ملأ العديد من المتقدمين للتوظيف غرف “سهيل”، واحدة من شركات التوظيف العديدة في حي الدقي متوسط المستوى، والتي تقوم بتوظيف المصريين في الخارج.

يسعى غالبية هؤلاء الرجال المصطفين لفرص عمل في السعودية والكويت وحتى أوروبا، ولكن أحدهم لم يرد الذهاب إلى ليبيا، بلدٌ تدّعي سهيل أنها واحدة من قلة من الشركات التي تقوم بالتوظيف فيها.

“آخر استمارة توظيف لليبيا كانت منذ شهرين”، يقول أحمد أحد موظفي الشركة الذين يقودون العاطلين المصريين لمراعٍ أكثر اخضرارًا خارج البلاد.

“قبل الأزمة كان لدينا دستة من المتقدمين للوظائف لليبيا كل أسبوع”.

التوقف المفاجئ لأعمال شركة سهيل في هذا البلد المضطرب جاء في الوقت الذي شاعت فيه أخبار عن قيام تنظيم الدولة في ليبيا باختطاف مصريين في سرت، وفي الخامس عشر من فبراير نشرت الميليشيات المسلحة فيديو يظهر إعدام هؤلاء المصريين الأقباط ذبحًا.

منذ ذلك الحين ذهبت الحكومة المصرية إلى أبعد ما يمكنها لكي تعيد مواطنيها من جارتها التي مزقتها الحرب. وبالفعل تمكن الآلاف من العودة وقامت الحكومة بحظر السفر لليبيا، ولكن بالرغم من كل ما سبق يرفض الكثير من المصريين العودة.

مع نسبة بطالة مكونة من رقمين عشريين ( 13.1%) ونسبة تضخم تحوم حول ال 10% في مصر يفضل العديد من المصريين البقاء في ليبيا التي يبلغ متوسط الدخل فيها أربعة أضعاف ذلك الذي في بلادهم.

هذا بالإضافة لوفرة فرص العمل في هذه الدولة المنتجة للنفط، الأمر الذي جعلها وجهة للكثير من الساعين للرزق حتى وهي تتخبط في الفوضى منذ الثورة على حاكمها السابق معمر القذافي.

الحياة أم الخبز؟
وسط كل هذا العنف يرفض محمد عبد الجواد مغادرة ليبيا.

النقاش البالغ من العمر 27 عامًا وصل إلى ليبيا في العام 2013, وبالرغم من أنه يعيش في سرت حيث اخطتف المصريون الأقباط، إلا أنه يرفض المغادرة.

“أنا أمام خيارين إما أن أعيش حياة جيدة حتى أقتل هذا إن كنت سأقتل أصلا، وإما أن أنجو بحياتي ولكن دون عمل ودون لقمة عيش”.

“بين الخبز والحياة، أختار الخبز”.

بدأت الأزمة عندما سعت الكتائب المسلحة التي أسقطت القذافي لمزيد من القوة ولحصة أكبر من إيرادات تصدير البترول. وككرة جليد تتدحرج من علٍ تفاقم الأمر حتى وصل إلى حرب أهلية تتصارع فيها حكومتان متعارضتان على عرش السلطة وسط حالة من تفاقم العنف والتطرف.

الحكومة الإسلامية في طرابلس وحلفاؤها من الكتائب المسلحة يتهمون مصر بدعم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر المتحالف مع حكومة طبرق المعترف بها دوليا, وموقف مصر هو الذي جعلها هدفا للعديد من الجماعات المسلحة، منها تنظيم الدولة الإسلامية.

تنظيم الدولة الإسلامية المسيطر على مساحات كبيرة من سوريا والعراق هو واحد من تنظيمات مسلحة عديدة وجدت لها موطئ قدم في ليبيا ما بعد القذافي.

في نوفمبر الماضي، استهدف تفجيرٌ مسلح السفارة المصرية في طرابلس محدثا خسائر طفيفة، ثم في الواحد والعشرين من فبراير قتل ستة مصريين وأصيب 36 في سلسلة تفجيرات تبناها تنظيم الدولة الذي أعلن أنها جاءت ردا على قصف الطيران المصري لمعاقله في درنة بعد إذاعة فيديو ذبح المصريين.

المزيد من النقود من وراء الحرب
يشرح عبد الجواد كيف أن هناك العديد من فرص العمل المتاحة للمصريين المقيمين، حتى إن الحرب تساعد في خلق المزيد من فرص العمل هذه.

يضيف عبد الجواد أنه كان يحصل على دينارين ليبيين (11 جنيها مصريا) مقابل كل متر يقوم بطلائه. والآن في ظل الوضع الراهن يحصل على أربعة دنانير مما يعني أن بإمكانه أن يحصل لنفسه على إجازة لمدة عام كامل مقابل كل بيت يقوم بطلائه.

