في كل كارثةٍ من كوارثه التي تعدّدت في تعاقبٍ، بات يستعصي على الإحصاء والحصر، يخرج عبد الفتاح السيسي ليقول في غضب: ليس مسموحاً بالحديث عن تقصير أمني، أو فشل، ثم يسبح أبعد من ذلك في محيط المسخرة، ليعلن، بصفاقةٍ يُحسد عليها، إن تكرار الفواجع دليل نجاح وعلامة إنجاز للسلطة.

هذا شخصٌ لا يهمه الدم، وإنما شغله الشاغل كيف يستثمر في الدم، ويحول قطراته إلى أرصدة في وعاء السلطة الإدخاري، وخصماً من مشروع معارضته ومقاومته، على اعتبار أنه، وبمفهوم علم النفس الاجتماعي، كما صاغه المفكر الفرنسي فيليب برو، لا يرى في السلطة سوى ملكية خاصة، وليست مسؤولية سياسية واجتماعية، فيكون معنى امتلاك السلطة هنا وجود مالك أو حائز، وهذا المالك على غرار مالك الذمة المالية، يستطيع تكبير السلطة أو تبديدها، ويجني منها فوائد وأرباحا.

هذا ما يفعله السيسي، سيراً على خطى سابقيه من الطغاة الذين يحكمون وفق المنظومة الشمولية التي تمارس إرهاباً أيديولوجياً وبوليسيا على المجتمع، ليس لصالح الدولة ومؤسساتها الرسمية، وإنما لصالح القائد، عبر عدد كبير من المراكز السلطوية المتنافسة، من برلمانٍ صنعه على عينه، إعلام يديره مكتبه الخاص، ورجال دين ومثقفون، يقتاتون من الخدمة في مشروع تأليه القائد، وتكفير كل من يخالفه.

من هنا، يبدو مدهشاً أن تبادر أطرافٌ من المعارضة إلى إبداء نوع من الاستسلام لهذا الابتزاز الذي تمارسه السلطة، عقب فاجعة تفجير مسجد قرية الروضة في العريش، والتي خلفت أكثر من ثلاثمائة شهيد، تركتهم السلطة فريسة للإرهاب، وانشغلت بتلميع القائد، وتصنيع الصور المبهرة لعظمته الزائفة، وحكمته وفرادته وجدارته.

عصيٌّ على الفهم والاستيعاب، أن يكون مستقرّاً في قناعة معارضين، على تباين درجة معارضتهم، أن الكوارث التي تضرب الوطن هي من إنتاج سلطة الفرد الأوحد، ثم ينتظرون منه تحقيقا شاملا حول الجريمة، وأوجه القصور التي تسببت في حدوثها، وتقديم الجناة لمحاكمة عاجلة ومساءلة كل مقصر.

لا يعبر ذلك، فقط، عن تناقض، وإنما يشير إلى نوعٍ من الخضوع للإرهاب الأيديولوجي الذي تمارسه السلطة، بزعم أنها تحارب إرهاباً مادياً، تقوم به تنظيماتٌ مسلحة، بينما الواقع ينطق بأن كلا الإرهابين يقتات على ممارسات الآخر، إذ يتناوبان افتراس الوطن والبشر.

هل كانت زلّة لسان أن "القائد المعصوم" استخدم تعبير القوة الغاشمة، وهو يتحدث عن الانتقام من منفذي الجريمة الإرهابية؟ دعك من أنها ليست المرة الأولى، التي ينزلق فيها لغوياً، ولا تتوقف كثيراً عند بلادته السياسية والمعرفية، ذلك أن ما يبدو أحياناً تردّياً في القول والتعبير يكشف عما يدور في رأس القائل، بما يفضح رغبةً مجنونةً في توظيف الفاجعة، للحصول على مكاسب سلطوية إضافية، وتوفير ملاذاتٍ آمنةٍ للاختباء من وقائع فشلٍ تدور على رؤوس الأشهاد، من السياسة إلى الاقتصاد، ناهيك عن تصاعد الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، فضلاً عن تهيئة المناخ لمزيد من سياسات التخريب المتعمد والتدمير المنهجي للمجتمع، بحيث لا يبقى فيه إلا جحافل الإرهاب الإلكتروني وفرق التوحش الإعلامي، تنهض بمهمات النهش في كل من يبدي اختلافاً، كلياً أو جزئياً، مع السلطة الحاكمة.

هو نوعٌ متكرّرٌ وثابتٌ من التعامل الغشوم، والغشيم، مع كل نازلةٍ تصيب البلاد والعباد، على يد سلطةٍ تحترف الخراب والقتل منذ استولت على الحكم، وتسلك وكأنها تستدعي الكوارث، وتطلبها حثيثةٌ. وكما قلت سابقاً، عقب كوارث مرت، إنهم يستعجلونها كي يمدّوا موائد الوطنية الملوّثة، ويقيموا مهرجانات البكاء المصنوع. وفي هذا الضجيج، يحرقون آخر ما تبقى من ملامح الوطن الحقيقي، "فيحرقون مزيداً من جغرافيا الأرض والبشر، فيما تحتفل بإنجازاتهم تل أبيب، بإضاءة واجهة بلديتها بألوان العلم المصري".

اللهم ارحم شهداء مصر، واحفظها من كل غاشم وغشيم وغشوم.