قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم، وإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".

فهكذا أنجبت هذه الأمة من حمل همَّها وهمَّ تربية أبنائها، وفهم دينها فهمًا صحيحًا، فكان درعًا واقيًا للأمة من الوقوع في الفهم الشطط البعيد عما أراده كتاب الله وسنة نبيه.

وإن كانت مصابيح الدجى سطعت في الفقه فخلَّدت قناديل أربعة؛ الإمام أبو حنيفة النعمان، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، إلا أنها لم تغلق الباب على غيرهم، فظهر في كل عصر من فقَّهه الله في دينه، ليرسي قواعد الفقه وليجتهد ليبسط للناس أمور دينهم.

وسيد سابق نحسبه واحدًا من هؤلاء الذين اجتهدوا فلاقى فقهه قبولاً وسط الناس جميعًا؛ لبساطته وحيويته ونجح في تقريبه إلى جماهير الأمة، بعد أن ظل دهرًا مغلقًا على فئة المتخصصين، فاستحق بذلك أن يكون أول رائد لتقريب الفقه إلى العامة من الناس.
مولده

وُلد سيد سابق في محافظة المنوفية مركز الباجور قرية إسطنها، في يناير عام 1915م الموافق 1335هـ، وأتم حفظ القرآن ولم يتجاوز تسع سنوات، ثم التحق على إثره بالأزهر في القاهرة، وظل يتلقَّى العلم ويترقَّى حتى حصل على العالمية في الشريعة عام 1947م، ثم حصل بعدها على الإجازة من الأزهر.

عمل بالتدريس بعد تخرجه في المعاهد الأزهرية، ثم بالوعظ في الأزهر، ثم انتقل إلى وزارة الأوقاف في نهاية الخمسينيات، متقلدًا إدارة المساجد، ثم الثقافة، فالدعوة، فالتدريب إلى أن ضُيِّق عليه فانتقل إلى مكة المكرمة للعمل أستاذًا بجامعة الملك عبد العزيز، ثم جامعة أم القرى، وأُسند إليه فيها رئاسة قسم القضاء بكلية الشريعة، ثم رئاسة قسم الدراسات العليا، ثم عمل أستاذًا غير متفرغ.

كان الشيخ سيد سابق فقيهًا مجربًا محنكًا، مثالاً للعلم الوافر، والخلق الرفيع، والمودة والرحمة في تعامله، وكان عفيف اللسان، ويمتاز بذاكرة قوية، وذكاء مفرط، وحضور بديهة، وقد رُزق حسن المنطق في جزالة وإيجاز، وكان ذا روح مرحة، وُضعت له معها المحبة والقبول، وكذلك فإنه يمتاز بوعي شديد، واطِّلاع دائم على الأحداث والمتغيرات، فإذا ما استجدَّ أمرٌ في الأمة عرض له وبيَّن حكمه في غاية الوضوح، والجرأة، وفي سنة 1413 هـ حصل الشيخ على جائزة الملك فيصل في الفقه الإسلامي.
التربية الإسلامية العملية

التحق الشيخ سيد في بداية حياته بالجمعية الشرعية على يد مؤسسها الشيخ السبكي رحمه الله، وتزامل مع خليفته الشيخ عبد اللطيف مشتهري رحمه الله، فتشرَّب محبة السنة وكان لهمَّته العالية وذكائه وصفاء سريرته أثرٌ في نضجه المبكِّر وتفوُّقه على أقرانه، حتى برع في دراسة الفقه واستيعاب مسائله، وما إن لمس فيه شيخه تفوقًا حتى كلَّفه بإعداد دروس مبسطة في الفقه وتدريسها لأقرانه، ولم يكن قد تجاوز بعدُ 19 عامًا من عمره.

وكان لشيخه أثرٌ عظيم في شخصيته وطريقة تفكيره، ومن ذلك ما يحكيه في بداية حرب فلسطين يقول: وقد كنا في ريعان شبابنا أخذني الحماس أمام الشيخ السبكي في أحد دروسه فقلت له: ما زلتَ تحدثنا عن الأخلاق والآداب! أين الجهاد، والحث عليه؟!

قال: فأمرني الشيخ بالجلوس!.

