تتحول إلى قوة إنتاجية (الصين أقوى اقتصاد بها ربع سكان العالم) وهي عنصر مهم في وجه الأطماع الخارجية وخطط التقسيم.


المفارقة أنه في الوقت الذي تغيب فيه سياسة سكانية حكومية والتعامل مع القوة البشرية على أنها نقمة وليست نعمة وضع الإسرائيليون الأفكار والنظريات لمواجهة الخطر السكاني المصري، فهم يرون أن الزيادة السكانية لمصر والدول العربية تشكل تهديدا مستقبليا لوجود الكيان الصهيوني ولذا طرحوا فكرة تقسيم الدول العربية وفي مقدمتها مصر والتي تبناها الأمريكيون في الخرائط المنسوبة لبرنارد لويس ونشرت نيويورك تايمز خرائط تقسيم الدول العربية في عام 2013 ورفعت منها خريطة مصر.


تعقيم المصريين ومحاربة الخصوبة لوقف نسلهم من أهم الاستراتيجيات الصهيونية لإضعاف مصر بدون حرب، وهذه الأهداف الصهيونية يتم تنفيذها من خلال سياسات تفرضها الولايات المتحدة بوسائلها المتعددة.


الزيادة السكانية في مصر تشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي، هكذا اعتبرها هنري كيسنغر مستشار الأمن القومي الأمريكي عام 1974 في التقرير الذي أعده في عهد الرئيس الأمريكي غيرالد فورد ويعتبر هو الخطة الأساس للسياسة الأمريكية لوقف خصوبة السكان في بعض مناطق العالم، والذي دعا فيه إلى تعقيم النساء في 13 دولة من بينها مصر، وأشار فيه إلى أن زيادة السكان في مصر تشكل تهديدا رئيسيا لـ “إسرائيل”.

 

***
التخطيط العمراني الذي ينفذ الآن مسرب إلينا من مؤسسات دولية لا تعمل لصالح الشعب المصري، والنتائج كلها لصالح المكر المعادي، والضحية هو الشعب والأجيال القادمة، فالصحراء الشاسعة رفعوا أسعارها إلى أرقام فلكية حتى لا يجد المواطن قطعة أرض يبني عليها بيتا.

إن السياسة العمرانية الجارية هدفها حصار الكثافة السكانية في الشريط الضيق الملاصق للنيل حيث استولت العاصمة الإدارية وهي شركة خاصة على شرق مصر وحتى العين السخنة وهذا يمنع أي تمدد شعبي مستقبلي، وتحاصرنا مدينة العلمين بأسعارها السياحية من الغرب، ويربط بينهما القطار المكهرب الذي تصل تكلفته 5 مليارات يورو ليرسم خط عزل جديد للتمييز الطبقي والعنصري في مصر.


المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر