ساري عرابي- مدونات الجزيرة:

 

فقط دعونا نتخيل لو أنّ هذه الحياة خلت من الرجال الذي هم من طراز محمد مهدي عاكف؟! إنّ هذا التخيل هو أول ما يتبادر إلى عقلي فور ارتقاء رجل من طرازه. تبدو لي الحياة مختلّة،

شديدة الفحش، بلا ميزان، لو أنّها خلت من هؤلاء الرجال. كنت دائمًا ما أقول إنّ هذه هي الوظيفة الأساسية للشهداء، وهم بعض من أحوال ذلك الطراز؛ ينتقصون من فحش الحياة، ويجعلون بدلاً مما انتقصوه طهارتهم، ويفرضون أنفسهم ميزانًا فيها، وملحًا ونورًا.

دعونا نستدعي المقولة المنسوبة للمسيح، عليه السلام: "أنتم ملح الأرض.. أنتم نور العالم"، وإن خلت الأرض من ملحها الذي هو هذا الطراز من الرجال، الذين منهم عاكف، فما حال الأرض؟ وإن انطفأ هذا الطراز من الرجال، فما حال العالم؟ هل يمكن أن ينطفئ نور الله الذي جعله في بيوت أذن أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه؟ أم هل يمكن أن يفنى الرجال فلا يعود ذلك الساعي من أقصى المدينة، لا يحمله سوى الإحساس العميق بالظلم، والاندفاع الهائل للقيام بالواجب؟
ارتباطي بهذا الرجل شخصيّ صرف، لانتفاعي بالآية التي جسّدها الله فيه، وفي بعض من الرجال الذي هم من طرازه، وقد كنت ولم أزل، كلما اشتدّ إشراق هؤلاء الرجال في الوجود بالشهادة

يذكّر عاكف اليوم بأنّ هؤلاء لا يمكن أن ينقطعوا، إلا حينما يأذن الله، فيقبض كل من في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان "فيبقى شرار الناس في خفّة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا"، فإنّ طراز عاكف لا يعالج السلامة العقلية لعالم مختلّ ومضطرب فحسب، ولا ينثر النور على إنسانية سريعًا ما تتفلت من فطرتها فحسب، ولكنه دليل قائم، أن الخير لم يزل حاضرًا، وأنّ الحياة سيظلّ فيها بقية من معنى، وبقية مما يستحق أن نعيش لأجله، إلى أن يأذن الله تعالى.

إنّهم الآية التي تُجلّي مفهوم الصبر لضمائرنا، وتنفي عنّا غائلة اليأس وغوايته. ذات مرّة، في مفتتح محنة قاسية كنت فيها سجينًا، ولكن غير السجناء، وفي تجربة لا تشبه أي تجربة اعتقال سابقة لي، أَرسَلْتُ زوجي كي تأتيني بموعظة من أحد مشايخي، جاءتني بما قاله، ولم أنتفع بها، ثم إن الله منحني فسحة ضيقة، اختلستها من زمن الجلادين، فاجتمع لي فيها موعظتان؛ سيرة محمد مهدي عاكف وبعض رفاقه قرأتها، فاتسعت تلك الفسحة في وجداني، وإن لم تتسع في زمن الجلادين، فصار سجني في إحساسي خلوة، ووجدت جنّتي في صدري.

لم يكن ذلك النفي الوجدانيّ للسجن القاسي إلا بنور انبثق لي من سيرتهم وألقاه الله في صدري. أما الموعظة الثانية، فكلمة من الشيخ ذاته، الذي لم أنتفع بموعظته من قبل. كلمة غير مُدبّرة، عفو الخاطر، أو كأن طائرًا من نور تركها على فيه، زادت من الفسحة في صدري، بيد أنها مما لا يُعاد، ولا أحسبني قادرًا على قولها اليوم.

والشاهد أن ارتباطي بهذا الرجل شخصيّ صرف، لانتفاعي بالآية التي جسّدها الله فيه، وفي بعض من الرجال الذي هم من طرازه، وقد كنت ولم أزل، كلما اشتدّ إشراق هؤلاء الرجال في الوجود بالشهادة، وكأنّ يدًا من قوّة تمزج في دمي قوله تعالى: "وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ"، إنّهم مُتّخذون، والذي يتّخذهم الربّ جلّ وعلا، ثم إنّني أتصور بما لا يمكن للغة أيّنا تصوريه، ذلك الرجل الممسك بعنان فرسه في سبيل الله "يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي الموت أو القتل مظانّه"، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد كان هذا الحديث دائمًا يحضرني، وأجده دائمًا أفضل دثار يتحلّى به نور هؤلاء الرجال، ثم إنّك اليوم، وإذ تقرؤه، وتتصور ذلك الرجل الفارس الذي يطير إلى الواجب، في سبيل الله، طالبًا غاية الشرف، القتل في سبيل الله، لا يمكنك إلا وأن تجد عاكفًا اليوم مثاله؛ افتتح وعيه بقتال الإنجليز والصهاينة، ثم سجنه طغاة مصر كلّهم، واحدًا خلف الآخر، حتى قضى مظلومًا في شيخوخته، في سجن شرّهم، كتلة الشرّ المحض، والظلام المطبق، "معجزة إسرائيل الكبرى، عبد الفتاح السيسي".

هذا الفارس الذي لا يتعب، وإن تعب فلا يُظهر لنا إلا تجمّله وتجلّده وصبره والآية المودعة فيه.. هذا الفارس النبيل الذي كان على قدر اتّخاذه واصطفائه لمهمّة، يبدو وكأنّه أدركها بالكشف والعقل والنقل معًا، بالنور الذي يغتسل به قلبه صباح مساء.. هذا الفارس الذي وُلد واقفًا، ثم لمّا مضى أبى أن يموت، وإنما أشرق شمسًا لا تأفل.. هذا الرجل القادم من أقصى المدينة يسعى.. هذا القنديل المشعّ في كل مشكاة في مساجد الرجال لا ينطفئ.. هذا الفارس الذي ظلّ على متن فرسه ولم يترجل.

هذا محمد مهدي عاكف.. وكفى!