فردَّدت: حتى متى نجلس؟

قال: يا بني إذا كنت لا تصبر على التأدُّب أمام العالِم فكيف تصبر على الجهاد في سبيل الله؟

قال: فهزتني الكلمة جدًّا، وظل أثرها في حياتي حتى يومنا هذا.
الشيخ ودعوة الإخوان

في الثلاثينيات تعرَّف الشيخ سيد سابق على الشيخ حسن البنا رحمه الله، واشترك في دعوته في فترة مبكرة؛ حيث التحم بدعوة الإخوان هو والشيخ محمد الغزالي والشيخ عبدالمعز عبدالستار، ولقد كان له أثرٌ كبير؛ حيث عمل على تعليم الإخوان وتربيتهم داخل الشُّعَب؛ حيث تميز في الأمور الفقهية، واستمر على طريقته في إعداد دروس الفقه وتدريسها.

كتب في مجلة "الإخوان" الأسبوعية مقالةً مختصرةً في فقه الطهارة، معتمدًا على كتب فقه الحديث، وهي التي تُعنى بالأحكام، مثل (سبل السلام) للصنعاني، وشرح (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، ومثل (نيل الأوطار) للشوكاني، وشرح (منتقى الأخيار من أحاديث سيد الأخيار) لابن تيمية الجد.

أصدر الشيخ سيد الجزء الأول من كتاب فقه السنة في عام 1946م الموافق 1365هـ، وهو رسالة صغيرة الحجم، حيث يقول: "فشرعت في جمع المادة من قصاصاتي، وبدأت نشر كتاب فقه السنة".

ولقد أعجب الإمام البنا بأسلوبه فى عرض الفقه فطلب أن يعلمه للإخوان بهذا الأسلوب، حتى إنه كتب له مقدمة كتابه فقه السنة، فقال فيه:

    "فإن من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى نشر الدعوة الإسلامية، وبث الأحكام الدينية، وبخاصةٍ ما يتصل منها بهذه النواحي الفقهية، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في عبادتهم وأعمالهم، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم، وإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".

وإن من ألطف الأساليب وأنفعها وأقربها إلى القلوب والعقول في دراسة الفقه الإسلامي، وبخاصةٍ في أحكام العبادات، وفي الدراسات العامة التي تُقدَّم لجمهور الأمة البعد به عن المصطلحات الفنية والتفريعات الكثيرة الفرضية، ووصله ما أمكن ذلك بمآخذ الأدلة من الكتاب والسنة في سهولة ويسر، والتنبيه على الحكم والفوائد؛ ما أتيحت لذلك الفرصة؛ حتى يشعر القارئون المتفقِّهون أنهم موصولون بالله ورسوله، مستفيدون في الآخرة والأولى، وفي ذلك أكبر حافز لهم على الاستزادة من المعرفة، والإقبال على العلم.

وقد وفِّق الله الأخ الفاضل الأستاذ الشيخ السيد سابق إلى سلوك هذه السبيل، فوضع هذه الرسالة السهلة المأخذ، الجمة الفائدة، وأوضح فيها الأحكام الفقهية بهذا الأسلوب الجميل؛ فاستحق بذلك مثوبة الله إن شاء الله، وإعجاب الغيورين على هذا الدين، فجزاه الله عن دينه وأمته ودعوته خير الجزاء، ونفع به، وأجرى على يديه الخير لنفسه وللناس، آمين".

كان الشيخ سيد سابق أحد المجاهدين وأحد رجال النظام الخاص، فمع جهاده بقلمه كان مجاهدًا عسكريًّا في حرب فلسطين عام 1948م، وقد تصدَّرت صورته مرة مجلة "الإخوان المسلمين" وهو يتدرَّب على السلاح في معسكر التدريب المعدّ للمجاهدين.

يقول المستشار العقيل:

    "وقد أدهشني هذا المنظر لهذا العالم الفقيه، الذي يحرِّر الصفحة الفقهية في المجلة، وقلت في نفسي: هكذا كان علماء السلف يحملون القرآن بيدٍ للدعوة والهداية، ويحملون السلاح باليد الأخرى للدفاع عن حوزة الإسلام وكرامة المسلمين".

