عامر شماخ

حدثنى أحد خبراء صناعة الدواجن أن هناك إصرارًا من جانب وزارة الزراعة للقضاء على ما تبقى من هذه الصناعة الوطنية المهمة. ولأن العبد لله يشرف على تحرير إحدى المجلات المتخصصة فى هذا المجال فإنى أدرك خطورة كلام هذا الأستاذ الجامعى المرموق..


وصناعة الدواجن فى مصر كانت تعد قبل عام 2006 إحدى الصناعات الثقيلة -إن جاز التعبير- فهى تنتج «بروتين الفقراء» الذين يمثلون غالبية الشعب المصرى ولا يستطيعون شراء اللحوم الحمراء أو الأسماك، وقد بلغ الإنتاج وقتها نحو سبعمائة ألف دجاجة فى اليوم، كان يغطى الاستهلاك المحلى ويبقى فائض معقول للتصدير، وكان ثمن الدجاجة قريبًا من وجبة (الفول والطعمية)… حتى حدثت جائحة فى هذه السنة دمرت الصناعة بكاملها.


وفى خلال سنة أو سنتين بدأت الصناعة فى التعافى، وبدأ الإنتاج فى التحسّن؛ إلا أن ذكرى الجائحة تركت ندوبًا على جميع مجالات القطاع، وأظهرت عجز وإهمال وفساد المسئولين. كان بالإمكان اعتبار هذه القضية من القضايا القومية؛ من ثم البت فيها بشفافية فى حوار مجتمعى يشارك فيه الجميع، لكن لأنهم فاسدون فى كل مجال، ولأن الصغير والكبير منهم غير أمين، فقد تُرك المنتجون ومصيرهم، ومن يومها صار الخارجون من هذه الصناعة الخاسرون كل ما ملكوا أضعاف الداخلين فيها؛ ولك أن تتخيل هذا المشهد ثم تتوقع ما بعده… لقد انهارت مؤسسات ضخمة، وسادت البطالة، وارتفعت أسعار الدجاج، لكن حتى عام 2013، عام الانقلاب، لم تكن الأسعار قد وصلت إلى تلك الحال التى عليها الآن.


بعد الخراب الاقتصادى الذى حل بمصر فى هذا العام (2013)، وارتفاع أسعار الدولار انهارت بالفعل صناعة الدواجن، ولا يغرنكم وجود محال لبيعها حتى الآن، فالواقع أن هذا القطاع الذى كان يستوعب 2 مليون عامل لا تجد فيه ربع هذا العدد الآن، وكان يستفيد منه نحو ستة ملايين أسرة لا تجد عشر هذا الرقم الآن.


والواقع أيضًا أن الدجاجة التى كان سعرها لا يتخطى عشرين جنيهًا عام 2012 يتجاوز سعرها الآن ستين جنيهًا؛ ذلك لأن مأكل ومشرب وعلاج الطيور يعتمد على الاستيراد، فتضاعفت لذلك التكلفة؛ فضلاً عن التضييق الحكومى على هذه الصناعة كما حدثنى الخبير البيطرى، الذى أكد أن الأمور أصبحت سافرة، وأن هناك أيادى تعبث فى مقدرات البلد.. كيف؟


يصرخ كل يوم مئات المربين من مشكلات إدارية تقابلهم، ومن خسائر، ومن أزمات.. ولا مجيب!! حتى رأيت فى (فيديو) أحد هؤلاء المربين يقوم بإعدام مزرعته (15 ألف دجاجة) لتقليل الخسائر؛ لأنه لم يستطع الحصول على التحصينات اللازمة، وإن حصل عليها فلن يستطيع تحقيق أرباح..
وإذا كان لدى المسئولون النية فى مساعدة المنتجين أو إنقاذ هذه الصناعة، فلماذا فتحوا باب الاستيراد على مصاريعه لإغراق البلاد بالدجاج ومجزءاته؟ ولماذا يُترك مستوردو الأعلاف يتاجرون بأرزاق المنتجين وبقوت الشعب بلا رقيب أو حسيب؟ وأين دور الدولة فى إنتاج العلف -وخاماته متاحة- وهناك عشرات من دراسات الجدوى التى قُدمت للجهات الرسمية ولم يبت فيها؟


وأخيرًا -وهو الأهم- أين الوزارة من قضية التحصينات والأمن الحيوى؟ وهذا أمر فنى قد لا يستوعبه القارئ العادى، لكنه كلمة السر فى هذه الصناعة، وهو أس الفساد فى هذا القطاع، وهو يترجم كلام الخبير الذى حدثنى به فى أول المقال…


لقد اتفقت غالبية خبراء صناعة الدواجن -فى مصر وغيرها- على أن الأمن الحيوى هو الوقاية والعلاج فى الوقت ذاته للطيور، وبدونه توقع انتشار عشرات الأمراض التى يمكنها القضاء على مزارع الجمهورية كاملة خلال أيام. والأمن الحيوى يعنى ببساطة: منع انتقال العدوى ومحاصرة الأمراض؛ فالمزارع تبنى متباعدة، لا تجاور المساكن، وتعزل عن الآدميين والمركبات والطيور والحيوانات إلخ مصفوفة الإجراءات المعروفة، ومن المفترض أن للدولة النصيب الأكبر فى ترتيب هذا الأمر، وهو الجانب الأهم المتعلق بالتراخيص وغيرها.. لكن هناك إصرار على ترسيخ العشوائية، وهناك فساد سهل انتشار الأمراض حتى أصبحت مزارعنا مرتعًا للجوائح والوباءات..


أما قصة التحصينات فتلك هى اللغز الآخر فى القضية؛ فلا قيمة لتحصين أو علاج لا يسبقه أمن حيوى، لكن الواقع: هناك إصرار على فتح الباب أمام (مافيا) استيراد الأدوية البيطرية، والترويج لها بالمخالفة، وكما يستوردون دجاجًا ومجزءات مجهولة المصدر، يفعلون ذلك مع هذه التحصينات. من أجل ذلك انهارت الصناعة؛ فالمربى يدفع (دم قلبه) على تجارة خاسرة، والفاسدون يحصلون على ملايين الجنيهات الحرام كل ساعة، والضحية هو المصرى الفقير الذى استكثروا عليه أن يأكل لحمًا كما يأكلون.

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر