خميس النقيب :

لا يرسل اشارة فينذر ، ولا يطرق بابا فيستأذن ، لا يوقر كبيرا ولا يرحم صغيرا ، لا يعبأ بالأعياد ولا يعترف بالأمجاد ، إنه الموت ، إنها ساعة الحصاد  ...!!

كل يوم نشيع أموات ، يأتينا الموت علي مدار اليوم بل علي مدار الساعة ،  كم من عزيز شيعناه ، وكم من حبيب فارقناه ، وكم من صديق تحت الثري واريناه ، فهل من عبرة ؟! وهل من عظة ؟!

انها لحظات خارقة ، إنها ساعات فارقة ، إنها سكرات حارقة..!! ترتجف منها القلوب ، وتتزلزل عندها الابدان ، وتنخلع لها الصدور ..!! تحتاج الي ايمان ثابت وصبر جميل وحكمة بالغة ..!!

تجد الإنسان أمامك  قلبا نابضا  ،  لسانا ناطقا  ، وجها مشرقا ، إرادة حية ، همة عالية  ..!! ثم  من بين الأبناء والأصدقاء ..!! من بين الأطباء والاحباء .. من بين الغرباء والأقرباء يأتي مخلوق خلقه الله " الذي خلق الموت والحباة ليبلوكم ايكم احسن عملا " الملك  ، مخلوق يتسلل دون أن يراه احد ولا يشعر به احد...فجأة.. وفي لحظات تجد هذا القلب النابض قد توقف ، وهذا اللسان الناطق قد سكت ، وهذا الوجه المشرق قد ذبل ، وهذه الإرادة القوية  قد تلاشت ، وهذه الهمة العالية قد تبخرت ..!! ماذا حدث ؟ !!  " قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " السجدة  إنها لحظات  الرجوع " وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ " (البقرة:281)

إنها لحظة حق وكلمة حق وسكرة بالحق "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)" سورة ق

انه يوم الحصاد ، من ساعة العودة ، عودة المخلوق إلي الخالق .. عودة المرزوق إلي الرازق ، عودة الضعيف إلي القوي ، عودة الفقير إلي الغني " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "  فاطر

وهذا تصوير القران للموقف المهيب " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "  الواقعة

يأتي الموت فيحصد كل من كتب الله موتته ، وحانت ساعته  ، وقامت قيامته ، كبيرا وصغيرا ، شيبا وشيبا ، اقوياء وضعافا ، بيضا وسودا ، حكاما ومحكومين ، كفارا ومؤمنين ، مرضي وأصحاء ، مدرسين وعلماء ، مهندسين وأطباء ،

ااغنياء وفقراء أولياء وانبياء...!! يقول صلn الله عليه وسلم فيما رواه أنس " من مات منكم فقد قامت قيامته "

يحصدهم الموت في أي زمان " فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " الاعراف

وفي أي مكان "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ" النساء

ولا يدري الانسان ما الزمان ولا المكان الذي تحين عنده ساعته  كيف ؟!

"وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت"  لقمان

لذلك يجب ان يكون دائما علي طاعة ، مستعدا لاستقبال الحصاد  ، عن أنس قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله فقيل كيف يستعمله يا رسول الله قال يوفقه لعمل صالح قبل الموت   حسن صحيح .

اذن كيف تستعد لساعة الحصاد  ..!! ان تكون دائما علي طاعة ، ان تحسن استقبال الزائر الاخير ، ان تجعل دنياك مزرعة لآخرتك ، أن  تتذكر الموت والبلي ، ان تبني قبرك بالصالحات ، وان ترضي ربك بالطاعات وان تثقل ميزانك بالحسنات  ..!! قال أبو الدر داء رضي الله عنه : العقلاء ثلاثة  من ترك الدنيا قبل أن تتركه ، ومن بني قبره قبل أن يدخله ، ومن ارضي ربه قبل أن يلقاه ...هل جعلت دنياك مزرعة لأخرتك ؟!! هل بنيت بالعمل الصالح قبرك ..؟!! هل أرضيت بالإخلاص والطاعة ربك ؟!

ترجم هذه الآية علي ارض الواقع  " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الأنعام ،

اجعل عملك كله لله ..حركاتك وسكناتك ، حلك وترحالك ، ركوعك وسجودك ، انفاسك واناتك ، حياتك ومماتك .. كله لله .يقول البارئ عز وجل " كل نفس ذائقة الموت، وانما توفون اجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وادخل الجنة، فقد فاز، وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور" ال عمران

لسنا اكرم على الله تعالى من محمد صلى الله عليه وسلم

  أقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه خبر وفاة النبي صلي الله عليه وسلم  ، وهو يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ثم أقبل عليه فقبله ثم قال بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . قال ثم رد البرد على وجه رسول الله ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلا أن يتكلم فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .

قال ثم تلا هذه الآية "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين"   آل عمران

نعم  فقد ذاقت نفسه الكريمة الموت، حتى إنه عانى من سكرات الموت وقد روى الترمذي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  اللهم اعني على سكرات الموت ، وقد قال الله تعالى:  "إنك ميت، وإنهم ميتون " الزمر

السلطان يزول والملك لا يدوم  ، العز لا يبقي وكل شيء يفني

" كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " الرحمن

فاستعدوا للرحيل ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور،

ان اشهر بيت قيل في الموت على الاطلاق قول ابن نباتة السعدي:

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

         تعددت الأسباب والموت واحد

اقول تعددت الاحوال ، أما السبب واحد والموت واحد ...!!

من كفن اليوم سيكفن غدا ، ومن غسل اليوم سيغسل غدا ، ومن شيع اليوم سيسيع غدا ، ومن حمل ميتا اليوم سيحمل غدا " وان غدا لناظره قريب "

كل بن ادم وان طالت سلامته

    لابد يوما علي آلة حدباء محمول

فللإنسان ما قدم لأخرته من زاد .. وما هيأ لنفسه من ختام..  ما التزمه من تعاليم الدين وما عليه استقام ..!! " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ "(فصلت:30-31)

  كيف نستقبل الموت ..؟!! ماذا قدمنا اليوم لذاك الغد ؟ ماذا قدمنا لتلك اللحظات ؟!!.. هل زرعنا لنحصد ما زرعناه ؟ هل غرسنا لنجني ثمار ما غرسناه ؟ أم فرطنا واضعنا ..أم غفلنا واعرضنا !! اليوم العمل وغدا الحساب .. اليوم الزرع وغدا الحصاد ..اليوم الغرس وغدا جني ما غرسناه..!!

       إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا                  ندمت علي التفريط في زمن البذر

ثم ما نوع الغرس الذي غرسناه ؟ هل صالح فلنا أم طالح فعلينا ؟!! نحن نري يوميا ثمار مرة  لغرس غرسناه بأيدينا –إلا ما رحم ربي وعصم- ...!!

غدا توفي النفوس ما كسيت

         ويحصد الزراع ما زرعوا

فان احسنوا أحسنوا لأنفسهم

           وإن أساؤا فبئس صنعوا

لقد سئل الإمام الشافعي رحمه الله رحمة واسعة كيف أصبحت يا إمام ؟ قال :أصبحت عن الدنيا راحلا ، وللإخوان مفارقا ،ولسوء عملي ملاقيا ،ولكأس المنية شاربا ، وعلي الله واردا ، ولا ادري روحي تسير إلي الجنة فأهنئها أو تسير إلي النار فاعزيها .

وثبت عن أنس بن مالك أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، وكان في النظَّارة أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه إلي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقالت: إن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرينَّ الله ما أصنع - تعني من النياحة - وكانت لم تحرَّم بعد!! فقال لها الرسول: ويحك أَهَبِلْتِ؟ إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى...".

فإن كان هذا جزاء النظَّارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات الصعاب؟!

اعملوا ليوم الميعاد ، واستعدوا للحصاد ، واتقوا رب العباد تفلحوا في الدنيا وتربحوا يوم التناد ...!!

اللهم احسن ختامنا ويمن كتابنا وخفف سكراتنا ويسر حسابنا ....