فقد كان الشيخ سابق في أول كتيبة للإخوان المسلمين، مفتيًا أو معلمًا للأحكام الشرعية ومربيًا للمجاهدين للقيام بدورهم في نصرة دين الله والدفاع عن بلاد المسلمين، ومحرِّضًا للمجاهدين على الثبات والإثخان في العدو، ومشاركًا لهم في التدرب على السلاح واستعماله في وجه أعداء الله اليهود المحتلين لفلسطين أرض الإسراء والمعراج.
المحنة والاعتقال

اعتقل الشيخ سيد سابق أكثر من مرة، فقد اعتقل في قضية مقتل النقراشي بتهمة أنه الذي أفتى بمقتله؛ حيث جاء في محضر النيابة أنه تمَّ اتهام أربعة آخرين بالتحريض وتسعة عشر بالاتفاق الجنائي، والخمسة الأوائل هم:

        عبد المجيد أحمد حسن طالب طب بيطري (22 سنة).
        السيد فايز عبد المطلب مهندس ومقاول مبانٍ (29 سنة).
        محمد مالك يوسف موظف بمطار القاهرة.
        عاطف عطية حلمي طالب بكلية الطب (25 سنة).
        سيد سابق- شيخ أزهري (24 سنة).

غير أن المحكمة برَّأته من هذه التهم، كما اعتُقل مع بقية الإخوان في سجن الطور؛ حيث عمل على تربية الإخوان وتثقيفهم داخل المعتقل؛ حيث اعتقل عام 1949م من بيته، ورحلوه إلى معتقل الهايكستب، ومن الطرائف التي تُذكر أنه لم يكن قد تناول طعام الغداء والعشاء، وفي المساء جاءه أحد الضباط وقال له: يا شيخ سيد، أنا من الإخوان، ولا أحد يعلم هنا بذلك، فهل تريد أية خدمة، فشكره الشيخ سيد.

ثم عاد الضابط مرةً أخرى بعد منتصف الليل وهو يحمل كبابًا وخبزًا وسلطةً، وقدمه للشيخ سيد، فأكل الشيخ ما استطاع، وكان لم يأكل منذ الصباح، ثم عاد الضابط مرةً ثالثةً وقال له: يا شيخ سيد، أنا ذاهب حيث انتهت نوبتي، وأنا مستعدٌّ لأية خدمة، فشكره الشيخ، فقال له الضابط: إن كان عندك ورق تريد أن تعدمه أو سلاح أخبرني عن مكانه لكي أخبئه؛

لأني علمت أنهم سيفتشون بيتك الليلة، فقال له الشيخ: شكرًا فقد فتشوا بيتي في حضوري ولم يجدوا شيئًا، فقال الضابط: (على كيفك)، وهمَّ بالخروج. فناداه الشيخ وقال: هناك شيء هامّ في المنزل أرجو إحضاره، فعاد الضابط متحفزًا فقد وجد بغيته! وقال: ما هو؟ قال: النظارة؛ لأني لا أري بغيرها، فأسفر الضابط عن وجهه القبيح، قائلاً: نظارة يا ابن الـ.....!! وأخذ يكيل له السباب!!.

ومما يُحكَى عنه أنهم حين قبضوا عليه في قضية مقتل النقراشي، وسألوه عن "محمد مالك" الذي ضخَّمت الصحافة دوره، واعتبروه أكبر إرهابي، وقد اختفى ولم يعثروا عليه، فلما سألوا الشيخ: هل تعرف شيئًا عن مالك؟ قال: كيف لا أعرفه وهو إمام من أئمة المسلمين، وهو إمام دار الهجرة رضي الله عنه؟! قالوا: يا خبيث، نحن لا نسألك عن الإمام مالك، بل عن مالك الإرهابي: قال: أنا رجل فقه أعرف الفقهاء ولا أعرف الإرهابيين.

عمل وسط إخوانه حتى قامت الثورة، وتولى فيها مناصب عدة، حتى ضيّقت عليه الخناق، فسافر إلى السعودية ليعمل على نشر دعوته.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي:

    "وقد عملت معه حين كان مديرًا لإدارة الثقافة في وزارة الأوقاف، وكان الشيخ الغزالي مديرًا للمساجد، وكان الشيخ البهي الخولي مراقبًا للشئون الدينية، في عهد وزير الأوقاف المعروف الشيخ أحمد حسن الباقوري. وذلك في عهد الثورة".