والآن في ظل هذه الحرب يعاد بناء العديد من المنازل المهدمة وإصلاح الأضرار الواقعة على أخرى، مما يعني مزيدا من العمل في ظل نقص الأيدي العاملة. مَنْ بإمكانه ترك كل هذا والرحيل؟

حرية الحركة بين طرفي الحدود المصرية الليبية التي ضمنتها اتفاقية وقعت في العام 1991 عنت أن المصري كان بحاجة فقط لهويته الشخصية للعبور للأراضي الليبية، مما ساعد الكثير من الفلاحين والعمال قليلي المهارات على السفر من وإلى ليبيا على حسب الحاجة والعمل المتوفر.

وكذلك ساهمت الحراسات والتأمينات المحدودة على الحدود بين البلدين في زيادة نسبة المسافرين غير الشرعيين، الأمر الذي ساهم في صعوبة معرفة الأرقام الحقيقية لعدد المقيمين المصريين بليبيا. العدد الذي تقدره التقارير الرسمية المصرية بأنه يتراوح من  1.5 مليون حتى 250 ألف مواطن.

إخلاء
خلال أعوام الفوضى التي شهدتها ليبيا مؤخرًا، أجرت مصر العديد من إجراءات الإخلاء الصارمة لإجلاء المصريين الراغبين في العودة سواء عن طريق معبر السلوم أو عن طريق التعاون مع تونس جارة ليبيا الغربية.

إلى جانب العديد من الدول، قامت مصر بسحب بعثتها الدبلوماسية من طرابلس الصيف الماضي. وفي 31 من يوليو الماضي قامت السلطات بإنشاء طريق إجلاء للطوارئ بين مطار القاهرة ومطار جربا في تونس. وخلال عام 2014 تم إجلاء ما يقارب ال40 ألف مواطن مصري من خلال تونس.

في الأسبوع الذي نشر فيه فيديو تنظيم الدولة، عاد المزيد من المصريين إلى ديارهم. إلا أن السؤال عن أعدادهم الذي طرحناه على المتحدث باسم وزارة الداخلية عاد إلينا دون جواب.

هذا فيما طالب المتحدث باسم وزارة الخارجية بدر عبد العاطي المصريين بمراعاة الحذر في كل الأوقات والبقاء في المناطق الآمنة وعدم المغادرة إلا في حالة مواجهة خطر يهدد حياتهم.

بالنسبة للعديد من الأقباط كان الفيديو المصور رسالة واضحة تدفعهم للهرب.

يقول ملك شكري الذي كان أخوه يوسف أحد المذبوحين في الفيديو؛ أن كل الأقباط الذين يعرفهم قد عادوا بالفعل، وأن 13 شخصًا من الذين أظهر الفيديو ذبحهم هم من قريته في صعيد مصر.

يضيف شكري أن أخاه يوسف حاول المغادرة بالفعل ولكنه لم يتمكن من فعل ذلك، وأن هذه الحادثة جعلت كل المسيحيين في ليبيا لا يألون جهدا للخروج منها بأي ثمن كان.

يؤكد العامل المصري عبد الجواد ما قاله شكري؛ قائلا أن كل المسيحيين الذين يعرفهم قد غادروا سرت بالفعل، وحتى في طرابلس الهادئة نسبيا فإن المسيحيين قد هربوا منها. وأضاف أنه بالرغم من أن صباحاته غالبا ما تشهد قوافل مسلحة لتنظيم الدولة أو فجر ليبيا إلا أنه لن يغادر ما لم تتغير معاملة المقاتلين له.

محمد فوزي الذي يعمل أمينا لأحد المستودعات في طرابلس يقول أن الكنيسة المجاورة قد أغلقت أبوابها.

مصر ليست أفضل حالا
فوزي أيضا يرفض المغادرة بالرغم من إعطاء فجر ليبيا مهلة 48 ساعة للمصريين لمغادرة ليبيا حفاظا على سلامتهم, مشيرا إلى أن راتبه في ليبيا يبلغ عشرة أضعاف ما كان يحصل عليه في مصر. ويضيف أن الوضع الأمني في مصر أيضا سببٌ من أسباب عدم رغبته في العودة.

ويتهم فوزي السلطات في مصر بتعريض حياة مواطنيها في ليبيا للخطر بتدخلها في حرب ليست من شأن المصريين في شيء كما يصفها.

“لا أدعي أنني لست خائفا ولكن لنواجه الأمر، فالوضع الأمني في مصر ليس أفضل حالا”.

يضيف فوزي أنه أحد مشجعي الزمالك المتعصبين، وكان من الممكن أن يكون أحد المشجعين الذين ماتوا أمام الإستاد؛ الحادثة التي اتهمت قوات الأمن المصرية بالتسبب فيها والتي وقعت قبل حادثة ذبح الأقباط في ليبيا بأسبوع واحد.

“إذا مت هنا سأكرم بواسطة الحكومة وأعتبر شهيدا. أما إذا مت أمام الإستاد سأتهم بالخيانة والبلطجة”.

وقال أخيرًا أن السبب الوحيد الذي قد يدفعه للعودة هو خوف والدته على سلامته. ولكنه أضاف سريعا بأنه لو كان أحد أولئك الشباب أمام الإستاد لما كان عليها أن تتعامل مع موته فقط، ولكن مع حقه وسمعته الضائعة ظلمًا كذلك.

“كان من الممكن أن أكون أحد هؤلاء الشباب”.