    وظل الشيخ مرموق المكانة في وزارة الأوقاف، حتى جاء عهد وزيرها المعروف الدكتور محمد البهي فساءت علاقته بالشيخين الغزالي وسابق، رغم أنها كانت من قبل علاقة متينة، وسبحان مغيِّر الأحوال.

    وقد نقل الشيخان إلى الأزهر، لإبعادهما عن نشاطهما المعهود، وإطفاء جذوتهما، وقد بقيا على هذه الحال، حتى تغيَّر وزير الأوقاف، ودوام الحال من المحال".

مواقف تربوية

يُروى أنه بعد إبعاد زميله الشيخ محمد الغزالي عن الخطابة في مسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة وتعيينه خلفًا للشيخ الغزالي، ظنَّ الناس أن الشيخ سيد سابق سيداهن في خطبه، بعد أن غضب الحاكم على سلفه الشيخ الغزالي، فما كان من الشيخ سيد سابق، إلا أن جعل الخطبة عن شروط الحاكم المسلم، وذكر فيها ثلاثة عشر شرطاً بأدلتها الشرعية وشواهدها التاريخية، فكانت خطبة جامعة مانعة، عقَّب عليها أحد المشايخ الحاضرين بقوله: لقد قال الشيخ سيد سابق في خطبته كل شيء ولم يؤخذ عليه شيء.
مؤلفاته

        فقه السنة (ثلاثة أجزاء).
        مصادر القوة في الإسلام.
        الربا والبديل.
        رسالة في الحج.
        رسالة في الصيام.
        تقاليد وعادات يجب أن تزول في الأفراح والمناسبات.
        تقاليد وعادات يجب أن تزول في المآتم.
        العقائد الإسلامية.
        إسلامنا.

وغير ذلك من الكتب والمحاضرات والأبحاث والمقالات.
قالوا عنه

يقول الدكتور يوسف القرضاوي:

    "اعتمد السيد سابق منهجًا يقوم على طرح التعصب للمذاهب، مع عدم تجريحها، والاستناد إلى أدلة الكتاب والسنة والإجماع، وتبسيط العبارة للقارئ بعيدًا عن تعقيد المصطلحات، وعمق التعليلات، والميل إلى التسهيل والتيسير على الناس، والترخيص لهم فيما يقبل الترخيص، فإن الله يحب أن تُؤتى رخصه، كما يحب أن تُؤتى عزائمه، وكما يكره أن تؤتى معصيته، وحتى يحبَّ الناس الدين ويقبلوا عليه، كما يحرص على بيان الحكمة من التكليف، اقتداءً بالقرآن في تعليل الأحكام.

ويقول الأستاذ مصطفى مشهور المرشد الخامس للإخوان المسلمين:

    "إن الشيخ سيد سابق له مكانته بين الإخوان المسلمين، ومؤلفاته أثّرت في الإخوان وأثْرتهم وأفادتهم وخاصةً مؤلفه (فقه السنة) الذي كان ولا يزال من المصادر التي يرجع إليها الإخوان، وله أثر طيّب في تربية وتكوين ثقافة الإخوان الفقهية؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد اعتمد هذا الكتاب واعتبره مرجعًا من مراجع السنة..

    والشيخ سيد سابق كان من المجاهدين على أرض فلسطين، وقد دخل السجن في قضية النقراشي سنتين، ثم أفرج عنه ليكمل مسيرته حتى لقي ربه بعد 85 عامًا من الجهاد في سبيل الله والاجتهاد الفقهي والعمل لخدمة دين الله، والله نسأل أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جناته".

وفاته

    انتقل إلى جوار ربه مساء يوم الأحد 23 من ذي القعدة 1420هـ الموافق 27/ 2 / 2000م عن عمر ناهز 85 سنة
 



المراجع

        1- عبدالله العقيل : أعلام الحركة الإسلامية، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
        2- محمود عساف: مع الإمام الشهيد حسن البنا، مكتبة جامعة عين شمس، ص (120-121).
        3- موقع الدكتور يوسف القرضاوي.
        4- مجلة الإخوان المسلمين الاربعينيات.